يؤكد كثير من الباحثين إخفاق الإنسان في السيطرة على عقله، لكن السؤال بحد ذاته عن قدرتنا على تعلّم السيطرة على عقلنا يحمل أبعاداً مختلفة، لأنه يفترض وجود نسبة معينة من السيطرة بدرجات متفاوتة، ما يعني أن الأفراد قد يختلفون وفق درجات هذا النطاق من التفاوت. كذلك، يُلمح السؤال إلى أن السيطرة على العقل مهارة، وبالتالي يمكن التدرّب عليها مثل المهارات الأخرى.حين نتكلم عن السيطرة على عقلنا، ماذا نعني بكلامنا فعلياً؟ إذا كنتم تقرأون هذه المقالة، يمكنكم أن تقرروا التوقف عن القراءة في أي لحظة وأن تنهضوا وتشربوا الماء. إنه أحد أشكال السيطرة على العقل. لكن هل تتطلب السيطرة على العقل أن نسيطر على أفعالنا العلنية كما حصل في المثال السابق؟ ماذا عن السيطرة على الانتباه أو السيطرة على العواطف؟ بدرجات متفاوتة، يمكن أن يقرر كل واحد منكم توجيه انتباهه على قدمه اليمنى وملاحظة الأحاسيس الموجودة في هذه المنطقة من الجسم. قد تلاحظون بعض الوخز أو الضغط أو الدفء ويمكن أن تعزلوا هذه الأحاسيس في القدم اليمنى بدرجات متفاوتة من النجاح. هل تولد معنا هذه القدرة بالفطرة أم أنها تتطور مع اكتساب النضج؟ هل ترتبط بتطوّر مسارات معينة في الدماغ؟ إلى أي درجة تكون الاختلافات الفردية المتعلقة بهذه القدرة موجودة في مرحلة مبكرة من الحياة وما هي التأثيرات البيئية والجينية التي تعدّل هذه القدرة؟ إنها أسئلة مهمة تتطرق إلى الموضوع العام المتعلق بقدرتنا على تعلم التحكم بعقلنا. للإجابة عنها، لا بد من معاينة النتائج العلمية التي شملت مجموعة متنوعة من المجالات المرتبطة بشكل غير مباشر بسؤالنا المحوري.اعتبارات متعلقة بالنموهل يستطيع المواليد الجدد السيطرة على عقولهم؟ عند التفكير بهذا السؤال، سيجيب معظم العلماء بالنفي طبعاً. لا تكون الآلية العصبية اللازمة لفعل ذلك قد نضجت بعد لدى الأطفال كي يسيطروا على عقلهم طوعاً. على سبيل المثال، يمكن لفت انتباههم بدل توجيههم. الحوافز هي التي تحرك عواطفهم بدل تعديلها طوعاً. ربما من المنطقي أن نفترض أن السيطرة الطوعية على العقل تتطلب توافر كفاءة معينة وأن تلك الكفاءة قد تكون قدرة فطرية لدى البشر مثل اكتساب اللغة، لكنها لا تكون موجودة عند الولادة وتتطلب نضج أنظمة عصبية معينة تشمل قشرة الفص الجبهي. تشهد هذه المنطقة الدماغية نمواً بطيئاً ولا تصبح ناضجة بالكامل من الناحية التشريحية حتى منتصف العشرينات. بما أن قشرة الفص الجبهي ضرورية لتحسين قدرتنا على السيطرة على العقل، يشير هذا الواقع إلى وجود تغييرات في النمو تؤثر في قدرتنا على التحكم بعقلنا ولا تبلغ التغييرات المستويات التي يسجلها الشخص الراشد قبل فترة من الزمن، بعد مرحلة المراهقة على الأرجح.تشتّت العقل والتحكم الطوعيلاحظ علماء الأعصاب أن المشاركين الذين يقفون أمام مهمات معرفية صعبة وأنماط تفعيل معينة للرد على تلك المهمات يكونون في حالة تشبه السيطرة على الذات في فترة الراحة، فلا تنشط مناطق دماغية معينة فحسب بل يتوقف نشاط مجموعة أخرى من المناطق الدماغية. في دراسات مماثلة تشمل تصوير الدماغ، حصل تباين بين حالتين لعزل نشاطات الدماغ المعنيّة بتلك المهمة. يشير توقف تلك النشاطات خلال المهمة إلى أن المناطق المعطّلة كانت أكثر نشاطاً خلال فترة الراحة. وفّر هذا الأمر أول مؤشر على أن الدماغ في «فترة الراحة» يُظهر نمطاً منظّماً من النشاطات، حمل اسم «الوضع الافتراضي». يشير وجود هذا النوع من النشاطات إلى عدم صوابية فكرة أن الدماغ يكون هادئاً إلى أن تأتي مهمة معينة لتنشيطه. حتى أبسط الدراسات قد تشير إلى وجود نشاطات عقلية باطنية داخل العقل الذي يبقى ناشطاً حتى عندما لا نقوم بجهود كبيرة ونكتفي بالإصغاء إلى حوارنا الداخلي. تشير أحدث الدراسات إلى أن هذا «الحديث العقلي» يرتبط بالوضع الافتراضي وأنه عبارة عن تأمل ذاتي في شأن الماضي والمستقبل. وجدت دراسة حديثة تستعمل تدابير مبنية على اختبار العينات أن الشخص الأميركي الراشد العادي يمضي 47% من وقته في فترة اليقظة وهو في حالة تشتّت العقل، ما يعني عدم ضرورة القيام بمهمات يدوية لتشغيل العقل. كذلك، تترافق الفترات التي يتشتّت فيها الدماغ مع مؤشرات حزن. يستنتج العالمان كيلينغوورث وغيلبرت أن «العقل البشري يتشتت بطبيعته ويكون العقل المُشتَّت غير سعيد. القدرة على التفكير بأمر لا يتحقق إنجاز معرفي ولكنه يترافق مع كلفة عاطفية». هل هذه الحالة حتمية؟ هل يمكن أن نتعلم كيفية تخفيف تشتّت العقل والسيطرة على عقلنا؟تشير هذه النتائج بكل بساطة إلى أننا لا نسيطر على عقولنا خلال جزء مهم من فترة اليقظة لأن حالات تشتت العقل عملية غير إرادية على ما يبدو. عقولنا تتشتّت تلقائياً. نحن لا نختار في العادة أن نشتّت عقولنا.اختلافات فرديةذكرت الأبحاث الآنف ذكرها أن تشتت العقل يختلف من شخص لآخر. لكن يتعلق الجانب الآخر من تشتت العقل بالسيطرة العقلية، وتبين النتائج أن البعض لديه سيطرة أكبر من الآخرين. في دراسات حول «الوضع الافتراضي» لوظيفة الدماغ، اكتشف العلماء أن الناس الذين يتحدثون عن تشتت عقلهم يكون نشاطهم أكبر في مناطق «الوضع الافتراضي» التي تنشط في عمليات السرد الذاتي. بسبب تلك الاختلافات الفردية، يتعزز احتمال أن يكون بعض الاختلافات بين الناس ناجمة، جزئياً على الأقل، عن جهود التعلّم.مهارة ذكر ويليام جيمس (1890) في فصله الشهير عن الانتباه في كتاب «مبادئ علم النفس» (Principles of Psychology): «القدرة على استعادة التركيز طوعاً بعد تشتت العقل، مراراً وتكراراً، هي أساس الحُكم والشخصية والإرادة. لا أحد يستطيع التحكم بنفسه ما لم يكن يتمتع بتلك القدرة. التدريب الذي يحسّن هذه القدرة يعكس معنى التعليم الحقيقي. لكن من الأسهل أن نعرّف هذه العملية بدل تقديم توجيهات عملية لإتقانها».تثقيف الانتباه خاصية أساسية للسيطرة على العقل. إذا استطعنا السيطرة على انتباهنا بفاعلية، يمكن اكتساب عدد من الجوانب الأخرى للتحكم بالعقل بنجاح. يمكن أن ننظر إلى السيطرة على الانتباه كأساس مهم ترتكز عليه جوانب أخرى من السيطرة العقلية مثل السيطرة على العواطف.ما هو الدليل على أننا نستطيع أن نتعلم السيطرة على انتباهنا؟ من الضروري في هذا المجال أن نذكر تقنيات توفرها ممارسات التأمل التي تتعلق أساساً بتدريب الانتباه. رسخت الأبحاث العملية التي تتمحور حول السلوكيات وعلم الأعصاب خلال السنوات الخمس الماضية بكل وضوح احتمال تدريب مختلف جوانب الانتباه عبر تمارين تأمل بسيطة لتنبيه العقل. تتحول الممارسات إلى مهمات نموذجية لتقييم العناصر الفرعية للانتباه، وهي ترتبط بالتغييرات الحاصلة في وظيفة الدماغ. يتعلق أحد الأمثلة في أبحاثنا بتعلّم الانتباه الانتقائي، أي القدرة على التركيز على غرض معين وتجاهل مصادر الإلهاء الأخرى. اختبرنا المشاركين قبل وبعد فترة نقاهة مطولة دامت ثلاثة أشهر حيث كانوا يمارسون جلسات من التأمل العميق بشكل يومي، وقارنّاهم بجماعة مرجعية بدأت تتعلم تلك الممارسات لتوها. وجدنا تحسناً ملحوظاً في قدرة المتأمّلين على تركيز انتباههم انتقائياً على حوافز معينة مقارنةً بالجماعة المرجعية. كذلك كانت التغييرات السلوكية متوقعة نتيجة تبدلات معينة في وظيفة الفص الجبهي الدماغي التي تم قياسها قبل فترة نقاهة لثلاثة أشهر وبعدها.تشير النتائج إلى أننا نستطيع تعلّم السيطرة على انتباهنا وبالتالي تعلّم السيطرة على عقلنا، ما يقودنا إلى الفكرة القائلة إن العقل يجب أن يُعتبَر مهارة يمكن تحسينها عبر التدريب.خلاصة واستنتاجاتتختلف القدرة على التحكم بالعقل في مختلف فترات النمو وتختلف بين الأفراد. توفر لنا الاختلافات خلال مرحلة النمو مؤشرات حول الآلية العصبية الضرورية لتنشيط العقل، وهو شرط مسبق للسيطرة على العقل. يبدو أن مناطق قشرة الفص الجبهي ضرورية لهذه العملية ولكنها لا تنضج بالكامل قبل منتصف العشرينات. يختلف الراشدون بدورهم في قدرتهم على التحكم بالعقل، على الأرجح بسبب عوامل كثيرة تشمل التأثيرات الجينية والتجريبية. تشتت الدماغ هو الجانب الآخر من عملية السيطرة على الدماغ ويبدو أنه يحصل بشكل غير إرادي. يرتبط بالوضع الافتراضي لوظيفة الدماغ ويترافق عموماً مع حالات من الانزعاج، وقد يكون الأمر نتيجة عدم التنبه إلى المهمة التي يقوم بها الفرد.صحيح أن هذه الحالة قد تكون نموذجية لدى الراشد العادي في مجتمعنا، لكنها ليست حتمية. بل تعتبر الدراسة أننا نستطيع جميعاً تعلم السيطرة على عقولنا. البشر لديهم القدرة على تعلم السيطرة على عقولهم ويجب أن تترافق عملية التعلم مع تراجع ظاهرة تشتت العقل وإحداث تغييرات مناسبة في وظيفة الدماغ حين يكون في الوضع الافتراضي. يبدو أن القدرة على التركيز على اللحظة الراهنة في ظل غياب مصادر إلهاء أخرى مفيدة جداً ويتحدث الناس في هذه الحالة عن زيادة الآثار الإيجابية عند حدوث ذلك. ويبدو أن نسبة كبيرة من البشر لديها نزعة إلى وضع نفسها في مواقف صعبة و/أو خطيرة لأجل تركيز كامل الانتباه على أمر معين، ما يعني فعلياً إلغاء تشتت العقل ولو لفترة موقتة. يعتبر الناس أن هذه التجارب تكون إيجابية جداً وهي تُسمى غالباً عملية «التدفق».أحد أهم جوانب الرأي المطروح في الدراسة واقع أننا لا نحتاج إلى وضع أنفسنا في مواقف صعبة وخطيرة مماثلة لعيش تجربة «التدفق». نوعية الوعي الذي يعني عيش الحاضر بالكامل مهارة يمكن اكتسابها، ولا تتطلب سياقاً أو تحدياً معيناً للتعبير عنها. على ضوء الفترات الحساسة المعروفة باسم «المرونة العصبية» في مرحلة مبكرة من الحياة، تشير المعطيات إلى ضرورة تطبيق التدريبات للسيطرة على العقل في أولى سنوات الحياة، تزامناً مع نمو قشرة الفص الجبهي. قد يستفيد التدريب المبكر من ارتفاع المرونة العصبية التي تكون حتمية في هذه المرحلة وتؤدي إلى تغييرات دائمة في قدرتنا على التحكم بالعقل. الأبحاث التي ركزت على هذه المسألة ضرورية جداً وإذا كانت نتائجها تشبه تلك التي توصلنا إليها هنا، ستشكل النتائج أساساً مهماً للدعوة إلى إضافة وسائل تدريب العقل بهذه الطريقة إلى المنهج الدراسي في المرحلة الابتدائية ومرحلة ما قبل المدرسة. من المتوقع أن يعطي الاستثمار المتواضع في القدرة العقلية لأولادنا ثماره بطريقة مضاعفة في مرحلة لاحقة من الحياة نتيجة تحسّن أداء الفرد الراشد استناداً إلى التدريب الذي تلقّاه في مرحلة مبكرة من حياته. لتحقيق هذه النتيجة، لا بد من إدارة الموارد المتوافرة لإخضاعها لاختبارات علمية جدية.
توابل - Hi-Tech and Science
هل تستطيع السيطرة على عقلك؟
09-03-2013