من الخارج، يتم التقليل من شأن الأزمة اليونانية المالية وحصرها بسلسلة مرهقة من الكفالات المالية والمواعيد الصارمة والاحتجاجات، إلا أن الناس الذين يرزحون تحت ثقل التداعيات اليومية، باتوا يرون في الأزمة هذه تهديداً وجودياً يثير تساؤلات جوهرية حول هويتهم كيونانيين.

تؤدي الأسئلة والأزمة نفسها دوراً أساسياً في ثلاثة أفلام يونانية قدّمت عرضها الأول في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وكلّها أفلام تستكشف آثار الأزمة الثقافية والنفسية والشخصية مع أن كلّ فيلم يتبّع نهجاً مختلفاً لطرح الموضوع ومناقشته. من فيلم الخيال العلمي الوثائقي «To the Wolf» (الى الذئب)، مروراً بالفيلم السوريالي « The Eternal Return of Antonis Paraskevas» (عودة انطونيس باراسكيفاس)، وصولاً إلى فيلم «The Daughter» (الابنة)، موضوع واحد يطرح نفسه بإلحاح: الأزمة الاقتصادية والواقع المرير الذي يعصف باليونان.

Ad

لا شكّ في أن فيلم To the Wolf يطرح صورةً قاتمةً أكثر من الفيلمين الآخرين إذ يروي قصة حقيقية لحياة عائلتين من الرعاة يعيش أفرادهما في جبال منطقة نافباكتيا الغربية المحرومة.

تسمع الراعي المسنّ الواهن آدم باكسنيكس يغمغم في بداية الفيلم: «انتهت بلاد اليونان. لقد ماتت. الكلّ يعاني. إنهم يحاربون من أجل قضية خاسرة». لا تتحسن الأمور كثيراً في ما بعد في الفيلم الذي يستعمله المخرجان كريستينا كوتسسبيرو وأران هوغز لوصف «حكاية اليونان العصرية المشوشة» على حدّ قولهما.

في خلفيات بائسة تنقل صور ريف قاسٍ لا جدوى من العيش فيه، أو منازل قذرة مظلمة، استهلكت الأسرتان، اللتان اعتادتا على الحياة الفقيرة، ما لديهما من مدخرات وبدأ أفرادها يعانون من حاجات المواشي المتناقصة ومن قلة الموارد. توثّق المشاهد حوارات عن الديون والحيرة بين ادخار ما بقي من مال أو إنفاقه على التدخين والمتعة. تتطور الأحداث المأساوية نحو مزيد من المعاناة فتعجز الأسرتان حتى عن شراء الطحين.

منذ بدأ المخرجان تصوير الفيلم في العام 2010 وحتى نهاية العمل في 2012، زاد وقع الأزمة على العائلتين ليبلغ حدّه الأقصى وتؤكد مساعدة المخرج كوتسو سبيرو أن الشخصيات جميعها خسرت وزناً.

لم يقتصر الكفاح على تلبية الحاجات الأساسية تقول كوتسو سبيرو: «ثمة عوامل نفسية وراء الأزمة وقد حاولنا أن ننقل المشاعر الدفينة فيها، أي أن نعكس بفيلمنا دوامة الهبوط جسدياً ونفسياً على السواء»، وتضيف أن مشاعر اليأس تسود في البلاد كلّها بشكلٍ عام.

أمجاد الماضي

تشكّل «الأزمة الاجتماعية» جزءاً من العوامل التي ألهمت المخرجة إلينا بسيكو لكتابة The Eternal Return of Antonis Paraskevas وهي دراما تحكي قصة البطل التلفزيوني المسنّ أنطونيس باراسكيفاس وكيف خطط شخصياً لخطفه بدافع التهرّب من ديونه ولزيادة نسبة مشاهدة برنامجه التلفزيوني الصباحي.

من فندقٍ فخم تحول لاحق الى سجنٍ كبير يتابع البطل على الشاشات آخر أخبار خطفه ويعيد كذلك مشاهدة أفضل إطلالاته التلفزيونية بما فيها إطلالة ليلة رأس السنة في العام 2001 حين انضمت اليونان الى اليورو. ومن غرفته في الفندق كذلك بدأ البطل يفقد صوابه.

تقول بسيكو: «كان هدفي في الفيلم التركيز على الأزمة الوجودية وعلى افتقار البطل إلى الهوية. أعتقد أنّ المعضلة هذه باتت أمراً شائعاً في أيامنا هذه. الكثير من الناس كانوا يملكون مبالغ ضخمة وخسروا أعمالهم وتوقفت معاشاتهم أو فقدوا منازلهم. خسر هؤلاء كل شيء ففقدوا هويتهم تماماً كما خسر وطني هويته».

ويشبه هوس باراسكيفا بأمجاد شخصيته الشهيرة تعلّق اليونان بأمجاد ماضيها وتعظيم الأبطال فيها ونلاحظ الهوس هذا في كلّ شيء وليس في الشخصية فحسب، بل في الحياة اليومية بأدّق تفاصيلها، على حدّ قول مخرجة الفيلم التي تقول عن الفيلم إنه «فكاهة قاتمة يعكس هباء الجهود التي تبذل لتحقيق أمجادٍ لن تعود».

تدابير يائسة

وقد تفقد الجهود الأمل، كما يُظهر المخرج تانوس أناستوبولوس في فيلمه The Daughter الذي يروي قصة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تلوم شريك والدها على إفلاس الأخير فتقرر خطف ابنه البالغ من العمر ثماني سنوات وتجبره على تسديد ديونه.

يصوّر الفيلم أزمة اليونان فينقل صور الاحتجاجات في شوارع أثينا والتي ولّدت مشاعر متناقضة لدى عددٍ كبير من اليونانيين. أراد أناستوبولوس اكتشاف أثر ما يحصل في الشارع على الشباب. ويقول: «بما أنني كنت أباً شاباً، تحوّلت نظرتي إلى أثر العنف والتوتر على الأطفال وعلى العلاقة بين الأجيال. الجيل الحالي يختبر العنف. ظروف اليوم أشدّ قساوةً، وفي الأوقات القاسية، يميل الناس إلى اتخاذ خياراتٍ قصوى».

تحوّل الفيلم الذي يطرح موضوعي المسؤولية والخيانة إلى كابوسٍ يقلق المخرج ويعكس هواجسه الدفينة.

لم يكن المخرجان يريدان التركيز على الأزمة الاقتصادية بهذا الشكل، ما كانا ينويان إعطاء هذا الامر المساحة البارزة في الفيلم. فقد بدأ الأمر بوصفٍ غير رومنسي لجيل الرعاة اليونانيين الأخير. يضيف المخرج المساعد أران هوغو: «مع تقدّمنا في العمل، وجدنا نفسنا عاجزين عن تجنّب الأزمة». كان من المفترض أن تصور مشاهد الفيلم في محيط مقهى محلي ولكن المقهى أقفل بعدما أملت الإصلاحات الاقتصادية على مالكه المسنّ تقديم سجلات مفصلة عما يقدّمه لزبائنه من بضاعة وخدمات.

يعلّق هوغز: «من حيث لا ندري شعرنا أننا في وسط المعمعة الاقتصادية وأدركنا أننا نستطيع توثيق الأمر عبر فيلمنا».

ولعل المحن الاقتصادية تولّد مزيداً من الابداع لدى صانعي السينما اليونانيين. وتقول بسيكو في هذا المجال: «ثمة تضامن اليوم بين صانعي السينما والفنانين ونحن نلمس ذلك بشكل كبير. لا شكّ في أننا نريد نقل القصة ولكننا نشعر كذلك برغبة في الاستمرار وعدم الاستسلام بكل بساطة!».