بدأ قبل أكثر من سنة جدال محتدم حول ضرورة التدخل عسكريًّا في سورية. كان ستيفن كوك من مجلس العلاقة الخارجية أول مَن اقترح اتخاذ خطوات عسكرية، أو على الأقل التفكير فيها بجدية. عندما كتب كوك مقاله، كان عدد الضحايا السوريين قد بلغ الخمسة آلاف. أما اليوم، فارتفعت هذه الحصيلة عشرة أضعاف لتبلغ 60 ألفا، وفق بعد التقديرات. أذكر أنني في مطلع الحرب السورية فكرت في الخطوات التي سيحركها بلوغ حصيلة القتلى الخمسة عشر ألفاً.لكن يبدو أنها لن تؤدي إلى أي خطوات، فلن يبصر التدخل العسكري في سورية النور بدون الدعم الأميركي، وما من إشارات توحي بأن الولايات المتحدة تنوي التدخل، مهما ارتفعت حصيلة القتلى، فقد اعتبرت إدارة أوباما استخدام الأسلحة الكيماوية خطّاً أحمر، لكن هذا الخط أيضاً تبدل في بعض المراحل. من الطبيعي أن يركز معارضو التدخل العسكري على الطبيعة الخطرة والبالغة الصعوبة لأي عمل عسكري، لكن تحديد الولايات المتحدة بعض "الخطوط الحمراء" يُظهر أنها قد تكون مستعدة للتدخل في مرحلة ما، رغم كل هذه الصعوبات. إذن، لا ترتبط هذه المسألة بصعوبة العملية بحد ذاتها بقدر ارتباطها بما قد يُعتبر خطاً أحمر ملائماً.إذا تابع بشار الأسد عملياته ودمر الدولة بأكملها، قاتلاً نحو مئة ألف نسمة في غضون أسابيع، فقد يدفع ذلك كثيرون ممن يعارضون التدخل إلى تبديل رأيهم ودعمه. ولكن لمَ لا يبدلونه الآن؟ ألا يُعتبر مقتل 60 ألف شخص كافيا؟ لا شك أن استخدام الأسلحة الكيماوية يجب أن يكون خطاً أحمر لأسباب تتعلق بالأمن القومي. ولكن لماذا تُعتبر مسائل الأمن القومي وحدها خطاً أحمر، في حين أن قتل عشرات الآلاف لا يُعدّ كذلك؟ تبعث هذه النقطة الأخيرة بالتحديد رسالة خاطئة إلى العالم العربي خصوصاً والمجتمع الدولي عموماً.عقدة العراقلم تطرأ أي تحولات أساسية على السياسة الأميركية منذ بداية الربيع العربي، مع أن كثيرين منّا أكدوا أن الوقع الجديد يتطلب طريقة جديدة للتعاطي مع التطورات (أو أملوا ذلك). فما جعل ليبيا تدخلاً "بحتاً" واقع أننا لم نقرر التدخل لأن مصالحنا الحيوية مهددة، بل رغم أنها لم تكن كذلك، وأعتبر أن هذا سبب إضافي للافتخار بما حققناه في ليبيا.لا شك أن ذكرى حرب العراق لا تزال عالقة في الأذهان، إذ كانت تلك الحرب بحد ذاتها أحد أكبر الإخفاقات الاستراتيجية في تاريخ السياسية الخارجية الأميركية الحديث، ولكن تبين أخيراً أن إرثها أيضاً لم يكن أفضل حالاً، إذ أدى إلى سلسلة من الأخطاء التي سنندم عليها على الأرجح في مرحلة ما، ومن المؤكد أننا كنا سنشهد استعداداً أكبر للتدخل في سورية لو لم نشن حرب العراق. لكن روح المغامرة غير المدروسة في الخارج، التي أعربت عنها إدارة بوش، جعلت من أبسط تعبير عن عقيدة أو موقف أخلاقي في السياسة الخارجية يبدو مريباً. بالإضافة إلى ذلك، من الرائج اليوم لعب دور التكنوقراط والتساؤل عمّا قد ينجح، فيعتقد كثيرون أن علينا التخلي عن مشاعرنا السامية والتزاماتنا الأخلاقية التي تشوه رؤيتنا بدل أن تجعلها أوضح.كما أشار كوك في إحدى مقالاته، تشكل الأسئلة الأساسية عن الأخلاق والفلسفة إلى حد ما العنصر الذي يفصل بين مؤيدي التدخل ومعارضيه. سأل كوك: "هل تقتضي الأخلاق السامية أن نجلس مكتوفي الأيدي فيما يُقتل الناس، بدل أن نتخذ خطوة قد تؤدي إلى مقتل البعض، إلا أنها ستنقذ في نهاية المطاف الكثير من الأرواح؟". إذن، لا يرتبط التدخل في سورية بما إذا كان سينجح، بل بالسؤال: "هل يستحق العناء؟".من الضروري تأمل هذه الأسئلة والتفكير فيها ملياً، ولكن من المستبعد أن نحصل على جواب عنها في المستقبل القريب، وبالعودة إلى السؤال الأبسط عمّا قد يوقف إراقة الدماء في سورية (إن كان هذا ممكناً)، علينا التفكير في بعض النقاط الأساسية: أولاً، قد يقبل بشار الأسد بالأعمال الوحشية التي يمارسها نظامه، إلا أن ذلك لا يُظهر أنه ما عاد لاعباً متعقلاً، لكن المؤسف أنه لا يملك أي حافز حقيقي يدفعه إلى وقف عمليات القتل، ما لم يشعر أن التهديد بالتدخل حقيقي. ومن الواضح أن هذا التهديد يؤدي دوراً مهماً في حسابات الأسد والمحيطين به، فقد أمضى النظام السنة الماضية في اختبار حدوده، محاولاً معرفة المدى الذي يستطيع بلوغه، لذلك لم نلحظ أي ارتفاع كبير في معدلات القتل، بل ظلت هذه ترتفع ببطء، بينما حاول الأسد تقييم ردود فعل المجتمع الدولي واستعداده للتدخل بشكل أكثر قوة، وقد نال الجواب على ما يبدو.حتى لو لم تنوِ إدارة أوباما التدخل، فيبدو غريباً أو مفاجئاً أن تقرر إبلاغ نيتها هذه إلى النظام السوري بوضوح مماثل، فكان حرياً بإدارة أوباما والقوى الأوروبية الكبرى، فضلاً عن حلف شمال الأطلسي، أن تناقش علانية الخيارات العسكرية وتبذل جهوداً حقيقية لدراستها، ولكن رفضها التدخل بدا واضحاً، كما ذكرنا سابقاً، بسبب التشابه المفترض بين سورية والعراق والخوف من دخول مستنقع آخر.خيانة المعارضةمن الخصائص الأخرى التي تميز الجدل الدائر اعتبار أن التدخل العسكري و"البديل" الدبلوماسي خياران وحيدان، وأن علينا اعتماد أحدهما دون الآخر، لكن هذا ليس صحيحاً، فيمكننا اتباعهما معاً. على سبيل المثال، أرغمت قوى حلف شمال الأطلسي الصرب في البوسنة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ما أدى إلى توقيع "اتفاقية دايتون" ونشر قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات، وفي ليبيا، أعرب نظام القذافي عن اهتمام أكبر بالتفاوض مع المعارضة بعد بدء التدخل العسكري، مقارنة بموقفه قبله.أخيراً، من الضروري التفكير في انعكاسات الامتناع عن التدخل راهناً على أي أعمال قتل جماعية في المستقبل، فمع التدخل في ليبيا، نما الأمل بتحقيق سابقة في مرحلة ما بعد الربيع العربي: كلما كان المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية مهددين بالقتل، أخذت الولايات المتحدة وحلفاؤها على عاتقها "مسؤولية حمايتهم" وفكرت في التدخل بجدية كخيار مشروع، ولكن بعد مرور نحو سنتين، يبدو أن ما لم نقم به في سورية بات أكثر أهمية مما حققناه في ليبيا.إذا بدوت متشائماً، فأنا كذلك على الأرجح. يجب التحدث بصراحة، ويطلب ذلك للأسف التكلم بصيغة الماضي، فقد فات الأوان في سورية على ما يبدو، وإذا لم يطرأ أي تطور مفاجئ أو غير متوقع البتة، فلن يتدخل المجتمع الدولي في سورية، لكن ذلك لا يعني أن مصير الشعب السوري الهلاك، لأنه على الأرجح "سينتصر" في النهاية، بيد أن كلفة هذا الانتصار (إن استطعنا وصفه بالانتصار) ستكون أعلى من ناحية الأرواح التي زُهقت، والبلد الذي تدمر، والطوائف المنقسمة وغياب أي أمل بالمصالحة، وبروز السلفيين والمجاهدين، وتمزق الدولة وتجزؤها إلى حد يمنعها من الحكم بفاعلية. وكما تذكر بعض التقارير، لا تشعر المعارضة السورية أنها نُسيت، بل أسوأ من ذلك، أنها تعرضت للخيانة، ومن المستبعد أن تنسى هذه الخيانة قريبًا، فقد تغلغل الشعور المناهض للولايات المتحدة، الذي كان يُعتبر من صفات داعمي النظام، ببطء بين عناصر المعارضة أيضاً. نتيجة لذلك، كان محور حركة التظاهر السورية يوم الجمعة في 19 أكتوبر 2012: "أميركا، ألم يرتوِ بغضك من دمائنا؟"، وقد يأتي يوم يُعتبر فيه عجز إدارة أوباما عن التدخل أو عدم رغبتها في ذلك كأحد الأخطاء الاستراتيجية والأخلاقية الكبرى في العقود الأخيرة. أمِلنا أن نكفر عن ذنوبنا في العراق، فأفرطنا في تعلم عِبر الحرب الأخيرة... لكني آمل اليوم ألا يكون الأوان قد فات.
مقالات - Oped
شتان بين سورية والعراق في سباق الربيع الإقليمي
12-02-2013