تحاول إقامة علاقة مع الجدران الستة المحيطة بك وتعرف يقيناً أن هذا المتصدع فوقك ليس سقفاً... تعتبرها ملكيتك الخاصة، تخط عليها ما تشاء من شعر وذكريات وخطوط متراصة تنقذ ذاكرتك المترنحة بثقل الزمن، وتبوح لها بقائمة الممنوعات الطويلة.

Ad

 تـُسمى الزنزانة باسمك مؤقتاً، سرعان ما يتم استبدال رمز به، لينادوك برقم مبهم يستحضر لعبة جميلة أو حادثة مطمورة؛ أو مكرهًا يسِمُك بعارٍ تاريخي!

في الزنزانة الانفرادية لا يهمك الزمن الراكض في ساعتك المصونة بصندوق "الأمانات"، توقيتها متعلق بوجه وابتسامة واحتفال لا ينتهي... سعته قلبان.

في الزنزانة الانفرادية لا تثق بالشمس المطلة من النافذة، حتى الرفرفة التي ترتمي تحت ظلها: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة..." تستهلك وقتك المندلق، "آاااهاتك" تصدح طرباً يعالج الظل المبلل... تستكشف مناطق الفرح المطمورة في جسدك، تشكل ظلالاً إضافية على الجدران بيديك، وتدرك فجيعة أن لا حائط يحتفظ برسمك!

في الزنزانة الانفرادية ترأف بحال التلاميذ والأطباء والمعلمين والعسكريين وأولئك الكادحين ولا تجد فرقاً بينهم وبين المعذبين، تدور أمامك طاحونة التعب ولا تميز الكائنات التي تحركها، تتذكر لهاث السيارات في الشوارع التي تمضي بغير عودة... وتشفق عليها.

في الزنزانة الانفرادية تفقد الرغبة في استفتاء الشيخ بحرمة الألوان التي يبعثها الدمع لأن "قزح" اسم الشيطان، أو بحكم "الصمم" الذي يعتريك تفادياً للشتائم، أو "نجاسة الدم" وأنت تتوسد قداسة أوجاعه!

في الزنزانة الانفرادية تنصت لعنصريتك المتهاوية أخيراً، آهات الآخرين تصفعك بالوحدة، تميز صوت صديق ربما أو جار، أو لهجة طالما استهجنتها، أو دعاء مقترناً بشبهات حذرك منها تراث، بعيد أنت عنهم لكنك تراهم، تتخيل ملامحهم وتود لو تحتضنها!

في الزنزانة الانفرادية تجرب الشعور بالانكسار، انكسار الظهر وانكسار الأنف وانكسار الصوت وانكسار الدمع وانكسار الأحلام وانكسار الصورة التي اعتنيت بها لتظهرك، تتساءل كيف كنت تدوس بقدميك كائنات محطمة قبل أن تنفرد بهذا الجدار، وأنت تعلن تصنيفاتك للآخرين وتتفاهم بهدوء على حرمانهم من أبسط خيارات المعيشة لأن الأمر موكول بمزاجك، ولا يهادن اعتباراً إنسانياً لأن نموذج الإنسان هو "أنت" بكامل أناقتك.

في الزنزانة الانفرادية تضجر من الانفرادية... بالقدر نفسه الذي كنت فيه ضمن حشود مسيّرة ترتب أولوياتها ببراغماتية مقيتة، لا تبصر الآخرين حتى يكونوا براميل نفط أو مكاسب انتخابية أو صوتاً لا بد من إسكاته! تتساءل:" أين كنت أنا، ومن أولئك؟ ولم الآن وحدي؟

في الزنزانة الانفرادية يخنقك السجن بفوضاه وضيقه، بظلمته وعدد القبور التي يفضي إليها، تسحب اعترافاتك الملقنة وتصرخ عالياً باسم الإنسان... حينئذ يتحطم الباب الوحيد، وحين تخرج لن تخشى معاودة النظر خلفك... لن يعود لزنزانتك الانفرادية وجود.