عشية يوم السبت على الحدود الأردنية- السورية، صعد العقيد نواف طهراوي، قائد الحرس الحدودي الملكي الأردني، إلى أعلى برج مراقبة مؤلف من ثلاثة طوابق، كان قد بُني بالقرب من مجرى نهر.في تلك الغرفة المظلمة والمعزولة، سأل طهراوي جندياً كان يشغل نظام الكاميرات الحرارية والمتطورة إذا كان رصد أي حركة في منطقته، فأجاب بأنه شاهد بعض الكلاب فقط، ولكنه أضاف أن الحركة ستنشط قريباً بلا شك. كانت الكاميرات المعلقة في أعلى برج المراقبة تركز على سورية تحديداً. وكان مشغل الكاميرات، وهو جندي عمره 23 عاماً، يشاهد الحرس الجمهوري الموالي للرئيس السوري بشار الأسد وثوار الجيش السوري الحر وهم يقاتلون قوات الأسد. قال طهراوي إن الفريقين كانا يتبادلان إطلاق النار على طول الحدود وكانت النيران تخترق الأراضي الأردنية أحياناً: "إطلاق النار يملأ المكان!".كانت الكاميرات ترصد حركة اللاجئين في الظلمة أيضاً. في الليلة السابقة، قال العقيد إن أكثر من ألف لاجئ عبروا الحدود الأردنية، وقد قطع 500 شخص منهم المسافة براً من أمامنا، ثم توقع عبور عدد مماثل في تلك الليلة أيضاً: "صاروا يأتون بوتيرة أسرع الآن".معاناة اللاجئينبدأت الانتفاضة السورية في السنة الماضية في درعا الواقعة على بُعد أميال قليلة من ذلك المركز الحدودي. أُفرغت المدينة ومحيطها من المدنيين بشكل منهجي بسبب قمع النظام السوري. يقيم عدد من الناجين في مستودعات في مخيم الزعتري على بُعد بضعة أميال. اعتباراً من الأسبوع الماضي، شمل مخيم الزعتري حوالى 42 ألف سوري و5 آلاف خيمة. أصبح الأردن اليوم الموطن الموقت لمئتي ألف لاجئ سوري على الأقل.انتظرنا بعض الوقت في برج المراقبة، ثم هتف الجندي: "ها هي! ها هي الشاحنات". شاهدنا خطاً مؤلفاً من ست شاحنات ظهرت وكأنها صخور بيضاء تخترق خلفية الظلام الداكن وقد انطلقت من بلدة الطيبة الواقعة على بُعد ميلين داخل سورية. كانت عناصر الجيش السوري الحر تقود الشاحنات. قال طهراوي إن الثوار يسلّمون الجرحى في البداية، فقد نشر الجيش الأردني مراكز لإسعاف الجرحى في الجوار. ثم يظهر طابور من اللاجئين الذين يحملون الحقائب والأطفال على ظهرهم. غيّر الجندي وجهة كاميراته. بعد فترة قصيرة، شاهدنا الناس الوافدين بالمئات. كانوا يجلسون على الأرض ثم نهضوا فجأةً وكأنهم كتلة واحدة وظهروا على الشاشة حين بدأوا يتحركون ببطء.قال طهراوي: "سيصلون إلى هنا قريباً. لنذهب ونستقبلهم". نزلنا من أعلى البرج ومشينا عبر الحقول وسط هواء بارد. نزلنا إلى أحد الوديان وانتظرنا. ربما اخترقنا الأراضي السورية. لم تكن الحدود مرسومة. صحيح أن الأردنيين يحرصون على البقاء ضمن حدودهم، لكن يصعب الالتزام بذلك في الظلام.بعد فترة قصيرة، سمعنا صوت محرك شاحنة: وصلت أول دفعة من الجرحى. توقفت الشاحنة أمامنا ونزل منها رجال مسلحون. كانوا ملتحين ويحملون أسلحة من طراز AK-47 وكانت أعصابهم منهارة. عرّفني عليهم الأردنيون. ثم صرخ أحد الثوار: "أسلحة! أخبروا أوباما بأننا نحتاج إلى الأسلحة!". وهتف شخص ثانٍ: "لدي ستون رصاصة فقط! ستون! ماذا يمكن أن أفعل بها؟".كان "الشبيحة" الموالون للأسد منتشرين في الجوار. أصبح نقل اللاجئين يثير رعباً متزايداً خلال الليل.بدأ الثوار يُنزلون الجرحى. قال أحد الثوار وهو يشير إلى رجل متمدد على حمالة: "تعرض هذا الرجل للتعذيب. انظروا ما فعلوه به!". أنزل أحد الثوار سروال الجريح وتبين أنه ضُرب على مؤخرته وتمزق جلده. أُنزل رجل آخر من الشاحنة. أطلق عليه النار قنّاص تابع للنظام، وأصابه في بطنه قبل بضع ساعات. كانت ملابسه غارقة بالدم.قال أحد الأردنيين بكل هدوء: "لا أظن أنه سينجو".مأساة حقيقيةقُتل نحو 40 ألف شخص خلال الانتفاضة السورية حتى الآن وفق بعض التقديرات. يستعمل الأسد طائرات مقاتلة ومروحيات لقصف مدنه الخاصة. لقد أصبحت الحرب مأساة إنسانية بمعنى الكلمة. يطرح التدخل (حتى باستعمال القوة الجوية فقط) تحديات ومخاطر هائلة على الغرب، لكنّ التفرج على الوضع يترافق مع ثمن باهظ أيضاً.أمسك أحد الثوار يدي ومشينا في الظلام. أنا لم أسأله شيئاً ولكنه قال لي: "أنا لستُ من القاعدة. حين نقتل بشار، سأحلق ذقني. أنا طالب حقوق لكن لا خيار آخر لدي. بشار قتل شقيقي".وسط الظلام، كان يستحيل رؤية المكان بوضوح. ساد سكون تام مجدداً. ثم سمعناهم. ارتفع صوت بكاء الأطفال في البداية. ثم علت أصوات الناس وهم يتحركون ويتعثرون. مروا من أمامنا. النساء كنّ يرتدين الحجاب ويغطّين وجوههن بالأوشحة ويحملن الأطفال لحمايتهم من البرد. كان بعض الأطفال نائمين. بدا أن ذلك المشهد لا نهاية له. ظهر رجال مسنون في الظلام وكانوا مرهقين ويلهثون. كان معظم اللاجئين حذرين ومتيقظين. حين أدركوا أنهم عبروا الحدود الأردنية ركض بعضهم بسرعة.لم يستطع أحد الرجال التحرك. فجاء طهراوي لمساعدته. كان الرجل يبكي. قال إن ابنه انشق عن الجيش، فجاءت قوات الأسد إلى بلدتهم لمطاردته. وبما أنها لم تجد الابن، عمدت إلى تعذيب الأب. كشف لنا عن آثار التعذيب على معصميه. هو لا يعلم مكان ابنه ويفترض أنه ميت.حضن أحد الجنود الرجل وقال له: "أنت في الأردن الآن. أصبحتَ بأمان".
مقالات - Oped
الثوار السوريون... قصة حسرة وألم ودماء
18-11-2012