كان الجد لين الثامن أرمل من دون أولاد، وافت المنية زوجته منذ ردحٍ من الزمن، ولذلك لن يستوفي الشروط المطلوبة للحصول على الضمانات الخمس: الطعام، والثياب، والعناية الطبية، والمسكن، وتكاليف الدفن. لم يظن قط أنه سيحظى بعمر 63 سنة على موقع رسمي في فريق الإنتاج؛ مراقبًا للمحصول.كانت مهمة مراقب المحصول حراسة الغلال، أي منع سرقة المحصول الناضج في الفترة التي تسبق حصاده. في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، عندما كان الفلاحون يتناولون وجباتهم الثلاث في مطابخ جماعية، كانوا يتضورون جوعًا على الدوام تقريبًا، ما يجعلهم لا يترددون في سرقة الطعام مباشرة من الأرض الزراعية لفريق الإنتاج. في تلك الأيام، دفع الجوع الناس إلى فعل أشياء مخزية، وسرقة أي شيء صالح للأكل؛ وفقًا للموسم. عندما يصبح القمح ناضجًا، كانوا يمررون أيديهم فوق السنابل حين يسعون في الحقل ويخرجون بحفنة من الحبوب، يفركونها بين راحات أيديهم، وينفخون عليها لإزالة القشور، ثم يقذفون البذور إلى داخل أفواههم، ويزدردونها قبل مضغها بشكل جيد. وعندما تتكوّر جذور البطاطا الحلوة، يدفع بعض الأشخاص النبات الكث جانبًا، ويركلون التراب بضع مرات لتحرير جذر البطاطا، ويسحبونه من الأرض، ثم يغطون الفتحة الناتجة بالتراب حتى لا يلاحظ ملاحظ فرقًا في الأرض. في الخريف، تزخر الحقول بمجموعة متنوعة من المحاصيل يمكن تناولها: ذرة، سمسم، فول صويا، فول، لفت، باذنجان، ملفوف وغيرها كثير. في الواقع، لم يكن هناك شيء لا يمكن للناس سرقته ليسدوا به رمقهم. إلا أن القيم الأخلاقية لبعض الناس حالت دون سرقتهم المحاصيل التي يقوم فريق إنتاجهم بزراعتها، بل قاموا بالسرقة من محاصيل حقول فرق الإنتاج الأخرى أو من قرى أخرى. إنني لا أُذيع سرًا إذا قلت إن السرقة كانت منتشرة والسارقين يوازون بعددهم عدد العاملين في الحقول. ولما تولى جدي مسؤولياته، صب جام غضبه وسخطه على أعضاء الفريق التعاوني، وخاطبهم ساخطًا: «انظروا إلى أنفسكم. هل تبدون مثل أعضاء فريق تعاوني من المجتمع الجديد؟ إن ما تجنيه أيديكم من أفعال ذميمة لا يختلف عمّا كان قطّاع الطرق يفعلونه في الماضي!».اقترح تان الرابع؛ قائد فريق الإنتاج الثامن، نشر المليشيا لحراسة المحاصيل.إلا أن جدي كان حازمًا عندما رد عليه قائلاً: «وعندها، من سيعمل في الحقول؟ من الأفضل أن نَدُسَّ رجلاً واحدًا لمراقبة المحاصيل؛ يجول الحقول مخفيًا جرسًا يقرعه لاستدعاء المليشيا حين يلمح لصًا».إلا أن أحدهم تنطّح قائلاً: «أليست تلك هي الخدعة القديمة التي كنا نستخدمها لتنبيه الناس أن اليابانيين يقتربون من القرية؟».فأجابه العجوز بصوته الأجش: «تلك هي الروحية التي يرغب القياديون برؤيتها، لننتقِ شخصًا الآن».كانت مراقبة المحاصيل تعدُّ مهمة سهلة، والخفير نفسه يحظى بفرصة للحصول على بعض الطعام الإضافي، لذا تنافس الرجال عليها. وبعد أخذٍ وردّ وافقت الأغلبية على ترشيح وانغ هونشو للجد لين الثامن. وكانت الأسباب الموجبة لهذا الاختيار أن الجد عجوز جدًا على القيام بأعمال شاقة، وأنه يجدر به أن يتمتع ببعض الامتيازات، وبما أنه لا أسرة له، فهذا يتيح له وقتًا أطول يمضيه في الحقول. إلا أن السبب الأهم في اختيار الجد كان أنه لن يدخر شيئًا في منزله لأن لا عائلة لديه يسعى لإعالتها.إلا أن تان الرابع اعترض قائلاً: «هذا خيار غير صائب. فلين الثامن مسكين وضعيف جدًا، واللصوص سيمزّقونه إربًا ويجهزون عليه!».فعلاً، كان الجد لين الثامن رجلاً لين العريكة، وبدا صعبًا تحديد إن كانت تلك طبيعته بالفطرة، أم إن كان كذلك لأنه ليس لديه أحد يشد أزره. كان باسم الثغر على الدوام؛ مما يضفي طابعًا من البساطة واللطف والتواضع على محياه، بل يبدو للمتفرّس فيه أنه ذليل، ولم يتكلم قط بصوتٍ جهوري، فقد كانت أنة صوته خفيضة.منذ أن تولى الجد لين الثامن مسؤولياته الجدية، كان يمضي يومه كله ساعيًا في الحقول حاملاً جرسًا ومطرقة صغيرة في إحدى يديه، وغليونه الطويل في الأخرى، ينفخ دخان التبغ في أثناء سيره على طول دروب المشاة بين الحقول.بدأت تقارير عن سرقاتٍ ترد من فريق إنتاج بعد آخر؛ حتى قبل أن تنضج أكواز الذرة. لكن في أول عشرة أيام لم يصدح صوت من جرس فريق الإنتاج الثامن.في الاجتماع العام للقرية أثنى جين العجوز على فريق الإنتاج الثامن والجد لين الثامن، وقال أيضًا إن على مراقبي المحاصيل التحلّي بمزيد من الحرص في الأيام القادمة؛ لأن الذرة الناضجة ستجذب مزيدًا من اللصوص، والذرة هي محصول الخريف الأوسع انتشارًا. وشدد على أنه منذ الآن فصاعدًا، ينبغي أن يبقى مراقبو المحاصيل في الحقول على مدار الساعة لكي يحولوا دون السرقة تمامًا، وأنّ أي خفير تُسرَق من المنطقة التي يحرسها عشرة أكواز ذرة أو أكثر سيُعنّف علانية ولن يُمنح، إضافة إلى ذلك، حصة غذائية ثلاثة أيام!كانت شمس الخريف تسفع حقل الذرة، ويومًا بعد آخر، مع نمو أكواز الذرة وامتلائها تحت الشمس المتقدة، أصبحت السرقة والاختلاس أكثر تعاقبًا، وازدادت لعنات جين العجوز تواترًا أيضًا وقوة. وطلب من المحطة الإذاعية في مقر فرقة الإنتاج بث بلاغات يومية عن خسارة كل فريق إنتاج من أكواز الذرة. قبل مضي وقت طويل، حُرم خفيران من حصصهما الغذائية لمدة يومين. بعد بضعة أيام، أصبح واضحًا للقادة أن فريق الإنتاج الثالث يعاني أفدحَ خسائر في الذرة والبطاطا الحلوة، فأُحضر خفير الفريق وانع ماو تشي، وعمره نحو 60 سنة، إلى مقر الفرقة ليُدان علنًا أمام القرية كلها. أعلن جين العجوز، الذي كان وجهه مكفهرًا مثل الموت، أنه إذا وقعت حادثة سرقة أخرى في فريق الإنتاج ذاك، فسيعزل قائد الفريق من منصبه. مخزيًا وغاضبًا، اندفع قائد الفريق، وانغ هي زهو، إلى الأمام وصفع وانغ ماو تشي عدّة مرات على وجهه. صُرف وانغ ماو تشي من عمله، وعوقب بحرمانه من الحصة الغذائية ثلاثة أيام، وخرج الخفراء الآخرون متكّدرين ومتوتري الأعصاب والحزن يعتصر قلوبهم.للحفاظ على سمعته وسمعة فريق الإنتاج الثامن الطيبة، دأب الجد لين الثامن على التجول في الحقول بالرغم من القيظ الشديد، فخدشت أوراق الذرة ذراعيه ويديه على نحو سيئ. وكانوا يتعقبون أثره في الحقول كي يرسلوا له وجبات الطعام، وفي الليل تابع سعيه تحت ضوء القمر والنجوم. وعندما كان الإرهاق يبلغ مبلغه، كان يستلقي على رقعة كثة من الأعشاب بجانب الحقول فيستسلم للكرى ويطلق غطيطًا أشبه بزئير الأسود، ولا يلبث أن يثب على قدميه مجددًا بعد وقت قصير فقط. في كل مرة يأتي فيها جين العجوز وتان الرابع للتوثق مما يجري، كانا يجدانه يحرس حقل الذرة كما ينبغي.في تلك الأيام، كان سماع قرع الأجراس ليل نهار مألوفًا، وكان اكتشاف سرقة أكواز ذرة هو الآخر مألوفًا، لكن لم يظفر بإلقاء القبض على سارق قط. ظنَّ البعض أن الخفراء أنفسهم هم اللصوص، وأنهم يقرعون الجرس بعد إخفاء الغنيمة على نحو ملائم. إذا كان ذلك صحيحًا، فكيف يمكن إلقاء القبض على اللص؟ المدهش أن جرس الجد لين الثامن لم يُقرع قط، ووحده فريق الإنتاج الثامن لم يفقد كوز ذرة واحد على الإطلاق.عدَّ جين العجوز الجد لين أكفأ خفير محاصيل وينبغي تقديمه على أنه قُدوة والترويج لتفانيه، كما قرّر. وهكذا، تقدّم رجال يصرخون بالشعارات على الطريق، ووُضع الجد لين على حمار فريق الإنتاج العجوز وعديم الفائدة، وتنقل في شوارع القرية وهو يضع زهرة حمراء كبيرة على صدره ويحمل كعكة من طحين الذرة بيديه (كافأه بها جين العجوز نفسه). ملأ رنين الأجراس وقعقعة البنادق الفضاء؛ كأنه احتفال ترحيبي بعودة بطل ظافر. عندما استطاع الجد لين أخيرًا الترجل عن الحمار، أحاطت به فورًا مجموعة أطفال صغار، يصرخون قائلين إنهم جائعون ويمدون أياديهم إلى كعكة طحين الذرة في يده. جعلته وجوههم الشاحبة واللهفة في عيونهم يشعر بالأسى، ومن دون أن يفكر لحظة، قسّم مكافأته بين الأولاد.رشّحت التعاونية، ولاحقًا حكومة المقاطعة، الجد لين الثامن ليكون «خفير المحصول المثالي»، وبُث ذلك مرارًا وتكرارًا عبر الإذاعة، فأصبح شخصية مشهورة في المقاطعة.ذات صباح، قادته جولته إلى حقل ذرة عند الطرف الشمالي؛ وهو مكان قلّما يزوره؛ لأنه بعيد عن القرية والطرق الرئيسة، ويعد مقبرة القرية التقليدية. دأبت حيوانات برية أن تتخذ من الأعشاب الطويلة والأجمات بين القبور مأوى لها، ودأب الناس على تجنب المقابر. أحسَّ الجد لين الثامن أن شخصًا ما موجود هناك! لكن لماذا؟ ليسرق أكواز الذرة؟ خفق قلبه بقوة، لكنه استعاد رباطة جأشه بسرعة، وحدّق بعناية أكبر إلى الذرة، ورأى كل الأكواز تنمو في أماكنها على السوق، وتتمايل قليلاً في النسيم، فهدأ قلبه، لكن قلقه لم يختفِ بالرغم من ذلك. اقترب، ومدَّ يده ثم ضغط على كوز ذرة ليتبين أنه فارغ، فنزع القشرة ووجد أن الكوز كله قد اختفى! إذًا، كان شخص ما قد نزع الكوز ولف القشرة بعناية ليجعلها تبدو سليمة. هَلِعَ، ضغط الجد لين على كوز بعد آخر، ووجد أن عشراتٍ منها قد سُرقت، فسحب عدّة أنفاس عميقة، وجلس ذاهلاً على الأرض. أراد أن ينتحب لكن لم يخرج منه أي صوت، وأراد أن يشتم لكن لم يعرف من، وأراد أن يقرع الجرس لاستدعاء الناس، لكنه لم يتذكر أين ترك الجرس والمطرقة. امتلأ ذهنه بفكرة مريعة واحدة: ماذا إن علم جين العجوز وقائد الفريق تان الرابع بما آلت إليه الأمور؟ سيسلخان جلده حيًا! من قد يكون سارق الذرة؟ قرّر أن هناك طريقة واحدة فقط ليبرّئ نفسه، وهي أن يقبض على اللص. نظرًا إلى أن عددًا من أكواز الذرة قد سُرقت، لم يكن ذلك قد حصل في ليلة واحدة، لذا سيعود اللص على الأرجح وسيقبض عليه، كما فكّر.
توابل - حبر و ورق
أيام في بلدتي
05-10-2013