كعادتي في مجتمعي كنت أستمتع بهوايتي، إذ تسوقت طويلاً ودفعت كثيراً وسريعاً وعلى عكس عادتي وعادة مجتمعي احتفظت بالفاتورة، تلك الورقة التي لا تحفظ حقاً ولا تعتبر وصلاً أو حجة إلا حين تتجه بطائرتك إلى مجتمع آخر شرط ألا يكون عربياً!

Ad

بالمصادفة اكتشفت في تلك الورقة خطأً بدفع ثمن قطعة مرتين لأنها كانت تحمل ورقة طبع عليها السعر مرتين.

كان الوقت متأخراً فقررت النوم لأني أعمل بالصباح، نعم أعمل بالصباح ككل مواطن عربي يعمل ويعشق العمل أيضاً، فكل صباح أتجه إلى مبنى فيه كل أنواع القهوة وجميع أصناف الشاي كمقهى اعتاد على استقبال الزبائن، للعمل لدينا طعم خاص كطعم القهوة الفرنسية تماماً وكطعم الشاي الأخضر!

اتجهت لأستعيد مالي من ذلك المبنى التجاري، وكانت يدي تحمل سلاحا، كان السلاح قصاصة الورق المسماة في لغة التجارة "فاتورة"، تلك الفاتورة أو هذا الوصل، كان بيدي وكنت أتحسسه وكأني أتحسس مالي الضائع، وأعلم أن ذلك الوصل سيصل بي إلى مالي الذي فُقد بسبب ذلك الموظف الذي أعمى إهماله قلبه وعينيه على أن يدقق جيداً، وبسبب ذلك الزبون الذي اعتاد الدفع دون النظر إلى ما يحمله من مشتريات.

حين مددت إليه "الوصل" وأشرت إلى الرقم الذي استخدم مرتين، لم يبتسم! ولم ينظر إليّ باستثناء نظرة الفضول الأولى التي أهداني إياها حين كنت متجهاً إليه، فقال:

- ما أدراني بأنك لم تقم بأخذ قطعتين؟

احترت من هذا الرد ومن شدة غيظي رفعت رأسي للسماء فمنعني السقف من ذلك، ذلك السقف الممتلئ جداً بكاميرات المراقبة، حينها قلت له ما فائدة تلك الكاميرات! ألا يمكنك التأكد منها لترى هل كنت أحمل قطعة أم قطعتين؟ ألا يمكنها كشفك حين جعلتني أدفع مرتين من أجل قطعة واحدة؟ فأجاب:

- تلك تستخدم في حالة السرقة فقط.

- السرقة تقصد بها حين يؤخذ منكم شيء، ولا تكون سرقة حين تأخذون أنتم منّا أشياءنا؟

- آسف لا يمكنني عمل شيء لك!

كنت أعلم أني لن أستعيد مالي، وكنت أعلم أني سأخسر جزءاً من كرامتي أيضاً عند ذهابي للمطالبة بمالي، ولكن جرت العادة على ألا نستفيد من أدمغتنا وألا نقرأ ما سطره التاريخ لنا، تركت "الفاتورة" وذلك المجمع التجاري وتذكرت مقولة "أبو فلان" "لن أكون أميناً بلا ثمن"، قالها حين كنت مسافراً لتلك الدولة العربية التي يصعب أن تجد ما في جيبك في مكانه، فكيف إن نسيت هاتفك حائراً على طاولة أحد المطاعم!

حين فقدنا هاتفنا في ذلك المطعم عدنا إليه بسرعة، فوجدنا صاحب المطعم "أبوفلان" بانتظارنا وبيده الهاتف فقال:

- هذا مطعم "أبو فلان" لا يفقد أحد فيه شيئا... أدهشتني عبارته لمَ لم يقل هذا مطعم صاحبه مسلم عقيدته بنيت على الأمانة أو عربي في دمه تجري الشهامة!

من شدة سعادتي بذلك الموقف الذي اعتقدت أنه لا يتكرر سوى في الدول التي تقع خارج خارطة الدول العربية لم أهتم لما قاله، ولم أصدق ما شاهدته، وحين أردنا أخذ الهاتف أوقفنا للحظة، ونادى بأعلى صوته للنادل وطلب منّا إعطاءه حقه لأمانته! فأعطيناه مبلغاً من المال مقابلاً لأمانته، هكذا إذن يا "أبو فلان": "لكل شيء ثمن، لن أكون أميناً بلا ثمن"! ليتك سرقت الهاتف أيها النادل فأصبحت سارقاً، أفضل من تشويه ما تبقى لدينا من أمانة!

حدثتني سطور الكاتبة غادة السمان على لسان كتابها "الجسد حقيبة سفر": "وحينما عدت إلى بيروت وجدت رسالة في انتظاري ويدل طابعها أنها من فيينا... كانت رسالة من الفندق الذي أقمت فيه هناك، تعتذر مني لخطأ في الحساب وتعيد إلي مبلغاً من المال تقاضوه مني دون حق... غضبت كثيراً لظاهرة الأمانة هذه، التي ذكرتني بحدة أني من شعب اعتاد على أن يسرقوه وحاميه حراميه حتى صار في الأمانة ما يدهش، وما ينكأ جروحه... وأعدت إليهم المبلغ مع رسالة تأنيب على أمانتهم"!

صدقت غادة، وصدق التاريخ، وصدق "أبو فلان" بمقولته، فمتى نتعلم من التاريخ ومتى نتوقف عن الصراخ كل صباح بـ"تحيا الأمة العربية"!

ولمَ تحيا؟... ليتها اعتزلت الحياة قبل أن تحترف الانتكاسات!