تأقلمنا منذ بداية الثورة السورية مع أجواء الرفض والإسقاط والرحيل للنظام ومكوناته، ودخلت العسكرة على الخط بعد شهور عدة من "السلمية" كرد فعل على عنف النظام وكوسيلة وحيدة للتصدي لإجرامه، وباتت أي دعوة للثبات على سلمية الثورة وإجراء الحوار لوقف النزف والدمار والانتقال السلمي للسلطة توصف بالتخوين، وتحولت المعارضة المتشكلة بالخارج إلى مجلس صقور ينهشون بلحم من يتمسك بهذا الخيار الوطني ومكانته وتاريخه، مستندين بذلك إلى رغبة دولية شبه مؤكدة لإزالة هذا النظام عبر القوة، حسب زعمهم.

Ad

لن نجلد الذات وننبش عن الأخطاء لكننا وصلنا اليوم إلى الطريق المسدود في جداري الصمت الدولي والعربي عما يحدث من إبادة للشعب السوري على يد نظامه، وأمسى المجتمع الدولي على تفاهم حول صيغة الحل التي تبدأ بالحوار كطريق وحيد لحل المسألة السورية.

ومن هذه الأجواء الباردة جاءت مبادرة معاذ الخطيب رئيس "الائتلاف الوطني السوري" المفاجئة لكي تكسر الصمت وتفتح ثغرة في الأفق السياسي للثورة، بل ترمي الكرة في ملعب النظام السوري الذي ما انفك يدعو إلى الحوار مع المعارضة واتهامها بالسلبية والإصرار على الخيار العسكري، وتحميلها كل ما آلت إليها الأوضاع في سورية، ويحسب لمعاذ الخطيب أنه قرأ المشهد المحيط بالثورة بمسؤولية وطنية بعيداً عن التشنج ولغة التحدي، متقدماً بذلك على أقرانه في الائتلاف المنتظرين لحدوث تحولات دراماتيكية على الأرض تمكنهم من إصدار موقف ما يحفظ مكانتهم في الثورة.

كما أسلفنا سابقاً بأن المجتمع الدولي لم يقدم للثورة سوى الوعود الفارغة، وهو الآن يمنع أي مساندة عسكرية كانت أم مادية عن الثوار، وباتت الحدود السورية تحت الوصاية الدولية تقريباً بحجة وقف المد الأصولي في الثورة، ولكن بالحقيقة هو الضغط على الأطراف المعارضة وحتى القابعين تحت القتل والحصار لقبول الحوار وحلول لا تتناسب وتضحيات السورين من أجل حريتهم, وها هو الرئيس أوباما يقول "سندعم بقوة مبادرة رئيس الائتلاف السوري"، وهذا يؤكد أنها لم تولد من فراغ إنما برغبة دولية وعربية عارمة لإيجاد حل سياسي وفق قرارات مؤتمر جنيف التي لا تنص على رحيل النظام.

ندرك ويدرك معاذ الخطيب أن هذا النظام غير قابل للتداول وأن استراتيجيته قائمة على المراوغة وكسب الوقت وجرّ معارضيه إلى حوارات لا تحقق سوى الإفلاس الشعبي والسياسي لهم عبر سياسة "اللف والدوران" التي يجيد لعبها مع معارضيه وخصومه، خصوصاً أن سقفها المنخفض يعطيه الفرصة لإجهاضها من خلال طلباته التعجيزية، وأولها ما صرح به وزير المصالحة الوطنية للنظام "طالبا تزويده بأسماء الـ160 ألف سجين الذين طالب بإطلاقهم معاذ الخطيب، وهو كمن يطلب أسماء الذين غرقوا في "طوفان نوح"، رغم أن العدد أكبر من ذلك بكثير، ولكنها ثقافة المناورة والتحايل وعدم الاعتراف.

لكل ثورة خطان المفاوضات والحراك، سواء السلمي منه أو العسكري، ولا يجوز مطلقاً تعطيل أحدهما على حساب الآخر بدعوى عدم الجدوى. ومعارضة الخارج بسوء إدارتها عطلت باب الحوار، وإن كان غير مجدٍ مع النظام أو حلفائه لكنه يسقط التهمة عنها بالعقم بل من صناعة خارجية ما انفك النظام يسوقها ضدهم، وبهذه الحالة تكون المعارضة قد هضمت مفهوم الثورة فعلياً.

"ديوك" الائتلاف بدأت بنتف ريش الخطيب بتهمة الخروج عن النص وأنها بريئة من مبادرته، وهذا يؤكد أن معاذ الخطيب "البراغماتي" الوحيد بهذا الائتلاف، والباقي إما مستفيد من استمرار الحال وإما مع العسكرة التي تؤمِّن له "الأسلمة " باعتبار أن خط الثورة عموماً يميل إلى "الروحانية"، وهذا مدخل مهم لحيازة السلطة فيما بعد.

المبادرة طرحت، والتجاذب بدأ، والمجتمع الدولي يعمل على حل توافقي بنصف دسم... وهذا يضع الثورة أمام خيارين: إما القبول وإما قلب المعادلة على الأرض... مع الإدراك أن الزمن ليس في مصلحة الثورة ولا الوطن.