بوصول الإسلاميين إلى الحكم في دول الثورات تصاعدت المخاوف من أن يعمد الإسلاميون بعد إحكام سيطرتهم على مؤسسات الدولة إلى تقويض أسس الدولة المدنية لمصلحة الدولة الدينية، فما أبرز سمات الدولة الدينية وما مخاطرها؟

Ad

 في تصوري أن أبرز هذه السمات التي تشكل فارقاً أساسياً عن الدولة المدنية هي:

1- مرجعية الفقيه: الدولة الدينية مرجعيتها "الولي الفقيه" كما في الحالة الشيعية و"المرشد الفقيه" في الحالة السنية، فهو الذي يقرر ما يراه صالحاً في كل شؤون المجتمع والدولة من غير معقب، بينما المرجعية الأساسية في الدولة المدنية هي الدستور والبرلمان الممثل للأمة.

2- تقليص مفهوم المواطنة: الدولة الدينية لها مفهومها الخاص للمواطنة، وهو مفهوم مختلف عن مفهوم المواطنة في الدولة المدنية، مفهوم المواطنة في الدولة الدينية مفهوم قاصر وعابر: قاصر لأنه يميز بين المواطنين على أسس مذهبية ولا يحقق العدالة السياسية، ولا تكافؤ الفرص في مناصب الدولة والحقوق والامتيازات المختلفة، فالدولة الدينية تقصر مفهومها للمواطنة على المنتمين إلى دينها، بل قد تضيق المفهوم ليقتصر على التابعين لمذهبها كما في الحالة الإيرانية، فهي لا تعترف بالمواطنة السياسية والقانونية لجميع أبناء الوطن على قدم المساواة، فتقصي غير المسلم من بعض الحقوق والامتيازات، فلا تسمح له بأن يتولى مناصب القيادة والتوجيه، كما أن غير المسلم لا يملك حرية إقامة المعابد كما يفعل المسلم إلا بناءً على شروط وضوابط متعسفة، بل قد لا تسمح الدولة الدينية لبعض الطوائف الدينية مثل البهائية والبوذية وغيرهما من إقامة دور للعبادة، مع أنهم مواطنون ومن حقهم أن يكون لهم مكان لعبادتهم طبقاً لـ"لكم دينكم ولي دين"، بل هناك من الفقهاء في الخليج من يحرم حتى إقامة الكنائس في جزيرة العرب بناءً على فهم ضيق لأحاديث نبوية.

والدولة الدينية إذ تفرق بين المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية والمذهبية فإنها أيضاً تفرق بين الرجل والمرأة، فلا تمكن المرأة من المناصب القيادية وامتيازات ممنوحة للرجل بحجة أن النساء ناقصات عقل ودين!

ومن ناحية أخرى فإن مفهوم المواطنة في الدولة الدينية مفهوم عابر للأوطان والحدود السياسية إلى اتباع نفس العقيدة أو الطائفة في الدول الأخرى، ومن هنا تسمح الدولة الدينية لنفسها أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة مساندة الطائفة الدينية المنتمية إليها مستغلة بذلك العنصر الديني والمذهبي المشترك، وذلك لزعزعة الاستقرار السياسي خدمة لطموحاتها في الهيمنة والتمدد.

 3- الانحياز السياسي والمذهبي: الدولة الدينية دولة غير محايدة تجاه معتقدات مواطنيها، فهي تفرض مذهبها ورؤيتها الأيديولوجية ولا تحترم التنوع والتعدد السياسي والديني والمذهبي في مجتمعها، وذلك في تناقض صارخ مع قيم الإسلام الكبرى: العدالة والحرية والمساواة، فلا تترك للمذاهب الأخرى فضاءً يمكن أن تمارس فيه حريتها واجتهاداتها، ولذلك فإن الدولة المدنية تنأى عن تبني خيارات مذهبية وطائفية معينة، وهي تحترم التنوع الديني والمذهبي والسياسي، وتراه إثراءً وقوة للدولة والمجتمع.

4- الشخصانية: الدولة الدينية تقوم على الشخصانية؛ أي شخصية الفقيه المرجعية الأعلى والمجتمع، لا حكم المؤسسات والقانون، وطبقاً لعبدالوهاب الأفندي الذي يقول "... ويمكن بدون مبالغة أن يقال إن الخميني تمتع بسلطة ونفوذ وتقديس لم يتمتع به أي من أئمة الشيعة في حياته، ووصلت سلطته حد الادعاء بأنه يجوز للإمام تعطيل الشريعة والفرائض لحماية الدولة الإسلامية". الدولة الدينية تجعل مرجعية الفقيه فوق الدستور والمؤسسات وفوق الشعب.

 5- التسلط السياسي على الدين: يقول محمد محفوظ: "المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في المجال الإسلامي عكس المشكلة التي واجهت الغرب، حيث كانت تغول المؤسسة الدينية على غيرها، وأما عندنا فالذي تغول هو السياسي ممثلاً في الدولة، والتهم كل شيء بما فيه الدين". الدولة الدينية اليوم تمارس ما كانت تمارسه المؤسسة الكهنوتية الغربية في توظيفها منابر المساجد والإعلام والصحافة والتعليم والقضاء والبرلمان وكافة مؤسسات الدولة لخدمة أهدافها السياسية، وهي بذلك تسيء إلى الدين وتنتهك حرمات المساجد باللغو السياسي.

6- إهدار الثروة الوطنية: الدولة الدينية تعيش حالة من القلق المستمر ضد مخاطر من أعداء متوهمين في الداخل والخارج فتلجأ إلى هدر الثروة عبر أسلوبين: تكديس الأسلحة ورصد الموازنات الهائلة للتسلح، وتمويل الوكلاء والإنفاق على الأنصار في الخارج وشراء الولاءات، وهي في سبيل ذلك تجوع شعبها وتذيقه الحرمان، وها هي الثورة الإسلامية مجسدة في دولتها وبعد مرور 35 عاماً، ومع توافر كافة الموارد لم تستطع أن تقدم نموذجاً صالحاً للحكم، ولا أن تحقق معيشة كريمة لشعبها كما فعلت ماليزيا مثلاً، والتي لا تملك ربع موارد إيران، فالشعب الإيراني يعيش اليوم وضعاً شديد البؤس مع أنه يملك أعظم ثروات العالم فهو يرى أحلامه في غد أفضل أحبطت بسبب سياسات حكامه.

7- العدوانية: الدولة الدينية دولة أيديولوجية والدولة الأيديولوجية بطبيعتها دولة عدوانية أو تستجلب العدوان، باستفزازاتها للدول الأخرى، ولأن الدولة الدينية ترى نفسها مكلفة بنشر رسالة إلهية وتصديرها للخارج كما ترى أيضاً- توهماً وضلالة- أن هناك أعداء تاريخيين في الخارج متربصين لها، ولن يسمحوا بأن تحقق طموحاتها وتنشر رسالتها، فإنها تهدر المليارات في سباق التسلح والمفاعل النووي ظناً أن ذلك يحقق لها قوة ردع داخلية، وفي نفس الوقت تسعى عبر التسلل إلى بيوت الآخرين من غير أبوابها الرسمية، بمختلف الطرق والوسائل إلى اصطناع وكلاء، واتخاذ أنصار تمولهم وتمدهم بالسلام بهدف إثارة الاضطرابات السياسية في الدول الأخرى، وزرع الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد خدمة لمصالحها السياسية، ولا أدل على ذلك من أن تمد ناظريك عبر الساحة العربية العريضة لتجد وتتأكد من أنه ما من اضطراب سياسي أو فتنة طائفية أو انقسامات وطنية إلا لإيران علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكل ذلك.

 إن أعظم مخاطر الدولة الدينية أنها بسياساتها التدخلية في شؤون الدول الأخرى، وتسللها وتمددها واتخاذها وكلاء مناصرين لها في الدول الأخرى، تستجلب عداوات الآخرين لها، فتتسبب في الإضرار بنفسها وبمصالحها الوطنية، كما تتسبب في استمرار معاناة شعبها وحرمانه من أبسط مقومات المعيشة الكريمة، كما تعيش كافة شعوب العالم، إضافة إلى أنها بهذه السياسات الاستفزازية تتسبب في توريط حلفائها وأصدقائها، انظر ما تفعله إسرائيل هذه الأيام بغزة من عدوانية ظالمة ومذابح بشعة، ضحاياها أبرياء مدنيون ونساء وأطفال.

 ولكن هلا تساءلنا: لماذا تستفز "حماس" والمنظمات الجهادية الأخرى إسرائيل؟! لماذا يطلقون الصواريخ على القرى السكانية في إسرائيل؟ لماذا تحريك جبهة غزة؟ وما المصلحة المتحققة من إطلاق تلك الصواريخ؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ أليس المقصود من كل ما يحصل هو صرف الأنظار عما يحصل في سورية بهدف إنقاذ نظام الأسد والتغطية على جرائمه؟ وأليس المقصود استدراج مصر في حكم الإسلاميين وتوريطها في مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل؟!

* كاتب قطري