في أحد أيام الآحاد التي أمضيتها في بوخارست، قرّرت التوجه إلى الكنيسة، وإلى المدينة القديمة وزيارة متاحف وشراء بسكويت العقدية الساخن من إحدى العربات المتجوّلة. في بوخارست قرابة 300 كنيسة رائعة يرقى بعضها إلى القرن السادس عشر. خلال الحكم الشيوعي، هدم نيكولاي تشاوشيسكو بعضها كما خبّأ بعضها الآخر داخل مجمّعات سكنية ضخمة. يذكر أن رومانيا لطالما كانت دولة متديّنة وكان تشاوشيسكو يعرف جيّداً أنه لا يستطيع طمس معالم هذه الكنائس. بحثت عن «كنيسة القديس نيكولاس» الأرثوذكسية الشهيرة، التي تتميّز بقببها السبع، وكنت عرّجت عليها في إحدى الليالي بينما كانت السماء تمطر، فدخلتُها ورأيت شموعاً مغطاة بأغطية داكنة، وذهلت بأيقوناتها وجمالها الأخاذ.آخر زيارة لي إلى كنيسة أرثوذوكسية كانت في روسيا منذ 20 عاماً، وكانت النساء المسنّات يدخلنها وهن يغطين رؤوسهن بوشاح ويركعن ويرسمن علامة الصليب على وجههن ويقبّلن كل أيقونة يحملنها. بعدها، كانت أبواب الحاجز تُفتح ويخرج الكاهن المهيب بقبّعته الطويلة وعباءته الأنيقة ملوّحاً ببخوره محدثاً موجة من الدخان العطر ويتقدّم كورساً من الشبان.تمنيت رؤية هذا المشهد مرّة أخرى، لذا، استيقظت يوم الأحد، آخر صباح لي في بوخارست، ووضبت كاميرتي البالغ سعرها 50 لياَ ( ما يقارب الـ17 دولاراً) وحملت خريطتي وخرجت من الفندق، وما إن خطوت خطواتي الأولى حتى بدأت أسمع ترانيم تتصاعد من الكنائس.عندما سألتني صديقتي ما إذا كنت أرغب في الذهاب إلى بوخارست، أجبت بعفوية: «بالطبع، هل سيتعيّن عليّ تعلّم اللغة الهنغارية؟» فأجابتني: «سيكون تعلّمك اللغة الهنغارية أمراً غريباً. لأن اللغة المحكية في رومانيا هي الرومانية وليست الهنغارية».حينها لم أكن أعرف بوخارست من بودابست، لكن بعدما قصدت بوخارست واستكشفتها، أدركت أنها مدينة مذهلة قائمة على التناقضات، تتجاور فيها الكنائس القديمة مع الشقق السكنية المنهارة المبنية في الحكم الشيوعي؛ واجهات المحلات التجارية المهجورة والمكسور زجاجها مع مقاه راقية؛ الشبان العصريون الذي يرسلون الرسائل القصيرة بواسطة أجهزة الـ «آي فون» يمشون على الأرصفة جنباً إلى جنب مع الكلاب الضالة.شهدت ساحة «يونيفرستي سكوار» في وسط العاصمة بوخارست تظاهرات منددة بالرئيس والحكومة منذ أشهر. لكن في يوم الأحد ذاك من شهر نوفمبر، كان الجو هادئاً والأمن مستتباً في الساحة.باريس الصغيرةتطلّ رومانيا (أصبحت اليوم عضواً في الإتحاد الأوروبي)، على البحر الأسود وتقع بين هنغاريا وأوكرانيا. صحيح أنها ظلت 34 عاماً عضواً متردداً في حلف وارسو، إلا أنها لطالما كانت تتطلّع إلى الغرب لا سيما فرنسا، أكثر منها إلى الشرق، كذلك لغتها أقرب إلى الفرنسية والإيطالية منها إلى اللغات السلافية.تستحضر حدائق بوخارست الكثيرة وجاداتها الواسعة وأرصفتها العريضة إلى الذاكرة مدينة باريس، فهندستها المعمارية مزيج من الهندسة الباروكية والبيزنطية والكلاسيكية الجديدة وفن هندسة الديكور، والهندسة الرومانية التقليدية والهندسة الشيوعية المتردّية.يبلغ عدد سكان بوخارست الرسمي مليوني نسمة، إلا أنه يُرجح أن يكون عددهم الحالي أقرب إلى أربعة ملايين نسمة بسبب تزايد السكان غير المسّجلين في سجلات القيد والذي انتقلوا إلى المدينة بحثاً عن العلم أو العمل.في فترة من الفترات، كانت بوخارست تعتبر «باريس الصغيرة»، وقد جاء هذا الوصف في مكانه، فخلال تجوالي في وسط المدينة، بدا لي واضحاً تأثير الثقافة الفرنسية عليها، فقد زينت المباني بنقوش وتماثيل آلهة الحب عند الرومان وبأعمدة من الرخام، على غرار الأبنية الفرنسية. عند نهاية جادة «كيسيليف بولفار»، ارتفع قوس نصر صغير يشبه ذاك الموجود في باريس إنما بنصف حجمه.تبعتُ أصداء الترانيم فوجدتني أصل إلى كنيسة القديس باسيل الكبرى، وهي مبنى أبيض مرتّب ومزيّن بنقوش ذهبية وبابه على شكل جرس. في القسم الأمامي من حديقة الكنيسة، ارتفع صليب روماني خشبي تقليدي منحوت مثّبت قبالة كوّة صغيرة مسقوفة مضاءة بالشموع. وكان أحد طرفي الصليب يرمز إلى الحياة، في حين يرمز الطرف الثاني إلى الموت.غطيت رأسي بوشاح وتسلقت السلالم. لمّا دخلت الكنيسة، لاحظت أن محتوياتها التي شاهدتها منذ 20 عاماً بقيت على حالها. يزدان كل شبر من جدرانها بأيقونات بعضها مغطى بالذهب أو الفضة، وسقفها المقبّب مغطّى بجداريات ويتدلّى منه شمعدان متلألئ تنسدل منه حبّات كريستال وأيقونات وعصافير أجنحتها ذهبية اللون.كان صدر الكنيسة مكتظاً بالناس، لذا وقفت جنباً إلى جنب مع المصلّين ورحت استمع إلى الكاهن وهو يحتفل بالصلاة. ركعت امرأة على ركبتيها وأغمضت عينيها. فجأة شعرت برغبة في استراق النظر إليها، إلا أنني قررت عدم فعل ذلك والخروج من الكنيسة.وبينما كنتُ في طريقي إلى شارع النصر، سمعت ترانيم صادرة من خمس كنائس قديمة تقع على طول هذا الشارع، وقد دفعني جمال هندستها والأصوات الصادحة المتأتية منها إلى الدخول إليها.احذروا الكلابفي بوخارست الكلاب البرّية في كل مكان: مستلقيةً على عتبات أبواب المنازل، وطليقةً حرّةً تتنّزه على الأرصفة، ومنغمسة في مستوعبات النفايات بحثاً عن الطعام. كل ليلة، كنت أسمع نباحاً قوياً خارج الفندق.صحيح أن هذه الكلاب الضالة والشرسة تبدو كلاباً عادية، إلا أنها ليست كذلك في واقع الأمر، ذاك أنها تعض سنوياً 6 آلاف شخص. وفي الأعوام الخمسة الماضية، تسبّبت بمقتل شخصين.في هذا الإطار، أطلقت الحكومة الرومانية برنامجاً لإيجاد حل لهذه الكلاب يقوم على إخصائها وقتلها قتلاً رحيماً، إلا أن أياً من هاتين الطريقتين لم يحقق النتائج المطلوبة. بدأت المشكلة عندما استولى تشاوشيسكو على المنازل ودمّر أحياء كاملة لتنفيذ مشاريعه الضخمة. حينها أُجبرت العائلات على الانتقال إلى شقق سكنية صغيرة ما اضطرها إلى التخلّص من حيواناتها الأليفة وإطلاق سراحها. لكن الحيوانات الضالة تزاوجت حتى بات عددها يُقدّر اليومبـ 50 ألف كلب ضال تجول في مختلف أنحاء المدينة.مع إعدام تشاوشيسكو (25 ديسمبر 1989)، انتهى حكم دام 45 عاماً، إلا أن مشاكل رومانيا لم تنته مع وفاة رئيسها. ومن جملة هذه المشاكل، الكلاب الضالة في الشوارع والممتلكات التي لم يُطالب بها أحد، المنازل والمباني التجارية التي أُمّمت في ما مضى ولا يُعرف اليوم لمن تعود ملكيتها. اليوم، ثمة تداخل بين الشوارع الراقية التي تزدهر فيها الشركات والمتاجر الفخمة، والمباني المهجورة والمساكن الوضيعة.في معظم الحالات، إما تكون المباني مجهولة من ناحية مالكيها، وإما تكون ملكيتها معروفة إنما الأوراق الرسمية الخاصة بالمبنى أو المتجر أو الشقة عالقة في الإدارات الرسمية التي ترزح تحت وطأة بيروقراطية إدارية خانقة. وعليه، يبدو رجال الأعمال في حيرة من أمرهم ومتردّدون بشأن البدء بأعمال الصيانة والترميم. فماذا لو ظهر أصحاب العقارات الحقيقيون؟ لذا يسود المدينة نوع من الشلل.ذات مساء، وبينما كنت أحتسي شراباً في أحد المقاهي مع صديقتي الرومانية، قلت لها: «تبدو لي بوخارست اشبه بمدينة على وشك الإنبعاث»، فأجابتني: «أجل، المدينة على هذه الحالة منذ عشرة أعوام». ساحة الثورةفي صباح يوم أحد، كانت ساحة الثورة الواقعة في الطرف الثاني من المدينة القديمة شبه فارغة. تتميز واجهتها بمبانٍ ذات هندسة معمارية رائعة: الكنيسة البيضاء التي بُنيت في القرن الثامن عشر، دار الأثينايوم الرومانية للأوبرا، متحف الفنون الوطني (معروف سابقاً بالقصر الملكي) حيث أمضيت ساعة من الوقت في تأمّل لوحات تبدو فيها نساء جديات حواجبهن كثيفة وسوداء، وأخرى يبدو فيها رجال يرتدون قبّعات مذهلة.في الطرف الثاني من الساحة يقع مبنى الحزب الشيوعي حيث وجه الرئيس تشاوشيسكو في 21 ديسمبر 1989 (كان يرتدي آنذاك قبعة ومعطفاً من الفرو) خطاباً إلى الجماهير التي تجمّعت أمام مقرّ الحزب واكتشف مع الوقت أنها انقلبت ضده. حاول هذا الديكتاتور الهروب من البلاد، إلا أنه ألقي القبض عليه وإعدامه بعد أربعة أيام.يبعد هذا المكان الرائع- الذي انطلقت منه شرارة الثورة- خطوات عن قلب بوخارست القديمة، حيث شيّد راعي الخرفان بوكور كنيسة في القرن الرابع عشر تمهيداً لبناء المدينة، وبنى الأمير فلاد المخوزق قصره في القرن الخامس عشر ( لم تعد كنيسة بوكور موجودة، فيما يبقى قصر فلاد قائماً).في القرون الوسطى، كانت هذه المدينة القديمة مركزاً للحركة التجارية وحملت شوارعها المتعرّجة والمرصوفة بالحجارة أسماء أنواع التجار: تجار الفراء، السكّافون، صانعو القبّعات، الصاغة، والحدّادون.وفي هذا المكان تحديداً، تقع أقدم كنيسة في بوخارست The Old Court Church التي بُنيت عام 1559، وأقدم فندق في المدينة Manuc’s الذي بُني عام 1808. وكان تجار الأرياف ينزلون في هذا الفندق لقضاء الليلة والتوجه في اليوم التالي إلى السوق لبيع سلعهم، كذلك كانوا يركنون عرباتهم في باحة الفندق المرصوفة بالحجارة.أصبحت «المدينة القديمة» اليوم مزيجاً غريباً ورائعاً من الحداثة والقدم. فهي تدمج بين الأحياء المهجورة من جهة، والأحياء المليئة بالمقاهي والمعارض من جهة أخرى. وعلى طول شارع ليبسكاني، لاحظتُ وجود خيم زرقاء كان الفنانون يبيعون فيها المجوهرات والأوشحة والحلويات والفرو، ورأيت قارئة حظ غجرية، وببغاءً حقيقياً يقف على قبّعة صاحبه ويصدر موسيقى خارج الإيقاع على وقع قرع برميل.وفي إحدى الخيم ذات السقف المحبوك، كان ثمة بائع طعام يعدّ كعك كورتس كولاك (كعك المدخنة) وهو كعك تشتهر به منطقة ترانسيلفانيا. كانت شرائح رقيقة من العجين تُمدّ حول اسطوانة خشبية موضوعة فوق الفحم، ثم يغطّس الخبز الساخن في القرفة والمكسّرات المطحونة. كم كانت رائحتها شهية! ولكن حينها كان المال قد نفذ مني.في الواقع، صرفت ما تبقى لديّ من مال عند عربة طعام حملت لافتة كُتب عليها بحسب ما أذكر: «سندويش تشيلي». لقد انتابتني آنذاك رغبة في صرف آخر قرش لدي على هذا السندويش، لكن كم كانت خيبتي كبيرة عندما أدركت أن سندويش التشيلي الغامض كان مجرّد سندويش هوت دوغ عادياً.في وقت متأخر من ذلك النهار، وأنا في طريق العودة إلى الفندق، تهت فانعطفت في المرّة الأولى ثم الثانية لأجد نفسي أمام كنيسة القديس نيكولاس. نظرت عبر سياجها الحديدي إلى بابها المقوّس الضخم وإلى قببها اللمّاعة. كان القدّاس قد انتهى. إلا أنني لم أكن لأدخل الكنيسة على كل الأحوال، لأنه سبق لي أن زرتها مراراً وتكراراً ولم أعد أشعر بحاجة إلى فعل ذلك.
توابل - EXTRA
بوخارست... عاصمة رومانيا تقوم من تحت أنقاض ماضيها
25-09-2012