توشك مصر أن تضيّع فرصة ذهبية تتيح لها تحسين مكانتها في الدبلوماسية العالمية، فرصة أُتيحت لها عندما اقترحت إيران أن تستضيف القاهرة الجولة التالية من المفاوضات النووية المتعددة الأطراف، ورغم انتشار بعض التقارير غير المؤكدة عن أن القاهرة لم ترحب بهذه الفكرة، لم يفت الأوان بعد لتقتنص حكومة محمد مرسي المحاصرة هذه الفرصة، مكتسبة بالتالي رصيداً دبلوماسياً وسياسياً.

صحيح أن الاتحاد الأوروبي لم يقبل باقتراح طهران هذا، واصفاً إياه "بمناورة لتمرير الوقت"، لكن ما زال باستطاعة القاهرة أن تستضيف الجولة المقبلة من المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 (الأعضاء الخمس الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فضلا عن ألمانيا)، شرط أن يعبر مرسي، الذي يتخبط وسط التوترات السياسية في مصر، عن تأييده لهذه الفكرة.

Ad

لا شك أن احتمال تحول القاهرة إلى محور الانتباه العالمي لبضعة أيام، نظرا إلى أهمية هذه المسألة وما تشمله من قوى كبرى وقضايا دبلوماسية إقليمية، سيشكل مصدر إلهاء مناسباً تحتاج إليه الحكومة المصرية، التي تسعى جاهدة لتؤكد دورها المستقل في الشؤون العالمية.

ذكر وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي يوم الاثنين أن الغرب يتحمل مسؤولية هذه العرقلة، وأصر على أن المسؤولين المصريين رحبوا الأسبوع الماضي بهذا الاقتراح، الذي قُدم رغم تواصل الاضطرابات في مصر، ما دفع بمرسي إلى إعلان حظر التجول في بورسعيد والإسماعيلية والسويس في السابع والعشرين من يناير.

أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الاثنين إلى ضرورة أن تتفق إيران والغرب على الدولة التي ستستضيف المحادثات بشأن برنامج طهران النووي، التي كان يُفترض أن تبدأ الشهر الماضي. قال لافروف في مؤتمر صحافي: "نعتقد أن جوهر المحادثات أكثر أهمية من جو أي مدينة. نأمل أن يكون المنطق سيد الموقف، وأن نكف عن التصرف بتهور كالأولاد الصغار".

أفادت صحيفة الشرق الأوسط في لندن، نقلاً عن مسؤول مصري لم تذكر اسمه، أن القاهرة لم تحسم قرارها بعد في هذه المسألة، ما يتعارض مع ما أعلنه صالحي. رغم ذلك، لم تقتنع طهران بعد بفشل هذه الفكرة، وما زال المسؤولون الحكوميون الإيرانيون يأملون أن يعلن مرسي ومساعدوه في مجال السياسة الخارجية استعدادهم لاستضافة المحادثات النووية الإيرانية، كإشارة إلى نضج مصر وأهمية دورها في الشؤون الإقليمية.

لا شك أن هذه مسألة حساسة وتشمل أبعاداً عدة، مثل سعي إيران إلى تطبيع العلاقات مع مصر، أو محاولة القاهرة موازنة علاقاتها مع داعميها الماليين في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، خصوصاً المملكة العربية السعودية. وهذا ما دفع القاهرة إلى التزام الصمت رسميا تجاه اقتراح إيران العلني.

يوضح أستاذ علوم سياسية في جامعة طهران تحدث إلى الكاتب، إلا أنه رفض ذكر اسمه: "كما حدث مع تركيا والعراق العام الماضي، تحمل المحادثات للدولة المضيفة بعض الأهمية والميزات السياسية. ولهذا السبب ترفض إيران عقد المفاوضات في إسطنبول، نظراً إلى موقف تركيا العدائي من سورية. ويجب أن يدرك المسؤولون المصريون أن هذه الخطوة عموما تخدم مصالحهم ولا تسيء إليها".

صحيح أن الخلافات بين مصر وإيران بشأن سورية تجلت بوضوح خلال قمة دول عدم الانحياز، التي عُقدت في أغسطس الماضي في طهران، حيث راح مرسي يهاجم حكومة بشار الأسد في سورية، إلا أن طهران والقاهرة تملكان أموراً مشتركة كثيرة تفرض عليهما اعتماد استراتيجية "العمودين التوأمين" في الشرق الأوسط، التي تهدف إلى معالجة الكم الهائل من قضايا السلام والصراع في المنطقة.

على غرار محادثات بغداد العام الماضي، ستحمل جولة القاهرة تداعيات إيجابية بالنسبة إلى طهران، ما يعكس عمقاً إقليمياً أكبر وتنامي (ضمنياً على الأقل) تعاطف مصر مع موقف إيران النووي، إذ تعتقد القاهرة أن لإيران "الحق المطلق" بامتلاك دورة وقود نووي مدنية. لذلك لم تتردد مصر مراراً في توقيع مختلف البيانات الصادرة عن حركة دول عدم الانحياز التي تؤكد هذا الحق.

مع تنامي التوتر بين إيران وتركيا، بعد قبول هذه الأخيرة بنظام حلف شمالي الأطلسي المضاد للصواريخ الموجهة بكل وضوح ضد إيران وروسيا، لا بد من موازنة تدخلات الحلف هذه من خلال الإعراب عن تضامن أكبر بين دول الشرق الأوسط التي لا تلائم المعايير الغربية.

يجب ألا ننسى أن مرسي شكك في تدخل فرنسا العسكري في مالي، متحدثا بلغة "الحرب ضد الإرهاب" التي باتت مألوفة عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، مع أن قليلين ينكرون طموح فرنسا بتوسيع نفوذها في مستعمراتها السابقة وما بعدها. وعلينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان سيواصل مرسي انتقاده المبطن "لمهمة فرنسا العمياء في مالي"، حسبما ذكر رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان.

تخشى إيران تنامي تدخل حلف شمال الأطلسي وسعيه إلى تبديد مخاوفه التقليدية بشأن "الحاجز الروسي" وعقدها اتفاقا أمنيا جديدا مع موسكو. يدعو هذا الاتفاق إلى تعاون أكبر بين روسيا وإيران في المجال الاستخباراتي، ويُشكل بالتأكيد إشارة إلى تنامي مخاوف طهران وموسكو بشأن نوايا الغرب في سورية وغيرها من دول الشرق الأوسط، وهنا ينشأ السؤال: هل يرضى مرسي ومساعدوه في الشؤون الخارجية بنمط تدخل حلف شمال الأطلسي الراهن في الشرق الأوسط؟ وإن كانوا يرفضونه، فهل هم مستعدون للتقرب من إيران وموسكو؟

لا شك أن هذا السؤال يكشف بكل وضوح أهمية الخيارات التي يجب أن يقوم بها النظام السياسي المصري ما بعد الثورة في مجال السياسة الخارجية، ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذا النظام خاضع لنفوذ جماعة "الإخوان المسلمين"، التي ترجع بأصولها إلى حملة نضال الأجداد ضد الاستعمار نحو منتصف القرن التاسع عشر، خصوصاً المهدي في السودان في ثمانينيات القرن التاسع عشر. فقد ألهم المهدي جيلاً من الإسلاميين المصريين في مطلع القرن العشرين.

خلاصة القول، يتمحور هذا السؤال حول أصالة العقيدة الدينية (المناهضة للنزعة الاستعمارية الجديدة)، التي تقوم عليها الحركة، ومدى الإخلاص لها، ومن الممكن أن يبدد الانجذاب القوي بين إيران ومصر، الناتج عن مشاعرهما العقائدية المشتركة، التردد والحذر الراهنين بشأن أهمية بناء جسور متينة بين طهران والقاهرة. ولا تستطيع القوى الكبرى، مثل مصر، أن تتجاهل ما تشهده المنطقة راهنا من تلاعب غربي وتبدل مستمر في الخارطة الجغرافية السياسية.

تتمسك القوى الأوروبية برفضها المحادثات الإيرانية المقبلة في القاهرة، ويعود ذلك في جزء منه إلى أن هذه الخطوة تضعف دبلوماسيتها المتشددة تجاه طهران، لأنها تعزز احتمال تبني مصر موقفا أكثر تأييداً لإيران، ما يقوض استراتيجية الغرب تجاه إيران في وقت لا تتعرض فيه دولة إسرائيل النووية لأي ضغوط.

لطالما كانت مصر وإيران من أبرز داعمي فكرة شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، خصوصا خلال مؤتمرات "مراجعة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية" العديدة التي عُقدت منذ عام 2000. وقد انتقدت طهران والقاهرة كلتاهما قرار الولايات المتحدة الأخيرة إلغاء القمة العالمية بشأن هذا الموضوع في فنلندا في شهر ديسمبر الماضي.

إذن، سيشكل استعداد القاهرة لاستضافة الجولة التالية من المحادثات النووية الإيرانية، وإن بطريقة غير مباشرة، إشارة واضحة إلى قضية مصر وإيران المشتركة في هذا المجال، ما يثير مسألة القنابل النووية الإسرائيلية، التي يجب أخذها في الاعتبار في أي جهود تُبذل للحد من انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.

يُعتبر قبول "مصر الجديدة" باقتراح إيران وإقناعها الحكومات الغربية بأنها تشكل دولة مضيفة ملائمة وحيادية خطوة دبلوماسية ذكية، وبذلك تضطلع مصر بدور في إدارة صراعات المنطقة يفوق كل الأدوار التي لعبتها قبل الربيع العربي. صحيح أن هذا يشكل تحدياً سياسياً استراتيجياً وحتى نظرياً بالنسبة إلى القاهرة، ولكن عليها أن تواجه هذا التحدي بكل جرأة.

* مؤلف كتاب (بعد الخميني: توجهات جديدة في السياسة الخارجية الإيرانية)-After Khomeini:

New Directions in Iran's Foreign Policy.