إذا أردت أن تحدد سياسة أحد الرؤساء الأميركيين الخارجية، خصوصاً في ولايته الثانية، فلا تصغِ إلى خطاب "حالة الاتحاد" الذي يلقيه، فقد يحالفك حظ أكبر إن لجأت إلى التنجيم والتبصير بالورق أو بأوراق الشاي.

Ad

لكن الوضع يختلف هذه السنة، فقد تضمن خطاب "حالة الاتحاد" الرابع الذي ألقاه أوباما إشارات بسيطة بشأن سياسته الخارجية تقودنا مباشرة إلى خلاصات واضحة، وإن لم تكن مفاجئة أو ثورية. لم يحقق أوباما خلال ولايته الأول أي نجاحات باهرة (باستثناء قتل أسامة بن لادن)، لكنه لم يعانِ أيضاً إخفاقات ساحقة. ومن المرجح أن يكتفي بالوضع عينه خلال ولايته الثانية، رغم أن العالم العربي يحترق، والدول المارقة (مثل كوريا الشمالية وإيران) تطور أسلحة جديدة، فهو رجل حذر أولاً وأخيراً.

انتبهوا! ها هو المحرر الأكبر!

كانت أفغانستان، "الحرب الصالحة"، شبه غائبة عن خطابات أوباما منذ أن أصبح رئيساً، فقد اكتفى بالتحدث عن هذه المهمة ببضع كلمات (2009) أو بمقطع (2010، و2011، و2012). ومع أن كلامه كان مقتضباً، بدت الرسالة جلية: ضرورة الانسحاب. ولا يُعتبر خطابه قبل أيام استثناء، فلم تمر سوى دقيقتين قبل أن يبدأ الرئيس بالتحدث عن عودة الرجال والنساء الأميركيين من أفغانستان إلى الوطن.

لا شك أن أوباما بتصرفاته هذه يظهر بمظهر المحرر، فقد أدرك ما عليه فعله منذ البداية (يبدو أن زيادة عدد الجنود عام 2009 صُممت سياسياً لتتيح له الدخول كي يتمكن من الخروج بعيد ذلك بضمير مرتاح). وهكذا أصبح أوباما الرئيس الذي خفف من حدة أطول الحروب وأقلها مكاسب في تاريخ الولايات المتحدة، حرب لا يحدَّد فيها الانتصار بما إذا كنا نستطيع الفوز، بل متى نستطيع الخروج. هذا هو إرثه الذي يستطيع أن يفتخر به بكل تأكيد. تكتم أوباما وقادته العسكريون حول سرعة الانسحاب، ولكن لا ضرر في ذلك ما داموا يتوجهون نحو المخرج.

ليس مدمر عوالم أو بانيها

يا للعجب! لم يكد أوباما يأتي على ذكر سورية في خطابه، فقد خصص لها سطراً عابراً عن دعم المعارضة السورية، فلم ينهِ أوباما تدخلنا في العراق وأفغانستان ليُغرق الولايات المتحدة في ثقوب سوداء جديدة في الشرق الأوسط.

لم يقلق أوباما بشأن نشر الجنود على الأرض في سورية، ولم يكن هذا الخيار يوماً مطروحاً، لكن المسألة الأهم تبقى: نظراً إلى الغموض الذي يلفّ نهاية الدولة في سورية ومخاطر مد الثوار بأسلحة فتاكة (وفرض منطقة حظر جوي) قد تُبدل مسار القتال ضد النظام، لم يرَ الرئيس (ولن يرى) أي هدف من تقديم الولايات المتحدة للثوار سلاحاً فاعليته محدودة. فسيجعله هذا المسار يبدو ضعيفاً حقاً وغير كفؤ أو يدعو إلى المطالبة بتقديم المزيد، لذلك قرر أوباما مد الثوار بدعم غير مميت، ويبدو أنه مستعد لتحمل الضربات من النقاد الذين يعتبرون سياسة الرئيس سلبيةً، قاسيةً، ولا ترحم، خصوصاً اليوم بعد أن علمنا أن أعضاء حكومته يريدون اتخاذ خطوات إضافية.

اتخذت المخاوف بشأن برنامج إيران النووي، الشرك المحتمل الآخر في خطاب "حالة الاتحاد"، خطاً تصاعدياً متوقعاً في لائحة مصادر القلق في السياسة الخارجية الرئاسية. ففي عام 2009، لم يذكر أوباما إيران البتة في خطاب ألقاه في جلسة مشتركة في الكونغرس (يعتبره كثيرون خطاب "حالة الاتحاد" آنذاك). أما في خطابه عام 2010، فحذر أوباما من عواقب تجاهل إيران التزاماتها الدولية. وفي عام 2011، كرر التحذير عينه. أما في عام 2012، فقد أوضح أنه سيمنع إيران من تطوير سلاح نووي وأن كل الخيارات مطروحة على الطاولة.

كرر أوباما يوم الثلاثاء نصف ما قاله عام 2012 عن منع إيران من الحصول على سلاح نووي، ولكن بدل أن يقول إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، تحدث عن أهمية الدبلوماسية. أعتقد أنه سيبذل قصارى جهده ليتفادى الحرب، ولن يعطي الضوء الأخضر لضربة إسرائيلية إلا بعد أن تُستنفد كل الوسائل الدبلوماسية. حتى في تلك المرحلة، لن يتخذ أوباما أي خطوة على الأرجح، إلا إذا استفزه الملالي بتسريع عملية تخصيب اليورانيوم وغيرها من الأوجه العسكرية لبرنامجهم النووي.

السير قدماً لخفض

الترسانة النووية

صحيح أن أوباما يواجه قنبلة حقيقية في كوريا الشمالية (خيارات بالغة السوء هناك) وأخرى محتملة في إيران (خيارات سيئة هنا أيضاً)، لكنه يحاول التمسك بالتزامه القديم بتخفيض الترسانة النووية الأميركية. يحظى أوباما في هذه الخطوة بدعم القادة العسكريين والشعب على الأرجح (التخلص من الأسلحة النووية يوفر المال)، إلا أنه يواجه معارضة من الجمهوريين في الكونغرس، لكنه سيحاول تخطي العقبات السياسية بالسعي إلى عقد صفقة مع... نعم... خَمَنتم... صديقه القديم فلاديمير بوتين. لا ضرر من المحاولة، فإن تراجع بوتين أو اعترض الجمهوريون طريقه، يستطيع الرئيس الترويج لتخفيضات أحادية الطرف، مع أنه لا يحبذ خطوة مماثلة، وإن لم يتمكن تحقيق أهدافه بشأن الأسلحة النووية، فبإمكانهم دوماً لوم الروس أو الجمهوريين، في حين أنه هو لم يتكبد أي خسائر. لا شك أن الطريق نحو التخلص من الأسلحة النووية طويل. لندع الرئيس (الرئيسة) التالي يقلق بشأنه.

التعاطي بجرأة مع

القضية الفلسطينية؟

لم يذكر أوباما الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في أي من خطابات "حالة الاتحاد" منذ عام 2009، ولا عجب في ذلك، فجهوده الأولى غير المدروسة في هذا الشأن تحطمت وانهارت، ما جعل الرئيس يستاء وينزعج من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، خصوصاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

لكن هذا جزء في الماضي، فقد قرر رئيس الولاية الثانية القيام برحلة إلى إسرائيل في مطلع عام 2013، فضلاً عن ذلك، اختار وزير خارجية يتحلى بطاقة كبيرة، جون كيري، وهو مصمم على فعل الصواب وإبقاء حل الدولتين حياً.

من الواضح أن أوباما رفض التطرق مرة أخرى إلى هذه القضية يوم الثلاثاء الماضي، فقد تحدث عن الوقوف إلى جانب إسرائيل لإحلال السلام، بيد أنه لم يأتِ على ذكر الفلسطينيين أو مسيرة السلام، ومع أنه تحدث عن رحلته الخاصة إلى الشرق الأوسط، ضيّع فرصة إعطاء جولة قد يقوم بها وزير خارجيته الجديدة إلى المنطقة أهمية أكبر.

كان من الممكن أن يكون الوضع أسوأ. تكمن معضلة القضية الإسرائيلية-الفلسطينية في أنها أكثر تعقيداً من أن تُحَلّ الآن وأكثر أهمية من أن تُنسى، وفي هذا الجو العام على أوباما أن يعمل. ومع أن احتمال النجاح ضئيل، سيميل أوباما خلال ولايته الأخيرة إلى اتخاذ خطوات جريئة، فقد يضع، مثلاً، خطة أميركية مفصلة عن مسائل "الوضع النهائي" الرئيسة.

الطبقة الوسطى لا الشرق الأوسط

تنبيه هام! قد يُعتبر أوباما رئيساً بارعاً في السياسة الخارجي إن حالفه الحظ وتحلى بالإرادة والمهارات الكافية، لكن ما سيحدد مدى نجاح عهده الرئاسي أو إخفاقه يبقى إرثه المحلي. سيبدو برنامج الرعاية الصحية (علامته المميزة) أفضل بكثير، إذا تحسّن الاقتصاد بفضل إنعاش سوق العقارات وانخفاض البطالة، فضلاً عن السعي لعقد صفقة أشمل بشأن الضرائب والمخصصات. علاوة على ذلك، يمكن لإصلاح قانون الهجرة وتعديل قانون ضبط الأسلحة، اللذين يعتمدان على شراكة فاعلة بين الحزبين، أن يعززا إرثه. لذلك يُعتبر أوباما رئيساً تاريخياً أكثر منه عظيماً.

نُلاحظ عداً عكسياً في مسألتين مهمتين في ولاية أوباما الثانية: السعي إلى ترسيخ إرثه وحقيقة ضعفه السياسي. لا شك أن رأس مال أوباما السياسي سيتضاءل بسرعة؛ لذلك يُعتبر ما يريد إنفاقه من رأس المال هذا وكيف وأين يرغب في ذلك مسألة بالغة الأهمية. الشرق الأوسط منطقة عنيفة، وكثيرة الاضطرابات، وقد تغرقه في مستنقعاتها؛ لذلك سيحاول أوباما جاهداً تفاديه، وقد شدّد أوباما في خطاب "حالة الاتحاد" الأخير على إصلاح المنزل الأميركي المخرَّب، لا التنقل حول العالم لإصلاح منازل دول أخرى. فلا يكمن مستقبل الولايات المتحدة في القاهرة أو دمشق، بل في شيكاغو وديترويت.

* آرون ديفيد ميلر | Aaron David Miller ، نائب الرئيس وباحث بارز في مركز "وودرو ويلسون" الدولي، وعمل محللاً لشؤون الشرق الأوسط ومستشاراً ومفاوضاً في وزارات الخارجية الأميركية الجمهورية والديمقراطية بين عامَي 1978 و2003.