في هذه الأوراق، تصادف قتلة ومجرمين وقطاع طرق، ربما تعثر على بعض السكاكين والمسدسات وكثير من العدوانية، لكنك أيضاً ستعثر على أسباب غريبة للجريمة، وعلى ما لا يمكن أن تجده لدى المحللين والخبراء وصناع القرار... إنها أوراق حقيقية من أجندات ضباط مباحث، أتاحوها لقارئ «الجريدة» بما تضمه من وقائع وصور وذكريات مطارداتهم لتلك اليد الخفية، التي عرفتها البشرية منذ الأزل، وهي يد القاتل. هل يفلت الجاني أحياناً من العقاب؟ شخصياً، ومن واقع عملي كضابط مباحث أؤكد أن الإجابة هي نعم! ولا غرابة... فالعدالة التي ينتهجها القضاء، تتطلب أن يكون الحكم الجنائي مبنياً على الجزم واليقين، لا على الظن والشك، والعُرف القانوني يقول إنه خير للعدالة أن يفلت أحد الجناة من العقاب على أن يُعاقب بريء.أسجِّل هنا هذا الحادث، الذي أعتقد أنه انتهى ببراءة المتهمة، على رغم أن جميع ضباط المباحث الذين شاركوا في عملية القبض عليها كان لديهم اعتقاد راسخ بأنها كانت تستحق الإعدام! بدأ الحادث ببلاغ يحمل بين طياته القلق وعدم الراحة لفرقة البحث الجنائي، يقول البلاغ إن أحد المواطنين ويعمل محاسباً عثر على زوجته الثانية مقتولة داخل شقتها!لحظات وكانت المباحث في مسرح الحادث، الجثة لسيدة في منتصف الثلاثينيات من عمرها والجرح غائر في الجبهة، يشير إلى أن الجاني أطلق عليها عياراً نارياً اخترق رأسها، وبفحص الجثة ومناظرتها من جميع الأوجه، تبين وجود جرح آخر نافذ في الصدر يوحي بأن عياراً نارياً آخر اخترق قلبها. لكن كيف اكتشف الزوج الجريمة، يقول المحاسب محسن:* «كنت الليلة السابقة أبيت في شقة زوجتي الثانية «زوزو» وفقاً للجدول الذي ارتضته الزوجتان الأولى والثانية، وفي الصباح تناولنا الإفطار معاً ونحن في غاية السعادة على رغم أنها كانت تعاني بعض الآلام في أسنانها، وبعد أن تأهَّبت للخروج إلى عملي أخبرتني أن آلام الأسنان لو زادت عليها فستتصل بي لأحجز لها عند الطبيب ونذهب سوياً في المساء. وطلبت أنا منها أن تتصل بي في كل الأحوال حتى أطمئن عليها ونصحتها باستخدام المسكنات، ثم خرجت إلى عملي في التاسعة صباحاً. في حوالى الواحدة شعرت بالقلق لعدم اتصالها فاتصلت أنا بها، لكنها لم ترد. عاودت الاتصال مرات عدة من دون جدوى فقررت الاستئذان من المدير وعدت مسرعاً إلى البيت. في الطريق، اتصلت بوالدة زوجتي ربما ذهبت إليها، خصوصاً أن منزلها قريب من منزلنا، لكن حماتي أكدت أن ابنتها لم تزرها منذ يومين وانتقل إلى حماتي الشعور نفسه بالقلق، وحينما وصلت إلى المنزل كانت والدة زوجتي قد سبقتني بدقائق قليلة وتطرق باب شقتي من دون أن يرد أحد. أخرجت المفتاح الخاص بي وفتحت الشقة لأجد زوجتي ممددة على الأرض وغارقة في الدماء وقد فارقتها الروح! تجمع الجيران على صراخ حماتي وقالوا إنهم سمعوا صوت إطلاق رصاص ففتحوا أبوابهم فلم يشاهدوا شيئاً واعتقدوا أن الصوت وصلهم من مكان قريب وليس من داخل العمارة، لذا أغلقوا أبوابهم وعاد كل شيء إلى طبيعته حتى فوجئوا بأن الرصاص كان في شقة جارتهم!».بداية غامضةالسؤال الطبيعي في مثل هذه الجرائم يكون عن بواب المنزل لمعرفة من صعد العمارة في هذا التوقيت ومن غادرها، لكن لسوء الحظ علمنا أن البواب كان قد ترك عمله في العمارة منذ أسبوعين لرفض السكان زيادة أجره. هكذا كانت بداية الجريمة توحي بعدم التفاؤل في الوصول إلى الجاني ومعظم الجرائم التي تبدأ غامضة يزداد غموضها مع الوقت.بدأ فريق البحث عمله من أول السطر... من هي زوزو وما علاقتها بزوجها، وهل لها أعداء أو علاقات قبل الزواج أو بعده؟! مجدداً، جلس الزوج أمام فريق البحث ليرد على علامات الاستفهام، قال:* «كانت زوزو صديقة لشقيقاتي، ولأني كنت أتردد كثيراً على بيت العائلة بعد زواجي الأول تعرفت إليها وجذبني ذكاؤها وجمالها وهدؤها. تكررت لقاءاتي بها في منزل العائلة وأسعدني ما سمعته من مديح فيها على لسان شقيقاتي حينما أخبرتهن أنني أفكر في الارتباط بها، خصوصاً أنني لم أكن على وفاق مع زوجتي الأولى التي أنجبت منها طفلتين هما حياتي وقرة عيني ومن أجلهما لم أفكر في الانفصال عنها. لكن حان الوقت لتكون زوجتي الأولى منى أمام اختيار حل من اثنين، إما أن توافق على زواجي من زوزو أو يتم الطلاق بيننا، وبعد مشادات ومشاحنات رضخت زوجتي الأولى للأمر الواقع وعشنا على أسس جديدة: ثلاثة أيام أبيت فيها عند أم الأولاد وأربعة عند زوجتي الجديدة».- وماذا كان موقف زوجتك الأولى من الثانية بعد زواجك منها؟** «تعرفت إليها وكانت تتبادل الزيارات معها، وكانت صداقتهما تسعدني لدرجة أن زوجتي الأولى كانت مدعوة ليلة الحادث على العشاء في بيتي الثاني بدعوة من زوزو وسهرت معنا حتى منتصف الليل ووصفت هذه السهرة بأنها من أجمل ليالي العمر».توقف الزوج عن الكلام برهة، وشردت نظراته وهو ينظر في سقف المكتب وكأنه تذكر شيئاً مهماً وبالفعل استطرد قائلاً:* «افتكرت حاجة... بس مش عارف ممكن تحصل من «منى»؟!- ماذا خطر على بالك؟* عندما فاتحت زوجتي منى برغبتي في الزواج من زوزو للمرة الأولى صاحت في وجهي قائلة: ...لو حصل هأقتلها!. طبعاً اعتبرت أنا الكلام ده من باب التهديد والغيرة المجنونة».- هل كانت منى تعرف زوزو قبل زواجك منها؟* «نعم... شاهدتها في بيت العائلة وشعرت هي بحاسة الأنثى أن بيني وبين زوزو مشاعر رقيقة. كانت تغار منها بشكل مبالغ فيه وحاولت منعي من زيارة أهلي حتى فاجأتها بخبر زواجي الوشيك منها».أسلوب غريبكلام خطير هذا الذي قرره الزوج، لكن وبمنتهى الصراحة لم يتقبل فكر المباحث أن تكون الزوجة الأولى هي القاتلة. والسبب أن الجريمة تمت بإطلاق الرصاص وهو أسلوب غريب على جرائم النساء، ولم يحدث أبداً في تاريخ الجريمة في مصر أن استخدمت زوجة أولى أو ثانية المسدس ضد ضرتها! لكن علم الاحتمالات الذي يعتمد عليه فن العمل المباحثي جعل فريق البحث الجنائي يقرر فحص الزوجة الأولى على رغم عدم اقتناعه المبدئي بأنها المتهمة، خصوصاً أن سيرة القتيلة وسمعتها كانت فوق مستوى الشبهات، ولا أعداء لها، ولا تملك ما يغري لصاً على سرقتها أو قتلها لأجل السرقة!دافعت السيدة منى عن نفسها بضراوة، واستنكرت توجيه أسئلة يُشتم منها أنها دخلت دائرة الشك، قالت أيضاً إن الطلاق أسهل مليون مرة من القتل لو أنها كرهت الحياة مع زوجها باعتبارها «القديمة».استرعت انتباه الضباط ملحوظة عابرة أثناء إدلاء السيدة منى بأقوالها، وكم ساعدتنا الملحوظات السريعة في عملنا. عند حديث السيدة منى معي عن عدم امتلاكها أي سلاح ناري مرخص أو غير مرخص، سمعت بكاء متواصلاً من طفلتها الصغيرة فور سماع كلمة «مسدس»، لذا قررت تأجيل الحوار مع الأم ولو لدقائق، واختليت بالابنة الصغيرة لسؤالها عن سبب بكائها المفاجئ. لم يكن عمر الطفلة يزيد على ثماني سنوات وكان انفعالها البريء يحمل بين طياته شيئاً ما، بل لم يكن هذا الانفعال الطفولي مرتبطاً بخوف الابنة على أمها لأنها كانت تقف بيننا من دون أن نلتفت إليها ولم تتأثر على الإطلاق بدفاع الأم عن نفسها إلا حينما سمعت كلمة «مسدس» تجرى على لسان والدتها!نجحنا في تهدئة روع الصغيرة التي فجرت المفاجأة في النهابة وهي تخبرنا بأنها «رمت المسدس في الزبالة»... وسمعنا منها ما هو أخطر، قالت:** «... ماما لما رجعت كان معاها كيس. أدتني الكيس وقالت لي أرميه في الزبالة جنب شريط السكة الحديد. أنا رحت أرميه وشفت في الكيس مسدس».دليل قاطععُدنا إلى الأم في الحجرة المجاورة، لكنها أنكرت بشدة كلام ابنتها وقالت إنها كانت في السوق لشراء احتياجات البيت ولما عادت انشغلت بإعداد الطعام لأسرتها. لكن المثير أن ابنتها الكبرى وعمرها عشر سنوات، قالت لنا إن والدتها أعطت شيئاً ما لشقيقتها الصغيرة وطلبت منها أن تلقيه في القمامة بجوار شريط السكة الحديد.أصبحنا أمام دليل قاطع يصلح لتوجيه الاتهام إلى السيدة منى بناء على شهادة طفلتيها. فعلاً، أمرت النيابة بحبسها وتقديمها إلى محكمة الجنايات التي نظرت القضية مع إخلاء سبيل السيدة منى بالضمان المالي. وعلى رغم انشغالنا بجرائم أخرى إلا أننا كنا نتابع أخبار هذه القضية، وعلمنا أن الاتجاه في النهاية سيكون في صالح الزوجة الأولى. شكك الدفاع في أقوال الصغيرة وأختها واعتمد على أن المباحث لم تعثر على أداة الجريمة في المناطق كافة التي بحثت فيها عن المسدس المزعوم. بل وصل الدفاع إلى حد التشكيك في أن يكون الأب وراء إقناع طفلتيه بهذه الأقوال، وهكذا كانت نسبة الشك تزداد لدى هيئة المحكمة.. والشك في القانون يفسر دائماً لصالح المتهم. وربما كان هذا ما يفسر قرار المحكمة بإخلاء سبيل الأم بالضمان المالي... وللحق أسجل هنا أنني لم أعرف حتى الآن ما انتهت إليه محكمة الجنايات، لكني كما قلت كانت الدلائل تشير إلى براءة السيدة منى، وتؤكد أنها ستفلت من العدالة، لكني لم أغضب لسبب بسيط، هو أنه وبحكم تجاربي مع الواقع رأيت عدالة الأرض تخطئ أحياناً، لكن عدالة السماء منتبهة ولا يفلت منها ظالم مهما كان جبروته أو نفوذه أو ذكاؤه. أنا مقتنع تماماً بالمثل الشعبي القائل بأن القاتل يُقتل ولو بعد حين.الحادث الثاني من أغرب الجرائم التي مرت بي، ودائماً ما يقفز إلى ذاكرتي كلما تذكرت جريمة السيدة منى واتهامها بقتل ضرتها! ففي الحادث الثاني كان المتهم الأول هو الزوج الثاني الذي قرر تصفية الزوج الأول... وكان سؤالي لنفسي: هل انتقل شعور «الضرائر» من عالم النساء إلى الرجال؟ربما تكون الإجابة في تفاصيل هذا الحادث الذي بدأ ببلاغ من المواطن خيري ويعمل موظفاً بأنه ذهب لزيارة أخيه كامل في شقته الصغيرة حيث يعيش بعدما طلق زوجته شيماء، ففوجئ بجثة أخيه في حجرة النوم والطعنات شوهتها.انتقلنا وبمعاينة الجثة وجدنا أنها لرجل في الثلاثينيات من عمره... قمحي البشرة، أسود الشعر، والجثة كلها طعنات عبارة عن جرح قطعي أعلى العين حتى أسفل الأنف بحوالى سبعة سنتمترات، وجرح آخر من الأذن حتى بداية الشارب بحوالى خمسة سنتمترات، جرح ثالث في فروة الرأس ورابع في الذراع اليسرى ثم طعنات متفرقة في الفخذ اليسرى. أما الشقة فمكونة من حجرة واحدة وصالة ومحتوياتها مبعثرة!بدأنا تجنيد المصادر السرية لكشف علاقات وخصومات المجني عليه، وسألنا الجيران وأهل القتيل فكان إجماعهم على أن المجني عليه ليست له خصومات مع أحد سوى مطلقته شيماء.شقيقة القتيل قالت إن أخاها على رغم زواجه عن حب من شيماء إلا أنه اكتشف خيانتها له مع مدرب كمال أجسام فقرر الانفصال عنها وانتقل إلى الحياة بمفرده في شقة صغيرة بالقرب من بيته القديم. وأنه كان في حالة نفسية سيئة في الأيام الأخيرة، بعدما سمع بزواج شيماء من الرجل الذي كان على علاقة بها. وأضافت أخت القتيل أن أكثر ما كان يؤلمه أن هذا الزواج تم قبل انقضاء فترة العدة. وأن مطلقته كانت توحي لزوجها الثاني بأن طليقها يسيء إلى سمعتها ويردد أمام الناس أن حملها الحالي منه وليس من زوجها الثاني. وأن هذا الكلام دفع الزوج الثاني إلى الذهاب إلى طليق زوجته على المقهى وتهديده بالقتل إذا لم يكف عن الحديث الذي يسيء إلى زوجته. وكان أخطر ما قالته أخت القتيل إن الزوج الثاني حينما ذهب إلى طليق زوجته على المقهى كانت ابنتا الزوج الأول كريمة ورحمة في زيارة إلى والدهما لأنهما لا تلتقيان به إلا على المقهى بعدما طلق أمهما!سألنا الطفلتين كريمة ورحمة فأكدتا أن زوج أمهما قال لوالدهما إنه سيقتله. لم نتردد في مواجهة الزوجة شيماء بزوجها الثاني أحمد والطفلتين، وكانت المفاجأة سرعة انهيارها والاعتراف بأن زوجها الثاني هو الذي فكر وخطط لقتل طليقها وأن دورها اقتصر على استدراجه إلى مكان آمن كي يتمكن منه ويجهز عليه. وبدأنا الاستجواب:- كيف تم هذا؟* نفذت خطة زوجي الثاني واتصلت بطليقي وغازلته ووعدته بأن أرجع إلى عصمته، وعرضت عليه زيارته في شقته فلم يرفض. ذهبت إليه وتعمدت أن يظل باب الشقة مفتوحاً حتى حضر أحمد ومعه السلاح الذي أعده خصيصاً لهذه المهمة، وهاجم طليقي بالطعنات حتى فارق الحياة، ثم غسل يده من الدماء ولم يجد ما يلبسه بعدما لطخت دماء طليقي سترته وسرواله فأسرعت بإحضار سروال من ملابس زوجي الأول ولبسه حتى عاد إلى شقته.- أنت شاركتيه في القتل؟* لا... أنا ساعدته خوفاً من أن يقتلني.- التحريات تؤكد أنه كانت لديك رغبة في الانتقام من طليقك لأنه هدد برفع دعوى ضدك لزواجك في فترة العدة، ما رأيك؟* طبعاً الكلام ده ضايقني لأنه كمان شكك في حملي من زوجي الثاني وقال إنه والد الجنين الذي يتحرك في أحشائي.طالبت النيابة في محكمة الجنايات بإعدام شيماء وأحمد، ولم يتعاطف معهما مخلوق. حتى الطفلتان كريمة ورحمة اللتان حضرتا المحاكمة مع عمتهما رفضتا مصافحة أمهما التي كانت تنادي عليهما من داخل القفص.بقى أن أسجل هنا في النهاية كيف توصلنا إلى الدليل الذي تأكد معه أن الزوج الثاني هو القاتل بمشاركة زوجته شيماء، وتعمدت أن أؤجل الحديث عن هذا الدليل حتى السطر الأخير للتركيز على أن الجاني مهما كان ذكياً وماهراً في التضليل فسيترك دليلاً صغيراً يرشد عليه. شاهد أحد أصدقاء القتيل الزوج الثاني وهو عائد مسرعاً إلى بيته مرتدياً بنطلون القتيل. سألنا الشاهد كيف تعرفت إلى السروال فأكد أنه خياط وأنه هو الذي فصل السروال وكان فيه عيب فني لم يلحظه زوج شيماء الأول حينما تسلمه منه.أعترف هنا أن الحظ يؤدي دوراً كبيراً في كشف ألغاز جرائم كثيرة. المهم أن يكون ضابط المباحث منتبهاً لكل شاردة وورادة.
توابل
جريمة على الفراش... حين تقتل المرأة ضرتها
05-08-2012