ثمة من يراقبني، لكن لا فكرة لدي على يد من أو من أين. لست متأكدًا من أنني أسير في الاتجاه الصحيح، مع أنني أعرف أن المخرج في مكان ما، على مقربة من هنا حيث تنتهي الأحياء الفقيرة وتبدأ الأحياء الراقية في ريو.

إلا أنني لست قلقًا حيال مسألة الأمان أو حيال الحقيبة على ظهري التي تتضمن، من بين أغراض أخرى، كاميرا بقيمة 1200 دولار. في الواقع، يمكن للامبالاتي النسبية في هذا المكان أن تشير إلى تحول كبير بالنسبة إلى السياح في ريو.

Ad

حتى لو لم تشاهد الفيلم الخيالي City of God، أو Elite Squad الأكثر إثارة أو الفيلم الوثائقي Bus174، لا شك في أن لديك فكرة عن سمعة ريو القديمة بأنها مشبوهة: تقع في مكان جميل ومثالي للحفلات لكن، بحسب التحذيرات، إذا كنت ترتدي لباسًا خاطفًا للنظر وابتعدت عن المسارات التي يسلكها السياح، فقد تتعرض للسرقة. ماذا عن الأحياء الفقيرة؟ لا تقترب منها يا صديقي سوى في الرحلات السياحية المنظمة وإلا سيقطعونك إرباً.

لست أقارن ريو الأيام الخالية ببغداد في زمن الحرب، ولا أؤكد أن الجريمة حولت اتجاه المسافرين بعيدًا عنها. شكلت ريو بقعة سياحية على مدى عقود، وكان السياح يجوبون المدينة بمئات الآلاف لحضور الكرنفال في فبراير، لكن الجرائم التي تستهدف السياح ترتفع كل عام خلال هذا المهرجان الصاخب، وقد أثارت الجرائم الصغيرة وعمليات السلب العنيفة مخاوف الزوار، أكثر من معظم المدن السياحية في العالم.

في أكتوبر، زرت ريو لأعرف إلى أي مدى سأشعر بالأمان وأنا أتنقل في المدينة بمفردي. سافرت كثيرًا وزرت مناطق غامضة في العالم، لكني وصلت إلى البرازيل وأنا أشعر بالتوتر. فقد تعرّض صديق لي للسرقة مرتين  خلال زيارته إلى ريو قبل خمس سنوات.

 وفي أواخر التسعينيات، أفاد أحد معارفي أنه تجوّل في مطار ريو ورأى جثث الأطفال الذين يعتقد أنهم قتلوا على يد الشرطة الفاسدة نيابة عن أباطرة المخدرات.

على طول الطريق إلى الفندق كنت أطل من النافذة بحثًا عن أدلة لمدينة يديرها العالم السفلي، لكنني لم أرَ شيئًا من هذا القبيل، بل رأيت دليلاً صارخًا على التناقض الطبقي. تنتشر الأحياء الفقيرة المتداعية على التلال على مستوى المدينة، وتبدو كأنها قطع لغز وضعت في غير محلها بين الأحياء الراقية المحاطة بالأشجار.

كانت الأحياء الفقيرة التي أنشأها العبيد في القرن الثامن عشر وتحولت في العصر الحديث إلى الاتجار بالمخدرات وترويج الفوضى والعنف، من أولويات المسؤولين في المدينة الذين يأملون الحدّ من الجرائم قبل نهائيات كأس العالم 2014، ودورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2016 في ريو دي جانيرو.

في نوفمبر 2010، أطلقت الشرطة برنامج «التهدئة»، ونقلت وحدات إلى الأحياء الفقيرة تعبيراً عن تغيير النظام القديم الذي قضى بإرسال ضباط لتوقيف المشاغبين المعروفين. تستطيع الشرطة المتمركزة في المجتمعات المحلية بناء علاقات مع السكان وعلى الأقل كسب بعض الاحترام الذي قد يترجم بالتخفيف من ارتكاب الجرائم. كذلك، قد يفكر المجرمون مرتين قبل ارتكاب جرائم خارج الأحياء الفقيرة والهروب إليها، علماً أنهم قد يلتقون بالشرطة في مكان كان يعتبر ملاذًا آمنًا نسبيًا.

ماذا عن النتائج؟ من يناير إلى سبتمبر 2011، انخفضت جرائم القتل بنسبة 8 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق، وتراجعت سرقة السيارات 11 في المئة تقريباً وانخفضت أعمال السطو التي تليها جرائم قتل بنسبة 30 في المئة، وفقًا لنشرة من معهد ريو دي جانيرو للسلامة العامة.

بحسب جوليا مايكلز، التي تكتب مدونة حول الجريمة في ريو (www.riorealblog.com): «من الواضح أنها أصبحت مدينة أكثر أمانًا، وأفضل مؤشر على ذلك هو أسعار العقارات في الأحياء الفقيرة وبالقرب منها التي تشهد ارتفاعًا صاروخيًا. ما زلنا نسمع طلقات رصاصات طائشة من حين إلى آخر بعدما  كانت تسمع باستمرار وتشكل أحد أسوأ جوانب الحياة في ريو».

سانتا تيريزا

ازدهرت الأحياء التي كانت في الآونة الأخيرة مريبة للسياح، من بينها سانتا تيريزا، حيث مكثت. ينحدر هذا الحي من سلسلة التلال على بعد أميال إلى الشمال من المناطق السياحية الرئيسة في كوباكابانا وايبانيما. حتى سنوات قليلة مضت، كانت السلطات السياحية تحذر السياح من السير في الحي  بسبب الاتجار بالمخدرات.

انطلقت من فندق سانتا تيريزا، وهو ملكية راقية بنيت في مزرعة بن تعود إلى 150 عامًا. بعد بضع خطوات سحبت الكاميرا التي أحملها على ظهري لتصوير عمارة مبنية على طراز استعماري، وشوارع مرصوفة بالحجارة ومقاهٍ على الرصيف. تحققت من كل المارة، لأتجنب كل من يمكن أن يكون سارقًا. لكنني لم ألمح أي تهديدات أو إيماءات هجومية، أو إشارة إلى أن أي شخص يهتمّ بي أو بأغراضي.

يمتد الشارع الرئيس في سانتا تيريزا على طول سلسلة التلال، ويمتاز بمحلاته الملونة ومتاجر الملابس المريحة المتاخمة للمطاعم والمخابز والحانات المريحة. زرت المحلات التجارية وتوقفت تدريجًا عن النظر إلى الخلف في كل مرة أصوّر مشهدًا في الشارع أو مبنى أو مشاهد مذهلة من جانبي التلال، نحو وسط مدينة ريو أو البحر البعيد.

حول إحدى الزوايا، في شارع يتألف من منازل مبنية على طراز قديم تذكر بمنطقة مارينا في سان فرانسيسكو، كان طاقم فيلم يصور مشهدًا لأحد المسلسلات، فخلصت إلى أنه، في وضح النهار على الأقل، ليس لدي ما أخشاه.

تسلقت درجًا حجريًا مرصوفًا بالبلاط إلى فناء Cafecito الغامض، وهو مقهى في الهواء الطلق حيث يرتشف زبائن يرتدون ملابس غير رسمية القهوة والبيرة ويدخنون ويكتبون. وقد أدت مثل هذه الأماكن إلى اعتبار سانتا تيريزا مجددًا استراحة بوهيمية.

شربت كوبًا مذهلاً من القهوة - من العلامة التجارية البرازيلية، دونا ماتيلد – وتناولت شطيرة من سمك السلمون المرقط المدخن والجبن مع صلصة زيت الزيتون.

كان المشهد ككل لطيفًا، وقد حان وقت الذهاب أبعد من ذلك، فنزلت إلى أسفل تلة كبيرة حيث يؤدي الشارع إلى سلالم حجرية متصدعة. رأيت القمامة والكتابات على الجدران والمنازل القديمة، لكني رأيت أيضًا منازل راقية، ومحلات تجارية مفتوحة مزدحمة بسكان محليين.

«الجريمة؟ مكافحتها أفضل بكثير الآن»، تقول ساندرا، في الثلاثين من عمرها وتدرس لتصبح قاضية. التقيت بها برفقة صديقها مات من سان رافائيل، كاليفورنيا، وهو في الخمسين من عمره. وأضافت: «لكن بعد العام 2016، لن يكون عليك سوى الهرب}.

رأت ساندرا المفاجأة في عيني. «إنها طبيعة الناس هنا؛ بمجرد الانتهاء من كأس العالم والألعاب الأولمبية، سوف تعود الحالة إلى ما كانت عليه في السابق».

يؤيد بعض الخبراء وجهة النظر هذه. يقول إليوت بروكنر، المدير الإقليمي لشركة إدارة المخاطر الدولية iJET في الأميركتين، إن فساد الشرطة يبقى قضية رئيسة في ريو، والشعور السائد هو أنه من دون التزام مستمر بمكافحة الجريمة بعد العام 2016، لن تكون هذه المكاسب سوى موقتة.

لاحظت أن ساندرا ومات ومعظم السكان المحليين الآخرين يرتدون مجوهرات، وأحذية جميلة وملابس جذابة ويحملون المحافظ وأكياس التسوق بمبالاة.

وفي صباح أحد الأيام، دخلت أكشاك سوق المزارعين في حي بوتافوغو التي تعرض فاكهة استوائية من مزارع غرب ريو. سرت على طول شاطئ خليج غوانابارا، والتقيت أشخاصاً يمشون ويركضون ويستقلون دراجات هوائية.

في بارك فلامنكو، حديقة مقابلة للخليج، كانت فرقة تقدم عرض الكابويرا (رقص برازيلي رياضي فني) أمام حشد من المتفرجين. استأجرت دراجة هوائية واتجهت نحو كوباكابانا، وكما في العطل وأيام الآحاد، تغلق ثلاثة مسارات على شاطئ البحر أمام حركة مرور السيارات، وينتشر فيها راكبو الأمواج وموسيقيو الشوارع والباعة المتجولون المتسكعون.

يلتقط السياح الصور ومقاطع الفيديو، ويثرثر السكان المحليون على هواتفهم، وتمتلئ الأكشاك التي تبيع عصائر ومأكولات الخفيفة على شاطئ البحر بالزبائن. أما الشاطئ فواسع ونظيف ومعظم شبكات كرة الطائرة قيد الاستخدام.

حتى في خضم هذا الازدحام في وضح النهار، ترددت قبل سحب الكاميرا أو المحفظة. يبدو سلوكي غريباً حتى بالنسبة إلي، لكنه متماشٍ مع التحذير الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية للسفر إلى ريو:

«لا تزال المدينة تعاني ارتفاع معدل الجريمة. يتعرض السياح للسرقات وعمليات السطو المسلح في الشوارع وفي الأماكن المتاخمة لمناطق الجذب السياحي وعلى الشواطئ الرئيسة في المدينة. لا تأخذ معك أغراضاً قيّمة إلى الشاطئ، وانتبه إلى محيطك وسلوك الأشخاص من حولك، فقد تم التبليغ عن حوادث تسريب اللصوص والمغتصبين للمخدرات في المشروبات في الحانات وغرف الفنادق، أو الاحتفالات في الشوارع «.

فضلاً عن ذلك، نصائح الوكالة حول الأحياء الفقيرة هي أكثر وضوحًا: «يقع معظم الأحياء الفقيرة خارج سيطرة المسؤولين في المدينة والشرطة. لذلك، يجب تجنب الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو، وحتى تلك التي تمت «تهدئتها» أخيراً من قبل الحكومة.

تقدم شركات محلية «جولات في الأحياء الفقيرة» تستهدف السياح الأجانب. كن على علم أنه لا تضمن الشركة السياحية ولا شرطة المدينة سلامتك عند دخول الأحياء الفقيرة، وربما في نهاية المطاف تستخدم رسوم الجولة لدعم أنشطة العصابات الإجرامية». أنا سعيد لأنني لم أقرأ هذه التوصيات قبل دخول فيديغال.

فيديغال

بالنسبة إلى مغامرة فيديغال، فأدين بها إلى مراسل أجنبي في «واشنطن بوست»، خوان فوريرو. في أكتوبر، أبلغني أن دار ضيافة سياحية فتحت أبوابها أخيراً في الجزء العلوي من الأحياء التي تشهد أعمال عنف. على الهاتف، طلب مني  أندرياس ويلاند، صاحب كازا ألتو فيديغال أن آتي من دون  أن يكون لدي أدنى قلق من الجريمة.

لأكون صادقًا، أخشى على حياتي في فيديغال، وعلى طول الطريق صعودًا إلى دار الضيافة على الدراجة النارية، غرزت أظفاري في المقعد وانحنيت نحو السائق الذي أسرع  إلى التلال المنحدرة متمايلاً بين السيارات والناس والكلاب كما لو كان في ضمن لعبة فيديو. عندما توقفت دراجته في ثلثي الطريق صعودًا، نزلت وبدأت أمشي بسرعة، غير مبالٍ إلى أين أتّجه، لكنه أعاد تشغيل الدراجة وأصر على إنهاء الرحلة.

في فناء فيديغال ألتو كازا المرسوم بشكل غريب الأطوار مع مناظر التلة الآسرة المطلة على الأحياء الفقيرة وشاطئ ايبانيما بعدها، قال لي خورخي ميلينديز الذي يساعد في تشغيل دار الضيافة: «أنت أكثر أمانًا هنا من أي مكان آخر في ريو». يريد تجار المخدرات هنا أن يعملوا، ولن يسمحوا بحدوث جرائم ضد السياح في فافيلا، لأنها ستجذب انتباه الشرطة إليهم».

أضاف ميلينديز: «تسكع في الخارج قدر ما تحب وسترى المسدسات والمخدرات، والتجار. صدقني، إنهم يرونك، لكنهم لا يزعجون أحدًا حقًا». سألته: هل يمكنني إذًا أن أمشي من هنا من دون أن أصاب بأي مكروه؟ أجابني: «صحيح، لكن لا تلتقط الصور في أي مكان لأن ذلك قد يثير الشكوك، واتبع هذا الطريق- مال بيده نحو درج وعر وغير منتظم - وسوف تصل إلى وجهتك».

مشيت في طريق فيديغال الرئيس، وبدل رؤية أشخاص يرقصون فرحًا ضمن دوائر مغلقة، وجدت قرية كاملة تنبض كوحدة. لا أقصد إضافة رومنسية إلى الفقر- على المدى البعيد يحتاج سكان فافيلا إلى أكثر من الشرطة إلى جوارهم- لكن ينتشر في فيديغال شعور واضح بالتزام مشترك لتحقيق الأفضل.

الاطفال يلعبون، وسيارات الأجرة تحدث أزيزًا وأصحاب المحلات يتجمهرون، والموسيقى تخرج من مكبرات الصوت، فتشعر كأن مزيج هذه الأصوات أشبه بالأوبرا. لم أرغب في المغادرة، لذلك جلست في مقهى في شارع فيديغال الرئيس، وطلبت طبقًا من السمك واستمتعت بايقاعات الحياة في الشوارع البرازيلية.