طوال أكثر من عقد بعد أن حل فلاديمير بوتين محل بوريس يلتسين في الكرملين، وحتى خلال الفترة التي اضطر فيها إلى تولي منصب رئاسة الوزراء في ظل حكم دميتري ميدفيديف، تبنى الرئيس الروسي الحالي بطريقة منظمة ومتناسقة سياسة يمكننا وصفها بـ"عقيدة بوتين". باختصار، يسعى بوتين إلى تجديد مكانة روسيا ونفوذها في السياسات الإقليمية والعالمية على حد سواء، ما يعيد روسيا الاتحادية إلى موقعها كقوة عظمى. وبغية تحقيق هذا الهدف، يتحدى بوتين مواقف الولايات المتحدة ويعرقل مصالحها، معتمداً على ثلاثة عوامل رئيسة.

أولاً، نظم بوتين عملية بناء شاملة للقوات المسلحة الروسية، مستخدماً العائدات المتنامية التي تجنيها روسيا من موارد الطاقة، خصوصاً الغاز الطبيعي والنفط الخام. طوال الجزء الأكبر من تسعينيات القرن الماضي، انهمك صانعو السياسات الروس في العمل للحؤول دون انهيار البلاد سياسياً واقتصادياً، وكانت المؤسسة الدفاعية من أكثر المتضررين. فلم تُدفَع الرواتب وهُجرت القواعد العسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. كذلك تراجعت عمليات التدريب وتُركت المعدات الحساسة فريسة الصدأ. فانخفضت الجاهزية العملية إلى أدنى مستوياتها. ولكن منذ مطلع الألفية الجديدة، حين تسلم بوتين سدة الرئاسة للمرة الأولى، ازدادت الميزانية العسكرية في روسيا ثلاثة أضعاف. ويشير "معهد استوكهولم لأبحاث السلام الدولي" بأن هذه الميزانية تفوق اليوم التسعين مليار دولار وتشكل نحو 4.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.

Ad

ثانياً، نجح بوتين في استخدام عدد من المؤسسات لعرقلة أو إفشال مبادرات أميركية يعتبرها مضرة بالمصالح الروسية. على سبيل المثال، قبل حرب العراق عام 2003، نجحت روسيا في منع إدارة بوش من تمرير قرار في الأمم المتحدة يخولها استخدام القوة ضد صدام حسين. واليوم، مع تطور الأزمة السورية وسعي الرئيس الأميركي باراك أوباما للحصول على تفويض من الكونغرس لشن ضربة تأديبية محدودة ضد سورية، تستخدم روسيا بفاعلية حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كي تستبق الأمور وتعيق أي محاولة أميركية لمنح هذا الهجوم شرعية دولية. وتتبع روسيا نمط السلوك عينه في الوكالة الدولية للطاقة الذرية حين تُناقَش مسألة برنامج إيران النووي.

ثالثاً، شكل بوتين مجموعة من الدول التي تشاطره رؤيته الاستراتيجية الأساسية للنظام الدولي، تلك الرؤية المناهضة للولايات المتحدة. فقد أصبحت الصين حليف روسيا الأول في إحباط أهداف سياسة أوباما الخارجية. فمن المسألة الإيرانية إلى الأزمة السورية، ومن قمة كوبنهاغن لتغيرات المناخ لعام 2009 إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، تجلى التوافق الروسي- الصيني في التعامل مع الولايات المتحدة. فروسيا والصين ملتزمتان بتركيبة قوة عالمية متعددة الأقطاب تهدف في المقام الأول إلى الحد من قوة الولايات المتحدة العظمى وهيمنتها السياسية.

علاوة على ذلك، استغل بوتين النفور الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وحلفائها، على سبيل المثال، التقى خلال حرب العراق عام 2003 المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك مرات عدة كي ينسق معهما الخطوات المناهضة للحرب داخل الأمم المتحدة وخارجها. سعى أوباما في مستهل رئاسته إلى "إعادة ضبط" العلاقات بين واشنطن وموسكو. حتى إنه راجع بعض الخطط المثيرة للجدل بشأن نشر أنظمة صاروخية في أوروبا الشرقية، وذلك كخطوة لبناء الثقة واسترضاء بوتين. رغم ذلك، سلبت أهداف عقيدة بوتين الأساسية هذه الخطوات الأميركية فاعليتها ولم تحقق أي غاية غير تعزيز تصميم بوتين وصلابته.

يعتقد بوتين أن الولايات المتحدة تعاني تراجعا سياسياً واقتصادياً وتفككاً اجتماعياً. لاشك في أن بوتين يلاحظ قلق الشعب الأميركي وممثليه السياسيين في المسألة السورية. ويظن أن هذا دليل إضافي على ضعف الولايات المتحدة وتقلبها مع تنامي قوة روسيا ونفوذها.

بغض النظر عن احتمالات نجاح الاقتراح الروسي تفكيك مخزون الأسلحة الكيماوية السوري (مبادرة يظن بعض المراقبين أن هدفها زرع بذور الشقاق بين البيت الأبيض والكونغرس والشعب الأميركي)، برهن بوتين عن مهاراته الدبلوماسية ومصالحه الاستراتيجية باستعادته تدخل روسيا في السياسات الشرق أوسطية. فبوقوف موسكو إلى جانب حكومة بشار الأسد وإرغام أوباما على التفكير ملياً قبل اتخاذ أي خطوة، برهن بوتين عن مقدراته القيادية الشخصية وتصميمه واستعداده لمواجهة الولايات المتحدة. ويجب أن نتوقع رؤية المزيد من هذه العقيدة قيد التطبيق، ربما في المسألة الإيرانية.

انتهت الحرب الباردة قبل أكثر من عقدين، إلا أن بوتين أعاد إحياء بعض أوجه الإمبراطورية السوفياتية. وتُعتبر عقيدته مفتاح هذا النجاح. ومن الضروري أن تدرك إدارة أوباما أن أهداف بوتين تتعارض تماماً مع معظم المصالح الأميركية، وأن تضع عقيدة خاصة بها للتعاطي معه، إن كانت تأمل صون المصالح القومية الأميركية على الأمد الطويل.

* بروفيسور مساعد زائر في جامعة كلارمونت ماكين.