دماغ الأخطبوط مختلف الاختلاف كله عن دماغنا وعن أدمغة معظم الحيوانات التي اعتدنا دراستها، ما يبدو واعداً: فإن تمكنا من معرفة الطريقة التي ينجز بها عملياته الفكرية، فقد نقترب من اكتشاف العناصر الأساسية للفكر ولتطوير أفكار جديدة ولتطور القدرات الذهنية. يذكر بيتر غودفري-سميث، فيلسوف في جامعة مدينة نيويورك يدرس عقول الحيوانات: «يعود جزء من مشكلة تحديد ما يرتبط ارتباطاً أساسيّاً بالذكاء في الدماغ إلى معرفة الخصائص التي إذا فقدها النظام، لا يعود يُعتبر ذكيّاً: ما هو الضروري وما تطور صدفةً على مرّ التاريخ؟».

لنفكر في هذه المسألة مليّاً: يُعتبر الشمبانزي، مثلنا، من الرئيسيات، والدلافين من الثدييات. حتى الغراب والغداف الذكيان من الحيوانات الفقرية. لكن الرابط المشترك المفقود بيننا وبين الأخطبوط كان على الأرجح كائناً يشبه الدودة، له عينان مستديرتان عاش قبل نحو 750 مليون سنة. يتمتع الأخطبوط بذكاء عالٍ ينبع من أسس جينية مختلفة تماماً. وإذا كنت ترغب في دراسة كائن فضائي، "فالأخطبوط يُعتبر أقرب ما يكون إلى ذلك”، وفق غودفري-سميث.

Ad

بيلي الأخطبوط

إذا أردنا احتساب ذكاء الأخطبوط وفق عدد الخلايا العصبية التي يملكها هذا الحيوان (200 مليون مقابل 100 مليار تقريباً يتمتع بها الإنسان)، فيبدو بسيطاً. ولكن لننسَ هذا المعيار. لا تتركز خلايا الأخطبوط العصبية حتى في رأسه، فنحو ثلثي "دماغه” موزع في أذرعه ويعمل على تنظيم تلك الأطراف وأقراصها اللاصقة الكثيرة. أما ما تبقى من خلايا عصبية، فيتوزع على دماغ مركزي يحيط بالمريء وعلى فصين بصريين كبيرين خلف العينين. نعم، إنه كائن فضائي، كما ذكرنا.

لكن الأخطبوط يقوم بأمور توحي بأنه أذكى من حيوانات كثيرة فقرية لها أنظمة عصبية مألوفة. إليك أحدها: تعلمت أخاطيب كثيرة فتح مراطبين تقليدية، ولكن في عام 2003، تحدّى علماء أحياء في Seattle Aquarium بيلي، أنثى من أخطبوط المحيط الهادئ العملاق، بزجاجة مزودة بتقنية خاصة تمنع الأولاد من فتحها، هذه التقنية التي تحيّر حتى أذكى الكائنات العاقلة، لكن بيلي تعلمت حيلة الضغط والإدارة في أقل من ساعة. وفي محاولات لاحقة، فتحت تلك الزجاجات المحيرة في أقل من خمسة دقائق.

لكن ما هذه إلا لمحة بسيطة عن قدرة الأخطبوط. قد يستخدم الأخطبوط في البحار الأدوات، مهمة كانت قبل وقت ليس ببعيد حكراً على الإنسان (مع أننا صرنا نعرف اليوم أننا نتشاطرها مع أنواع أخرى، مثل الدلافين وبعض الطيور). راقب عدد من الباحثين الأخاطيب قبالة سواحل إندونيسيا وهي تجمع (وتحمل على نحو غريب) أنصاف جوز الهند إلى قاع المحيط الرملي. وإذا طرأت الحاجة إلى ملجأ، قلبت نصفي جوز الهند، حشرت نفسها داخلهما وجمعتهما معاً ضاغطاً الواحد على الآخر. تذكر جنيفر ماثر، التي تدرس سلوك الحيوانات في جامعة ليثبريدج في كندا: "هذا مثال مذهل لأنه يوحي بأنها تتمتع ببعد نظر. أما على الصعيد المعرفي، فهذا جيد جدّاً”.

أعرب الأخطبوط عن سلوك معقّد (قد يعتبره البعد وقحاً) في المختبر أيضاً. يكفي أن تسألوا جين بوال، باحثة متخصصة في علم السلوك في جامعة ميلرسفيل. خلال توجهها لإطعام الأخاطيب التي تعتني بها ذات يوم، ظنت أنها لن تحب ما ستقدمه لها: فهي تفضل الأفضل بين حيوانات الحبار المجلدة، إلا أن ما كانت تحمله لم يبدُ جيداً كفاية، لكنها قدّمته لهم في مطلق الأحوال. راحت تسير على حافة الأحواض ملقية القليل في كل منها. وعندما انتهت، عادت إلى الأخطبوط الأول لترى إن كان قد خرج لتناول وجبته. لاحظت بوال أن الطعام قد اختفى، إلا أن الأخطبوط كان ينتظرها بترقب. حدّق الأخطبوط بها وراح ينتقل ببطء نحو المصفاة عند الزاوية اليمنى الأمامية، ثم توقف فوق المصفاة وأفلت الحبار من أذرعه، ملقياً به في المصفاة من دون أن يرفع نظره عن بوال، التي فهمت الرسالة. أو لعلهما رسالتان: لن يقبل هذا الأخطبوط بطعام سيئ، وربما أراد أن تفهم بوال هذا.

يُعتبر هذا السلوك مثيراً للاهتمام لأن الأخطبوط حيوان يعيش وحيداً، فلا يمكننا الادعاء أنه يتعلم مهارات مثل استعمال الأدوات من والديه. ما من ثقافة خاصة بالأخطبوط، ولا يمكننا الافتراض أن قدرتها الظاهرة على التواصل معنا تعود إلى سلوك جماعي في البحر (تميل أحياناً إلى التهام حيوانات أخرى من جنسها. فحتى الأخطبوط يدرك أن لحم الأخطبوط لذيذ)، ولكن يمكنك القول (وهذا أمر ذكرته بوال وباحثون آخرون) إن الأخطبوط ازداد ذكاء لأنه اكتسب ليونة كبيرة (والعكس). لا يملك الأخطبوط أي عظم أو قوقعة أو أشواك مخيفة. إذاً، عندما أضطر الأخطبوط للاصطياد في محيط مليء بأسماك تصطاد هي بدورها وتبحث أحياناً عن أخاطيب، كان عليه التصرف بذكاء، على غرار كائن آخر من الرئيسيات لا قوقعة له ولا مخالب ولا فرو.

ذكاء ومزاجية

صعب على الباحثين تحديد مدى ذكاء الأخطبوط، فدراسته صعبة لا نظريّاً فحسب بل فعليّاً أيضاً، وتحتاج إلى قطع إضافية من كل المعدات التي تستخدمها، لأن الأخطبوط الفضولي بأذرعه الطويلة سيسحب الكثير من الأشياء إلى قاع حوضه ليتفحصها. وبالإضافة إلى سرقة معدات المختبر، قد يرفع سدادات مصافي حوضه، ولن يتردد في الهرب من أي فتحة أكبر بقليل من منقاره. يُعتبر الأخطبوط أيضاً حيواناً مزاجيّاً. تذكر بوال وزملاؤها في أحد أبحاثهم: "من العقبات الكبرى أمام تقصينا قدرات التعلم التي يتحلى بها الأخطبوط صعوبة التعامل معه كحيوان مختبر”.

حاول أن تختبر، مثلاً، ذاكرة الأخطبوط أو مهاراته في التحرك ضمن مساحة محددة بوضعه في متاهة، كما تفعل عادة مع الجرذان، إلا أن أخطبوط المختبر قد يرفض التحرك. إذاً، قد يسهل على العلماء مراقبة سلوك هذا الحيوان، إلا أن من الصعب إخضاعه لاختبارات تستند إلى مهمات محددة (مثل المتاهات أو التمييز بين عدد من الأشياء). وهذا ما يدفع العلماء إلى تركيز أعمالهم على حيوانات فقرية.

علاوة على ذلك، تصعب قدرة الأخطبوط على التحرك برشاقة وسحق ما تقع عليه أذرعه الطويلة، وعلى الباحثين استخدام أساليب المراقبة التكنولوجية التقليدية. يعمد الأخطبوط إلى نزع أو اقتلاع أي أسلاك خارجية أو مزروعة، فضلاً عن أنه يفتقر إلى بنية صلبة يمكن استخدامها لتثبيت الأجهزة. يتحدث مايكل كوبا، الذي درس ذكاء الأخطبوط في الجامعة العبرية في القدس، عن مشروع أبحاث خطط له وعلى وجهه ابتسامة عريضة. فقد أراد كوبا تسجيل الأنماط العصبية للأخطبوط خلال تعلّمه مهاماً جديدة. يخبر: "فشلت فشلاً ذريعاً. فلم تكفّ الأخاطيب عن نزع الأسلاك”. حتى مع استخدام أجهزة التسجيل اللاسلكية الصغيرة الجديدة، يؤكد كوبا: "قد يمرّ بعض الوقت قبل أن نحصل على ما يشبه التسجيلات العصبية الدقيقة لدماغ الأخطبوط”.

يستطيع أي حيوان أن يتعلم سلوكاً ما بواسطة التدريب، حتى الحلزون "يتعلم” ألا يفتح ثقب التنفس إن وخز. ولكن يبدو أن معظم الحيوانات عاجزة عن إتقان عبور متاهات معقدة، ابتكار معدات، أو التعبير عن تفضيلات خاصة.

تسجيل الذكريات

يظن العلماء أننا نستطيع القيام بأمور مماثلة لأننا نملك قدرة على التعلم والتذكر متطورة جدّاً. تقع الذاكرة الطويلة الأمد والقصيرة الأمد في أجزاء مختلفة من الدماغ. وهذا ما نلاحظه في حالة مَن يتعرضون لإصابة الفص الجبهي الأمامي. يواجه هؤلاء صعوبة في الذاكرة القصيرة الأمد، إلا أن ذكرياتهم القديمة تبقى سليمة. لكن الكائنات الأبسط، مثل حلزون البحر، تستخدم البقعة ذاتها أو حتى المشابك العصبية عينها لنوعي التذكّر هذين. علاوة على ذلك، تنتج ذكريات الإنسان الطويلة الأمد عن تحسّن عمل نشاط المشابك العصبية، ما يتيح تسجيل المزيد من البيانات. تملك معظم حيوانات المختبر الفقرية دماغاً يعمل بالطريقة عينها. نتيجة لذلك، كان علينا أن نخمّن ما إذا كانت طريقتنا هي أحد الحلول أو الحل الوحيد لتحقيق ما توصلنا إليه في المجال المعرفي.

قد يحمل الأخطبوط الجواب عن هذا السؤال. صحيح أن سلفنا المشترك الأخير كان تلك الدودة، غير أن الأخطبوط طوّر طريقة مماثلة لتسجيل الذكريات وتخزينها. ولا شك في أن هذا مثير للاهتمام نظراً إلى أن "أدمغة قليلة منظمة بطريقة تتيح لها استيعاب الكثير من الذكريات”، وفق بنيامين هوشنر، باحث من الجامعة العبرية في القدس أيضاً. اكتشف هوشنر وزملاؤه أن الأخطبوط يستخدم عملية تقوية نشاط المشابك العصبية بغية تسجيل الذكريات الطويلة الأمد وتخزينها. ولا بد من أن وجود هذه البنى والتفاعلات المألوفة في حيوان يملك مجموعة مختلفة تماماً من الجينات، مقارنة بالفقريات، يشير إلى أن هذه العملية قد تكون أحد تلك العناصر الأساسية النادرة المرتبطة بالذكاء، وفق غودفري سميث. ومع هذا الاستنتاج اللافت، صار بإمكان العلماء اليوم التركيز على طريقة الأخطبوط في التعلم وتسجيل الذكريات بصفته كائناً غريباً إنما مفيداً للإنسان.