الكاتب والمناضل العفيف الأخضر الذي غادرنا منذ أيام رجل عاش وناضل وكتب خارج السرب. ولد لدى أسرة فلاحية فقيرة في الريف التونسي ومع أنه حصل تعليماً إلا أنه ظل يتعلّم على نفسه العمر كله. عاش زمن الثورات وثار مع الثوار بل حلم بخلاصية تقول إما الثورة عالمية وإما دمار البشرية. شارك في الثورة الجزائرية وكان أحد «الخبراء الحمر» الذين ألهموا تجربة التسيير الذاتي في الزراعة في عهد أحمد بن بلله. وانضم الى المقاومة الفلسطينية زمن بيروت وسعى إلى بناء التنظيمات الثورية فيها. متمكّن من تراثه العربي الإسلامي قدر تمكنه من الثقافة الأوروبية. ماركسي نقدي مستقلّ على طريقته وعدو سافر للستالينية مع انحياز كبير لأطروحات روزا لوكسمبرغ.

Ad

تعارفنا في باريس وأنا على أهبة السفر إلى ثورة ظفار العام 1970. وكان سبقني وزار معسكراتها ولم يكمل الرحلة في المنطقة المحررة: «الثعبان» قال «العدو الرئيسي في ظفار هو الثعبان لا الإنكليز». ولم تكذّب زيارتنا تحذير العفيف. تزاملنا في «دار الطليعة» وفي مجلة «دراسات عربية» بإدارة ذلك الإنسان الاستثنائي بشير الداعوق.

نادراً ما اتفقنا. ومع ذلك نشأت علاقة وتوطدت مع أنه كان يرى إلينا على أننا يساريين إصلاحيين. ومع ذلك، لما جرّبنا الاصلاح والتغيير، إستهول المحاولة وأدانها. اقتحم علينا مكتب مجلة «الحرية» مطلع الحرب الأهلية صارخاً: «تريدون ثورة في لبنان؟ تريدون تغيير البلد الذي يستضيف أمير الكويت والعفيف الأخضر؟!».

غادر بيروت خلال الحرب. تجددت اللقاءات في باريس في التسعينات. نشر حينها مقابلة استشرافية في مجلة «زوايا» التي أصدرتها وجوزيف سماحة. خالف التهليل السائد عقب انتصار الثورة الإيرانية. وجد في ثورة الخميني انبعاثا للسلفية، لا مطلع عهد إسلامي زاهر بل إرهاصاً بنظام «إسلامي تفتيشي». وفيما الرأسمالية تحتفل بانتصارها المبين مع انهيار الاتحاد السوفياتي، رأى العفيف أن العالم ولج عصر الأزمة الدائمة للرأسمالية. وتكهن بأن سباق التسلّح سوف يزداد وسوف تتسع رقعة الحروب الأهلية على خطى السابقة اللبنانية.

انقطعنا واحدنا عن الآخر عند عودتي إلى لبنان منتصف التسعينات. تقطعتْ متابعتي للعفيف وقد انقلب خلالها إلى عقلانية تنويرية أكاد ان أسمّيها «أصولية».

ومع ذلك، هذه شهادتي: لم أقرأ للعفيف الأخضر نصّاً لم يحفزني على التفكير والمراجعة. لم اقرأ له نصاً إلا وزادني قلقاً... وعلماً. هذا هو الرجل المترهّب، اللاذع والمشاغب، النقدي، اللامع الذي خسرنا.

منذ أيام، فوجئت بوصول إيميل منه يحوي نسخة إلكترونية لكتابه الأخير «من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ». حملتْ الرسالة هذه الكلمات: «عزيزي فواز، أنا متعب هذا كتابي الأخير، شكراً. العفيف الأخضر».

Cher Fawwaz Je suis fatigué voici mon dernier livre. Merci, Lafif LAKHDAR

فوجئت وسررت لمبادرته الاتصال. حزنت لما علمت أنه مريض ولم أكن أدري خطورة مرضه. قلت أقرأ الكتاب واكتب له. أخذ حياته بيده ولمّا أتممت القراءة. قرأتُ نعيه في الصحف. الآن أفهم تعبه. ليس المرض.

أدركت متأخراً أنه كان يودّعني. وأنا أريد أن أقول له {شكرا}.

إشارة إلى أن بعض وسائل الإعلام العربية نشر خبراً يفيد عن انتحار العفيف الأخضر ونعاه الكثير من الأقلام. لكن سرعان ما نفى موقع الحوار المتمدن خبر انتحاره، وبعد أيام قليلة أعلن وفاته في إحدى مستشفيات باريس بعد صراع مع المرض. وفي سياق متصل تستعد دار {الجمل} في بيروت لإصدار أربعة كتب للكاتب الراحل، تأتي بعد اتفاق معه قبل أيام من رحيله.