في زيارة لمدينة بريدة في إقليم القصيم بالمملكة العربية السعودية قبل أسبوع تقريباً، وبمعية الزميلين صلاح السيف وخالد المزيني، وعند التجول بالسيارة في القرى الصغيرة المحيطة ببريدة، التقينا رجلاً يلبس بشتاً أسود، ولا يعتمر العقال، وعمره يزيد على السبعين بقليل، شاهدني وأخي صلاح السيف نتحدث، فأدرك من لباسنا وملامحنا أننا من خارج السعودية، فأقبل علينا من بعيد وعلى وجهه ابتسامة طبيعية يغمرها الفرح، وكأنه قد لمح أقارب له بعد فراق طويل.

سلم علينا، وسألنا من أين نحن، فأبلغناه أننا من الكويت وأننا جئنا لزيارة مدينة بريدة، فسارع من فوره بدعوتنا إلى تناول القهوة والشاي، كعادة أهل السعودية المضيافين الكرماء، فاعتذرنا إليه، لأننا نقوم بجولة سياحية في المنطقة.

Ad

فقال لنا إنه لا ضرر من قضاء عشر دقائق أو ربع ساعة لشرب القهوة والشاي في استراحته القريبة. وظل يصر ونحن نعتذر، إلى أن قلت له إن القرار ليس بيدنا بل بيد مرافقنا من بريدة الزميل العزيز عبدالمحسن بن يحيى السيف، وعندئذ أقبل علينا الزميل عبدالمحسن، وبعد أن صافحه الرجل المسن، دعاه إلى شرب الشاي والقهوة، فاعتذر عبدالمحسن، وأصر الرجل مرة أخرى، واعتذر عبدالمحسن، وأصر الرجل مرة ثالثة، وهنا سأله عبدالمحسن عن موقع قرية عيون الجواء القديمة، فقال له الرجل إنه مستعد للذهاب معنا إلى القرية القديمة بشرط أن نقبل دعوته إلى الشاي والقهوة، وهنا لم يجد عبدالمحسن بدّاً من قبول الدعوة، وانطلقنا فوراً إلى القرية القديمة، التي سعدنا جداً برؤيتها والتجول بين بيوتها الطينية ودكاكينها المهجورة، ومسجدها الرائع.

في الحقيقة كانت زيارة لم نتخيلها، فقد أخبرنا الرجل المسن، وهو العم سليمان عبدالله صالح الوشمي، أن هذه القرية هي موطن عبلة محبوبة عنترة بن شداد، وأن عنترة كان يلتقي عبلة سراً بجانب صخرة خارج القرية مازالت موجودة حتى اليوم.

وفهمنا من العم بوناصر، ومن أبنائه الكرام بعد ذلك، أن عنترة كان يسكن في قرية أخرى تبعد 80 كيلومتراً عن عيون الجواء اسمها "القصيباء"، وأنه كان يأتي بالخيل إلى هذه الصخرة ليلتقي حبيبته عبلة، التي لم يكتب له الله أن يتزوجها، فظل عاشقاً لها مدى حياته، وتغزل بها كثيراً في أشعاره ومنها قوله في معلقته الشهيرة:

يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلمي

وعمي صباحاً دارَ عبلةَ واسلمي

فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها

فدنٌ لأقضي حاجة المـتلوِّمِ

وتحلُّ عبلةُ بالجواءِ وأهلنا

بالحزْنِ فالصمانِ فالمتثلمِ

إلى أن يقول:

هلا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

إنْ كنتِ جاهلةً بمــا لم تعلمـــــي

يخبركِ من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ

ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ

مني وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي

فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها

لمعتْ كبــارقِ ثغركِ المتبســـــمِ

تجولنا في القرية القديمة التي تعود بيوتها المبنية من الطين إلى أكثر من 200 عام، وبها مسجد لا يوصف لروعته، وجماله، ومنظره التاريخي، وأعمدته التي تزيد على الثمانين عموداً، ويتسع لأكثر من ألف مصل، بناه شخص اسمه "منيع"، وعشنا لحظات جميلة وكأننا في مضارب بني عبس التي نسمع عنها ولا نراها.

وقرية عيون الجواء دارت فيها معركة داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان، ويُعرف معظم أهلها بأنهم كانوا من العقيلات الذين اشتهروا بالتجارة وضربت فيهم الأمثال لأمانتهم. وقد زار الرحالة بالغريف عيون الجواء في عام 1862 ومعه رفقة تصل إلى 30 شخصاً، وذكر أنها بلدة محصنة وبها عدد من المراقب والأبراج، ويبلغ عدد سكانها أكثر من عشرة آلاف نسمة، كما زارها الرحالة غوارماني عام 1868، والرحالة لتشمان عام 1912 الذي التقط لها أول صور فوتوغرافية، وقضى بها عدة ليال، ووصف أهلها بأنهم عمليون، ومرحون، وواسعو الأفق. أما المؤرخ غوردون لوريمر فقد زارها أيضاً، وقال إن لها تجارة واسعة، وإن عدد سكانها خمسة آلاف نسمة. سألت العم بوناصر وأبناءه عن العائلات التي تسكن في هذه القرية منذ أمد بعيد، فأخبرني بأن العائلات القديمة هي عائلة الوشمي، وعائلة الرباح، وعائلة الصقعبي، وعائلة العمرو، وعائلة العقيل، وعائلة العساف، وعائلة العجلان، وعائلة الرشيد، وعائلة المطلق، وقال إن لأسرته فرعاً في الكويت، وهو المرحوم حمود سليمان عبدالله المضيان وأبناؤه.

لقد غمرنا العم سليمان الوشمي بكرمه، وحسن ضيافته، ولم يتركنا نخرج دون أن نتناول الغداء معه ومع أبنائه الأفاضل، وشعرنا ونحن في ضيافتهم بحب فطري متبادل، وأننا بين أهلنا وإخواننا، وفي مخيلتنا كنا نستذكر حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين عاماً، وملحمة العشق الخالد بين عنترة بن شداد وعبلة العبسية.

الصورة: مع أحد أبناء العم سليمان عبدالله الوشمي أمام الصخرة التي كان يلتقي عنترة عندها حبيبته عبلة