المعروف عن السرياليين أنهم يكرهون الرواية ويحبون الشعر لأن عالمها يحتاج إلى صبر، بينما هم يريدون من خلال الإيماءة والإشارة والرموز أن يعبروا عن سريالية هذا العالم. لكن لماذا أقدم أندري بريتون، بابا السريالية وصاحب «البيان السريالي»، على كتابة تجربة الحب هذه على شكل رواية صدرت بعنوان «نادجا»؟

«نادجا» قصة أو رواية قصيرة جداً (ترجمها إلى العربية الشاعر المغربي مبارك وساط عن منشورات الجمل) بمفهوم الفن الروائي، أو هي نص ينتسب إلى «السيرة الذاتية» (أتوبيوغرافيا)، نشرت في صيغتها الأولى سنة 1928، وقد أعاد بريتون فيها النظر سنة 1962. يتحدث في جزئها الأول عن أصدقائه وعلاقاته السريالية ويستعرض فيها آراءه الشخصية في قضايا الفكر والأدب والفن عموماً، مع سرد تفصيلاتٍ مجتزأة من سيرة حياته، ويدور جزء كبير من الرواية حول علاقته بامرأة شابة، هي ليونا ديلكور وأصبحت في الرواية «نادجا».

Ad

بريتون قبل كل شيء، كان ينظّر للشعر ضد الرواية، وقد علق ذات مرة على الرواية قائلاً إن «كل الروايات تبتدئ بخرجت المركيزة في الساعة الخامسة»، ويقصد السخرية من اللغة التصريحية للرواية. وكتب روايته «نادجا» من دون أن يلتزم بأي شكل أو قالب أو فنية أو حتى تقنيات روائية. حتى اللغة اختارها أن تكون الوسط بين الشعر والنثر مستفيداً من أجناس الفن السوريالي كافة، واعتمد الإيجاز والاختصار. بحسب الكثير من النقاد والمتابعين للحركة السريالية، «نادجا» أحد أهم أعمال بريتون على الإطلاق، بل أحد أهم الأعمال السريالية التي يشار إليها دائماً عند الحديث عن هذا الاتجاه الأدبي والثقافي.

من هي؟

منذ صدور رواية بريتون، أثارت نادجا أسئلة كثيرة أهمها: من هي نادجا؟ وهل هي شخصية حقيقية، بعد أن ترك الكاتب بضعة آثار تدل على وجودها، والتي حاول النقاد البحث عنها.

ستصبح نادجا بفضل بريتون شبيهة بآلهات الفن والجمال وربات الشعر الأسطوريات، مع أنها مجرد امرأة بائسة التقى بها في الشارع وانتهى الأمر بها في المصح. يقول بريتون: «خلال نهاية واحدة من تلك الظهيرات الخالية من أيّ نشاط والشديدة الثقل على النفس، والتي كنت أتفنن في قضائها بطريقتي، (...) رأيت امرأة شابة وهي لا تزال على بعد حوالى عشر خطوات مني، تمشي في عكس الاتجاه الذي أمضي فيه أنا، ملابسها تنم عن فقر شديد، وكانت بدورها تراني، أو قد رأتني. إنها تمشي مرفوعة الرأس، على عكس كل المارة الآخرين. هزيلة إلى حدّ أنها بالكاد تلامس الأرض وهي تسير. ربما ثمة ابتسامة غير بادية تشي بها ملامح وجهها. ماكياجها مثير للاستغراب، فكما لو أنها بدأت بتزيين عينيها ولم يبق الوقت الكافي لإنهاء العملية بأكملها، ثم إن أطراف عينيها شديدة السواد بالنسبة إلى امرأة شقراء». يتابع بريتون وصفه لناجا: «لم أكن قط قد رأيت مثل عينيها. من دون تردد، أتوجه بالكلام إلى تلك المرأة المجهولة، متوقعاً، أقر بذلك صراحة، رد فعل يسوؤني. وابتسمت، لكن بشكل شديد الغموض، بل قد أقول إنها فعلت ذلك بصورة تنم عن كونها تدرك خفايا الأمر». تكلم معها فأجابته ولم تظهر عليها معالم الاستغراب وكأنها كانت على علم مسبق بلقائها به.

شربا قهوة في مقهى مجاور، تحدثا وسحرته المرأة. اعترفت له أنها اختارت اسم «نادجا» لأنه بداية كلمة «الأمل» بالروسية. أما اسمها الحقيقي فلم يكتبه. اليوم بات اسمها معروفاً وهي تدعو ليونا كاميل جيزلني ديلكور، من مدينة ليل الفرنسية من والدين منفصلين ومن أسرة مفككة. أخبرته أنها تكسب رزقها من بعض «الزبائن المحسنين» الذين تقرأ لهم طالعهم. كانت المرأة تتمتع بحاسة سادسة خارقة وصارت لعبة بروتون المفضلة أن تفاجئه بأخبار وبحكايات تتنبأ بها. سحرته وشغلت باله، ثم ما لبثت أن شغلت قلبه بأسلوب مختلف. في اليوم التالي، تواعدا. في اليوم الثالث، قبلها وهما في سيارة الأجرة وطلبت منه أن يخفف من قوة سحره عليها لأنها لا تستطيع مقاومته.

وخلال عشرة أيام، ارتبط بريتون مع نادجا بعلاقة وثيقة وأمضى معها أوقاتاً سعيدة سحرت فيها الشابة الغامضة أحد أهم أقطاب السريالية. كان يتأملها بشغف وكأنها «روح هائمة»، لدرجة أنه سجل في دفتر ملاحظاته كلماتها وتصرفاتها وهواجسها وكانت تفتنه كل خلجة من خلجاتها وتثير اضطرابه أفعالها الجنونية وانغماسها في الحب لدرجة الموت...

وبعد تعرفها إلى بريتون وعلاقتهما القصيرة ثم انفصالهما المفاجئ، كان المآل إلى المصح، يقول بريتون: «قبل بضعة أشهر، نُبئتُ بأن نادجا قد جنت. فإثر تصرفات خارجة عن مقتضيات العقل، أقدمت عليها، في ما يبدو في أروقة الفندق، جرى حجزها في مستشفى «فوكليز» للأمراض العقلية».

يكتب المؤلف عن مرض نادجا ليكتب عن الأمراض العقلية والنفسية، يكتشف في بطلة روايته أنها إنسانة مرهفة، لكنها غير قادرة على مواجهة الحياة الغامضة من حولها، ويؤدي هذا إلى وقوعها في كنف المأساة. في الصفحات الختامية من الرواية، يقف الكاتب متذكراً علاقته مع نادجا، فهي بعد دخولها المصح انعزلت عن العالم الخارجي. يقف مفجوعاً، ثم ينتهي إلى أن يرى: «إن الازدراء الذي أكنه للطب العقلي، بهالاته الزائفة وتطبيقاته العملية أيضاً، شديد حد أني لم أجد بعد الجرأة للتحري عما صارت إليه نادجا. وقد أفصحت عمّا يجعلني متشائماً بخصوص مصيرها، وأيضاً بخصوص مصائر كائنات أخرى من صنفها».

كتبت نادجا لبريتون أكثر من 30 رسالة قصيرة بين نوفمبر 1926 ومارس 1927، تحمل تواريخ احتجازها في مصح للمجانين، وتضمنت تلك الرسائل هذيانات وتوسلات إلى الرجل الذي فتنها ثم هجرها فجأة، فشعرت بعده بأنها فقدت حياتها.

كان بريتون قد كتب إلى زوجته سيمون رسالة يحدثها فيها عن ليونا قائلاً: «لم أحبها قط، لقد كانت قادرة فقط على فعل كل ما أحبه وبطريقة رائعة»... وكان بريتون يعرف بأنها محتجزة في المصح من دون أن يفكر في زيارتها حتى توفيت في يوم كئيب من عام 1941، وكانت آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمرها. وفي الوقت الذي احتجزت فيه، تفرغ لكتابة روايته «نادجا» المستوحاة من حكاية ليونا منعزلاً عن الناس. وكان الأطباء قد شخصوا في حالتها مرضاً نفسياً قادها أخيراً إلى الموت!

كتبت الروائية الهولندية هيستر الباك قصة حول بطلة السريالية، أماطت فيها اللثام عن شخصية نادجا أو ليونا الحقيقية، وتوصلت عبر التحقيق الطويل والدقيق الذي قامت فيه أن «نادجا» موجودة في الحقيقة والواقع، وهذا ما تدعمه بعدد من الوثائق التي تقدم في الكتاب صوراً عنها، ومن الصور التي تظهر إحداها على غلاف الكتاب الأول، فضلاً عن تقارير الأطباء النفسيين التي تثبت أن «ليونا- نادجا» قد أمضت فترة من الوقت في أحد المصحات النفسية، بل إنها كانت قد دخلته بعد القطيعة مع بريتون الذي لم يحاول أبداً أن يراها مجدداً «لم يعد بحاجة إليها».

ولدت نادجا في الشمال في منطقة سان أندريه في إحدى ضواحي مدينة ليل في مايو من عام 1902. عند بلوغها السادسة عشرة، أنجبت طفلة صغيرة من أب غير شرعي فقررت الاستقرار في باريس وعاشت وحيدة واضطرت إلى ممارسة مهن مختلفة ومهينة مثل بيع المخدرات وبيع جسدها. وقد صدرت الترجمة الفرنسيّة لكتاب هيستر ألباك عن دار «آكت سود» الباريسيّة بعنوان «ليونا بطلة السرياليّة». ومنذ فترة ليست بعيدة كتب إيفون لومين عن نادجا كتاباً عنوانه: «إذا تركتني، سوف أرحل». وأصدرت جاكلين دومرنيكس عملاً بعنوان «الأكثر سوءاً، هو الثلج».

لأن «نادجا» بروتون «القلب الملتهب لمسيرة جماعة السورياليين» في بدايات القرن العشرين، ما زالت الدراسات والأبحاث الخاصة بها في صدد تحديد مصدر هذه الرواية الملتبسة والغامضة التي أطلقها بروتون في سماء باريس قصة تشتعل بشخصية امرأة تدعى «نادجا» هي «نصف عرافة، نصف مجنونة».

نبذة

عاش أندري بريتون بين 1896 و1966، وعرف كروائي وشاعر وناقد، لكنه عرف أكثر من هذا كله بكونه منشطاً أدبياً وثقافياً، أسس النزعة السوريالية محلقاً من حوله كبار أدباء فرنسا، وغير فرنسا خلال النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقاً من «البيان السريالي» (1924) الذي عرّف فيه السريالية بأنها نزعة إبداع تلقائي نفسي. وعاد وسيّس التيار لاحقاً، لا سيما من خلال علاقته بالمنظر الثوري ليون تروتسكي.

ومن أشهر كتبه: «نادجا، رسائل الحرب، الحقول المغناطيسية، قصائد مختارة، الفن السحري، الموت المجنون، البيان السوريالي الثاني».