إذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أنها يمكن أن تقود العالم من غير أن تدفع أثماناً أو تخاطر برجال، فهي مخطئة بكل تأكيد.ويبدو أن الرئيس أوباما المتردد في اتخاذ القرارات وصاحب المنحى الأكاديمي في السياسة، كان يعتقد حتى الآن أن بوسعه إبقاء الزعامة الأميركية في مكانتها بينما ينفذ استراتيجيات خروج من العراق وأفغانستان ومحاولات التفاف على استحقاق "الخطوط الحمر" بعدما قطع وعداً بأنها واجبة الاحترام. ولا ندري كيف أن الرئيس الأميركي ظن أن بإمكانه الانكفاء إلى الداخل والتركيز على إنعاش الاقتصاد وخفض البطالة وتحسين قدرة المستهلك الأميركي، في حين تدعي إدارته أنها محركة الاقتصاد العالمي وقائدة العالم الحر والحارسة للقيم الحضارية والرادعة لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية.الولايات المتحدة اليوم على محك التجربة من جديد. وستظهر الأيام القليلة المقبلة مدى قدرتها على ممارسة دورها القيادي في تعاطيها مع أزمة الجريمة الكيماوية التي ارتكبها النظام السوري. فإما أن تتخذ قرارات جديرة بدور الدولة الأولى في العالم صاحبة الرؤية والمصالح والتحالفات، وإما أن تعترف بأنها هرمت وباتت عاجزة عن الوفاء بمتطلبات هذا الدور فتتنحى جانباً وتجنب مَنْ يراهن عليها كلفة هذا الرهان.ويفترض بالنقاش المنتظر في الكونغرس الأميركي وما يترتب عليه إزاء التحرك العسكري في اتجاه سورية أن يرسما مستقبل الدور الأميركي وموقع الولايات المتحدة. فغير مقبول أن تتنطَّح واشنطن لقيادة العالم في حين أنها غير مستعدة للتضحية بالمال والأرواح. وغير مقبول أن تتصرف في بدايات الثورة السورية وكأنها حاضرة للمساعدة، فتطالب بشار الأسد بالتنحي، ويرافق سفيرها في دمشق المتظاهرين في مدنهم، ثم تأتي لتتذرع بتكلفة التدخل وانعكاساته على عودة النمو الاقتصادي، أو لتتذكر "عوارض فيتنام" وإخفاقات المغامرة العراقية التي كلفتها آلاف القتلى بفعل القرارات الخاطئة والقراءات الناقصة لواقع المنطقة وتاريخها.وللعلم فإن الولايات المتحدة لم تتربع على عرش العالم إلا لأنها اتخذت القرارات الكبرى ودفعت التضحيات الجسام. فهي خاضت الحرب العالمية الثانية بالمال والرجال إلى جانب الحلفاء، وهي صاحبة مشروع مارشال التاريخي، وهي التي احتضنت دول الاتحاد السوفياتي السابق بعد سقوط جدار برلين وألحقتها بحلف شمال الأطلسي بعدما أغدقت عليها الأموال.لا يجوز اليوم لواشنطن أن تقول: أنا زعيمة العالم لكن عليكم التمويل. فالزعامة لها متطلبات. وهي لا تمارسها كرامةً لعيون الشعوب الأخرى أو لعيون السوريين المظلومين والمكلومين، إنها أولاً وأخيراً مصلحة أميركية. والمصلحة الأميركية تبدأ من النفوذ والقوة وتنتهي بالعقود التجارية والاستثمارات وأسواق المستهلكين.لا أحد يشجع على تدخل عسكري أجنبي في أي بلد عربي أو غير عربي. لكن المرض الذي استفحل في سورية يستوجب جراحة يمسك مبضعها القائد الأميركي. فإما أن يمارس هذا الدور المدعوم من أكثرية الدول العربية والإسلامية ومن المجتمع الدولي، والذي تطالب به المعارضة السورية بالتحديد، فيقوم بواجبه بلا تردد وبحيث لا تكون الضربة العسكرية مجرد جراحة تجميلية للنظام السوري، وإما أن يعلن عجزه ويترك الآخرين يعيدون حساباتهم ويعدلون شكل تحالفاتهم وفقاً لمصالحهم.أيها الأميركيون، إدارتكم تقود العالم ولستم الشرطي. نفهم ذلك. لكن القيادة تتطلب التضحية والجرأة. فإما أن تكونوا على مستوى الحدث التاريخي أو ضعوا قيادتكم في ذاكرة التاريخ.
آخر الأخبار
افتتاحية: واشنطن وثمن القيادة
04-09-2013