هل تتذكر مفاوضات التجارة العالمية الأكثر بطولة، مفاوضات تُدعى "جولة الأوروغواي" وقد عُقدت بين عامَي 1986 و1994؟ كنت مراهقة آنذاك، وما زلت أذكر جيداً جولة الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (غات).

Ad

انكببت يومذاك على قراءة صحيفة لو موند الغنية عن التعريف كل يوم، ولم أنسَ أن جاك فالنتي الوقح، رئيس جمعية الفيلم الأميركي في هوليوود، عبّر عن احتقاره المخرجين الأوروبيين على وجه الخصوص لأنهم رجوا حكوماتهم أن تستثني السينما والفنون عموماً من المفاوضات. راح فالنتي يصيح: "الثقافة مثل العلكة، منتج كغيره من المنتجات". في تلك الفترة، قاد الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران الثورة وعامل أمثال فالنتي بتعالٍ. فردّ: "لا تُعتبر ابتكارات العقل مجرد سلع، ولا يمكننا التعاطي معها على هذا النحو".

يعكس هذا التناقض وجهتَي نظر متضاربتين: تعتبر الولايات المتحدة السينما والفنون صناعات للتسلية والترفيه تعود بأرباح، أما أوروبا، فتعتبر الثقافة نتاج أفكار تتخطى القيمة التجارية. ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ابتكرت فرنسا مفهوم "الاستثناء الثقافي"، الذي تحوّل منذ ذلك الحين إلى مبدأ أقل عجرفة، مبدأ "التنوع الثقافي" الذي تبنته اليونسكو في أكتوبر عام 2005 كقاعدة ملزمة قانونيّاً بموافقة أغلبية 185 دولة مقابل اثنتين. ولا عجب في أن تكون الدولتان المعارضتان الولايات المتحدة وإسرائيل.

بعد مرور عشرين سنة، عدنا إلى هذه النقطة مع انطلاق المحادثات لاتفاق تجارة جديد عبر الأطلسي. تكمن المشكلة في أن أوروبا تجد نفسها اليوم في موقف أضعف، فقد حذّرت فرنسا أخيراً من أنها لن تبدأ المفاوضات، إن لم تُستثنَ الصناعات الثقافية من المحادثات التجارية، وقد شددت على هذه النقطة في رسالة وقعها 16 وزير ثقافة أوروبيّاً. ولكن هل تنجح في تحقيق الانتصار مرة أخرى؟ لا يمكننا الجزم في هذه المسألة، وما يزيد الطين بلة عما كان عليه عام 1993 واقع أن رئيس المفوضية الأوروبية، خوسيه مانويل باوروسو، يلعب لعبة مزدوجة. يسعى باروسو إلى إرضاء الولايات المتحدة لأنه يرغب، حسبما يُقال، أن يخلف بان كي مون في الأمم المتحدة؛ لذلك ينصح الأوروبيين باسترضاء الأميركيين، لكن أقوال باروسو تبدو متناقضة، فقد أعلن الشهر الماضي: "علينا ألا نستثني قطاع المرئي والمسموع من المفاوضات مع الولايات المتحدة". وتابع مضيفاً: "في الوقت عينه، يجب أن نوضح ألا مجال للتفاوض بشأن الاستثناء الثقافي". أيعقل هذا؟

في هذه الأثناء، يستعرض باراك أوباما وإدارته عضلاتهما، قائلَين: "كي نتوصل إلى اتفاق طموح وشامل، علينا ألا نعمد إلى استبعاد المسائل حتى قبل أن تبدأ المفاوضات". وكما لاحظنا سابقاً في مفاوضات التجارة، التي تكثر فيها محاولات استعراض العضلات، تكون هذه عادةً مجرد كلمات ومناورات للظهور بمظهر القوي. لكنها ليست كذلك فحسب.

يُعتبر مفهوم التنوع الثقافي في أوروبا مفهوماً بالغ الأهمية، وليس بالتأكيد ردّ فعل حمائي من قارة قديمة، كما يحاول بعض المسوقين الترويج له. على العكس، إنه معركة من أجل مناظرة ثقافية وفنية غنية يجب ألا يكون فيها جني الأرباح المحور الرئيس أو الوحيد. فقد أتاح نظام الإعانات التي تقدمها فرنسا للفنون والكوتات المخصصة للأفلام الأوروبية على شاشاتها لجمهور عريض طوال عقود استكشاف وتبني وجهات نظر مختلفة. ففي فرنسا، لا تتخطى حصة الأفلام الأميركية في السوق الخمسين إلى الستين في المئة، مقارنة بتسعين في المئة في المملكة المتحدة. ولمَ نرغب في مشاهدة المزيد من الأفلام الأميركية؟ فقط لأنها تملك القوة المالية لتفرض نفسها على نظامنا المتعدد، في حين أن بلداناً أخرى تقدّم جواهر علينا اكتشافها، مع أنها ضعيفة مالية وتحتاج إلى المساعدة لتصلنا؟

لا تشكّل السينما العقبة الوحيدة. هل ننتظر بهدوء حتى يطلق موقع "أمازون" رصاصة الرحمة على متاجر بيع الكتب المستقلة من خلال المنافسة غير الشريفة (في حين أنه لا يدفع الضرائب)؟ أم علينا أن ندعم متاجر بيع الكتب المستقلة هذه التي تؤدي دوراً مهمّاً في المجتمع؟ خصصت الحكومة الفرنسية منذ شهر مارس الماضي 18 مليون يورو لصناعة الكتب. فهل هذه تدابير حمائية بشعة أم خطوة عقلانية؟

بعد أن رفعت الصين الضرائب على النبيذ الأوروبي كرد فعل تجاه مقاومة أوروبا في مسألة الألواح الشمسية البخسة الثمن القادمة من الصين، أقول: لندع النبيذ يدافع عن نفسه ولنصبّ كل اهتمامنا على التنوع الثقافي.