مدينة البندقية تغرق ببطء ولكن بثبات. حاربت هذه المدينة المياه منذ تأسيسها، قبل 1600 سنة في بحيرة مستنقعية. وهي الآن تعمل على تنفيذ مشروع ضخم لمنع الفيضانات التي تهدد مستقبلها، لكن الخبراء منقسمون حول فاعلية هذا المشروع.

Ad

مجددًا وكالعادة، بدأ الفيضان في ميدان سان مارك وفناء الكاتدرائية، في أدنى نقطة من مدينة البندقية. ارتفعت فقاعات المياه من فتحات الأغطية، ببطء أولاً، ثم تزايدت. لاحظ أصحاب الأنوف الحساسة رائحة نتنة، والبعض الآخر قال إنها رائحة البحر.

وجد بعض الزوار المنظر مقلقًا بعض الشيء، لكنه لا يزعج البنادقة. هذه هي الحال هنا، كما يقولون. كلما حل فصل الشتاء، وتزامن اكتمال القمر مع رياح الخماسين الجنوبية يرتفع مستوى المياه. هذا طبيعي تمامًا، ويحدث عشر مرات في السنة. لكنه يتكرر بشكل متزايد، وتدريجًا حتى بدأ البنادقة بالقلق.

غمرت مياه المجاري ميدان سان مارك. على رصيف الميناء، حيث تطفو الجناديل، تختلط المياه مع موجات من البحيرة التي تلتف إلى الساحة. يظهر المقياس المعتمد في بونتا ديلا سالوت، عند القناة الكبرى، أن مستوى المياه يبلغ 80 سنتيمترًا فوق المعدل الطبيعي. لكنه لم يصل بعد الى حد علامة المياه العالية.

يبدأ ذلك فقط عند 110 سنتمترات فوق المعدل الطبيعي. أربع مرات كل شتاء، قبل حدوث ذلك، تعلو صفارات الانذار. وبمجرد أن يصل المستوى إلى 120 فوق المعدل الطبيعي، يغرق ربع المدينة تحت المياه.

يرحب معظم السياح بمثل هذا الحدث خلال زيارتهم البندقية، ويتنقلون عبر الممرات التي أقيمت على عجل في ميدان سان مارك. أما رجال الشرطة فيقفون في المياه، طالبين من الناس الإسراع.

التجربة مختلفة جدًا للبنادقة، لمن يعني له الفيضان غرق الأقبية ورطوبة الجدران، حتى فوق سطح الأرض. على رغم أنهم اعتادوا على ذلك، فإن الفيضانات تزداد سوءًا كل عام. في كثير من المنازل، ارتأى السكان الخروج من الطابق الأرضي، والعيش في الطوابق العليا. وتجري راهنًا إعادة تعبيد الأرصفة على طول المياه ونقل كامل المباني المتصدعة على خط المياه هيدروليكيًا ثم وضعت على أساس أعلى. وتتم معالجة الهياكل المهمة من الناحية التاريخية الواقعة تحت الأرض، مثل سرداب القديس مرقس، مع الراتنج البلاستيكي لجعلها مقاومة للماء.

يثير هذا الأمر المخاوف بين السكان من أنهم لن يتمكنوا من إنقاذ مدينتهم على رغم المحاولات، ذلك لأن الأرض التي تقع عليها البندقية تغرق والمياه ترتفع. المدينة تغرق ببطء ولكن بثبات.

مهاجر يوناني

هل هذا يعلن عن نهاية تجربة فريدة من نوعها تاريخيًا؟ هل تستعيد البحيرة في نهاية المطاف ما انتزعه منها البشر؟ قال ماسيمو كاشياري، فيلسوف ورئيس بلدية المدينة السابق «إن البندقية في الواقع لم تكن مشروعًا ممكنًا. كانت مدينة اصطناعية تمامًا وفي الوقت نفسه تحفة فنية، وأفضل تعبير عن قدراتنا، إمكاناتنا العقلية».

بدأ تصميم هذه التحفة منذ حوالى 1600 سنة مضت في القرن الرابع والخامس والسادس. كان الهون، والوندال، والقوط، واللومبارد يسلبون وينهبون في طريقهم عبر أوروبا. وما كان على السكان المحليين سوى المعاناة أو الفرار...

كانت هذه حال سكان القرى الواقعة على طول بحيرة كبيرة في شمال شرق ايطاليا، الذين اضطروا مرارًا وتكرارًا إلى البحث عن ملجأ في الجزر الواقعة قبالة الساحل. كانت الحياة في الجزر الموحلة صعبة بلا شك. ومع أنها محاطة بالمياه، كانت تفتقر أساسًا إلى شيء واحد: المياه. كانت الأمطار مصدر الشرب الوحيد، فخليط البحيرة بين المياه المالحة والمياه العذبة غير صالح للشرب. كانوا يأكلون السمك، ونادرًا مع الخضار من حديقة منزلهم. في فصل الشتاء، كانت الأمواج العاتية تهدد وجودهم، وفي الصيف، كانوا يعانون البعوض الحامل للملاريا. مع ذلك، لم يتعرضوا للغزو. غالبًا ما كان اللصوص مدججين بالسلاح وعلى ظهور الخيل، لكنهم لم يمتلكوا السفن. وعلى رغم أن البحيرة لم تكن عميقة، لم يتمكن المهاجمون من بلوغ الجزر سيرًا على الأقدام.

عندما غادرت الجحافل عاد السكان الى اليابسة. كذلك نوى اللاجئون الذين فروا حوالى عام 410 من القوط الغربيين إلى جزر ريالتو. غير أن مهاجرًا يونانيًا شابًا غير مجرى التاريخ.

وفقاً لمخطوطة من القرون الوسطى، كان «الرجل الحكيم» يدعى أنتينوبو. ابتكر طريقة ثورية لبناء منازل على أراض مستنقعية، وهو مبدأ يستخدم حتى اليوم. أولاً مهّد الأرض ووضع أساسًا من القصب والحجر وقضبان الصفصاف عليها. حول الجزء الخارجي، غرس في الأرض أكوام من الخشب السميك المصنوع من خشب الدردار أو البلوط، ووضع ألواح خشب البلوط فوقها. أخيرًا، كدس طبقة سميكة وثقيلة من الحجارة، فشكل أساسًا متينًا لمنزل من الطوب، وهو بيت كبير مستقر كما ذلك القائم على أرض جافة. وبدأ الكثير من السكان بالاستقرار في ريالتو ونمت المدينة.

«الذهب الأبيض»

لم يكد يختفي القوط الغربيون حتى أتى الهون بموجة جديدة من اللاجئين. وأصبحت المباني نادرة. نتيجة لذلك، تم استعمار الجزر المجاورة حول ريالتو أيضًا. فأحضر المستوطنون أكوام الخشب مباشرة وغرسوها في المياه ووضعوا الأسس، وبنوا المنازل أو الجزر الاصطناعية الصغيرة على الأعلى، وبالتالي وفروا الأراضي لبناء مجموعات كاملة من المنازل والكنائس والقصور.

نمى اقتصاد البندقية معتمدًا على سفن الصيد ونقل البضائع والملح، وتم التنقيب عن «الذهب الأبيض» في برك كبيرة، وبيعه بربح كبير. في الواقع، البحيرة ليست مكانًا مناسبًا لتأسيس مدينة. فالبحيرات التي شكلتها الأنهار والبحار هي أسس هشة، وهي تفاعل غير مستقر بين المد المرتفع والمنخفض، ومياه البحر والمياه العذبة، وتدفق والصرف الصحي.

يعتقد أن البحيرة تشكلت منذ حوالى 6000 سنة مضت. فارتفاع منسوب مياه البحر باستمرار منذ العصر الجليدي الأخير وسع البحر الأدرياتيكي نحو الشمال. على أطرافه الشمالية والغربية، جرفت أنهار مثل برينتا، وسيليه وبيافي كميات هائلة من الحصى والرمل من الجبال وألقت بها في البحر. على مر القرون، شق تيار متوجه باستمرار إلى الجنوب هذه الترسبات على شكل قناة موازية للساحل.

تقع البندقية على نوع من الأرض تخترقها القنوات المائية. ولتثبيت هذه الأرض قُطعت كميات كبيرة من الأشجار. تم قطع 12000 جذع، سمك كل منها نحو 14 سنتمترًا وطولها ثلاثة أمتار، لبناء جسر ريالتو فقط في القرن الثالث عشر. وبُنيت كنيسة سانتا ماريا ديلا سالوت على أكثر من مليون جذع. لا أحد يستطيع أن يحدد عدد أشجار البلوط والدردار والألدر والحور الغارقة في قاع البحيرة. لكنه بالتأكيد عدد كبير لا يمكن تصوره. لم يقتصر الأمر على المناطق النائية في البندقية الايطالية بل أيضًا على سواحل استريا ودالماسيا على الجانب الآخر من البحر الادرياتيكي التي تم قطع أشجارها تمامًا بناء على طلب من بُناة البندقية. وما زالت المناظر الطبيعية القاحلة في ساحل البحر الأدرياتيكي الشرقي شاهدة على هذه الغابات.

ازدهرت مدينة الماء الشابة، لكن الحياة لم تكن سهلة. من سبتمبر إلى أبريل، كانت تهددها رياح الخماسين الساخنة من البحر الأبيض المتوسط. غمرت المياه المالحة المنازل، وأفسدت الأغذية وتلفت السلع وهددت بجعل الآبار مالحة، خصوصاً إذا لم يتمكن الحراس من تسكيرها في الوقت المناسب بالطين. منع أيضًا ضغط المياه الهائل من البحر الادرياتيكي تصريف الأنهار المتدفقة من أسفل جبال الألب، بالتالي رفع منسوب المياه في البحيرة إلى مستويات أعلى.

في محاولة لكبح المد والجزر، أقام البنادقة لقرون عدة الجدران البحرية المصنوعة من شجيرات الطرفاء، وحواجز الأمواج. في النقاط الخطرة أو المهمة، بنوا الحواجز المصنوعة من جذوع الأشجار، وشكلوا من صفوف أكوام الخشب المربوطة بألواح أو قضبان من الحديد مربعات مستطيلة واسعة، ملؤوها بالحصى والصخور والرمال ووضعوها في البحيرة، فعملت كحواجز للأمواج.

لكنها لم تكن حلاً دائمًا، لأسباب أقلها سارقي الخشب. فبصرف النظر عن آثار البحر المدمرة، تتعرض هذه المربعات الخشبية للخطر أيضًا بسبب شر الإنسان، في الليالي المظلمة والعاصفة، يدمر الناس كل هذا العمل لمجرد الحصول على بعض الخشب وعدد قليل من المسامير.

من القرن الرابع عشر، كان أي شخص يهدد بإحداث فيضان في المدينة بأي شكل من الأشكال يتعرض لغرامة كبيرة أو حتى عقوبة الجلد العلني. ومُنع قطع أشجار الصنوبر، وحرق العشب، وقيادة الماشية عبر السدود وإزالة القصب أو الرمل. وحذر نقش قديم من وكالة حماية المياه: «كل من يجرؤ على إلحاق الضرر بالأصول المشتركة يعاقب بشدة أقل من أولئك الذين يتلفون أسوار البلدة. يبقى هذا القانون ساري المفعول إلى الأبد».

الطين التوسكاني

حتى من دون شر الإنسان، لم تكن المربعات الخشبية حلاً دائمًا. فإنها لم تمنع مياه الفيضانات لمدة طويلة، وتحتاج إلى إصلاح باستمرار. كانت الحواجز مكلفة بشكل كبير، فهي تكلف دولة المدينة آلاف الدوكات في السنة، ويبدو أنها مجرد مهمة مستعصية.

وجد حل المشكلة في توسكانيا. لفترة طويلة بُنيت جدران الميناء باستخدام نوع من الإسمنت المضاد للمياه، حتى عثر أحد الخبراء عن نوع مختلف من الطين (puzzolano) في القرن الثامن عشر أثناء رحلة الى توسكانيا.

في البداية، لم يثق البنادقة في هذه المادة الجديدة. في 1738، بنوا جداراً صغيراً بالقرب من مالاموكو. في العام التالي، بنوا حواجز أمواج الميناء. كانت هذه الحواجز الإسمنتية جيدة وهي مقاومة للغاية. وبمجرد اختلاطها بالماء تصبح صلبة كالحجر. في 1740، أصدر مجلس الشيوخ أولى الأموال لبناء Murazzi، وهي الحواجز الضخمة المصنوعة من الرخام والصخور الاستري الملتصقة ببعضها بطين puzzolano. على مدى 30 سنة، عمل البنادقة على بناء جدار ضخم يمتد أكثر من 10 كيلومترات من مالاموكو عبر سان بيترو في فولتا وبيليسترينا إلى كيودجا.

مشروع «موسى»

خلال الطوفان الكبير في سنة 1966، كان مستوى المياه حوالى 194 سنتمترًا فوق المعدل الطبيعي، الأمر الذي سبب أضرارًا جسيمة في المطاعم والمتاجر وورش العمل، ولم تستفق المدينة على حقيقة أنها في حاجة إلى اتخاذ إجراء حاسم إلا بعد ثلاثة عقود من هذا الفيضان.

في عام 2001، صادقت الحكومة الإيطالية على أكبر المشاريع المكافحة للفياضانات وأكثرها تكلفة، وهو مشروع الوحدة التجريبية الكهروميكانيكية.

من حيث المبدأ، سيتم ارساء 78 من المربعات الفولاذية معًا بشكل وثيق في الأساسات الباطونية في البحيرة. على كل من هذه الأقفاص أن تبلغ سماكتها حتى 5 أمتار، وعرضها 20 مترًا وارتفاعها 30 مترًا. كلما ارتفع منسوب المياه، يتم ضخ الهواء إلى المربعات الفولاذية، التي ترتفع بدورها وتمنع الفيضانات. ولكن مع ذلك، لن تنجو بعض الأجزاء من المدينة من الغرق.

ويشارك راهناً حوالى 1500 شخص في هذا المشروع الهائل، والبالغة كلفته حوالى 6.3 مليار دولار. وعلى رغم أنه كان يجب أن ينتهي تنفيذه منذ وقت طويل، يتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في سنة 2014. وينقسم الخبراء بشدة حول ما إذا كانت التجربة ستنجح عندما يحين الوقت.

يظن البعض أنه لن يحدث أي فارق، أما البعض الآخر فيخشى من أن تكون التجربة فاعلة أكثر من اللزوم. وتشير الدراسات إلى أنه في حال ارتفاع المياه في البحيرة 30 سنتمترًا إضافيًا، يمكن تسجيل ارتفاع خطير في منسوب المياه إلى حد 150 يومًا بين أوكتوبر وأواخر يناير، ما يعني أن دفاعات الفيضانات ستحصل بشكل شبه يومي تقريبًا وستكون العواقب البيئية لهذا كارثية. ولأن البندقية تفتقد إلى نظام صرف صحي ملائم، تتدفق كميات كبيرة من البراز والقمامة والمخلفات الصناعية في البحيرة يومياً. عادةً، تنجرف هذه تدريجًا إلى البحر. غير أن مشروع موسى سيعيق عملية التنظيف الطبيعية هذه.

هل البندقية تغرق حقًا؟ يقول رئيس البلدية السابق ماسيمو كاشياري «من يدري؟ بعض العلماء يقول أجل، والبعض الآخر يقول لا. أما نحن فلا يمكن أن نملي على البحر ما يجب القيام به».

تهديد الطمي

تمثلت الخطورة الكبرى بالنسبة إلى المواطنين في المدينة في الأنهار التي تدفقت في الحوض حاملة الحجارة والتراب والرمل معها.

لم يلاحظ البنادقة الخطر حتى وقت متأخر نسبيًا. في البداية، كان الضرر غير محسوس، لكن حتى لو لاحظوا في الوقت المناسب، لم يكن من الواضح أي من العناصر كانت تتآمر ضد المدينة. حتى يومنا هذا، يتجادل الخبراء بشدة على دور العوامل المحلية وما يؤثر على المد والجزر وتدفق المحيطات.

على أي حال، أدرك البنادقة في القرن الخامس عشر أن دولة المدينة في خطر رهيب بسبب المياه التي يعتمدون عليها ويتوجب عليهم الاحتماء منها على حد سواء. لنحو 300 سنة، كان منسوب المياه في البحيرة قد تراجع. وسرعان ما وجدوا أنفسهم عالقين، وبدا أنها مسألة وقت قبل أن يصل عالمهم الى نهايته.

قدمت رافينا أدلة مثيرة للقلق لما يمكن أن يحدث. تمامًا مثل البندقية، تأسست رافينا في البحيرة. في القرن الخامس، أصبح مدينة امبراطورية. ولكن، شيئًا فشيئًا، امتلأت المدينة الرائعة بالرمل، وفقدت تدريجيًا أهميتها وغاصت في نهاية المطاف في الغموض. اليوم، تقع رافينا على بعد تسعة كيلومترات من الساحل. لذلك كان من المستغرب، في القرن السادس عشر، أن يحذر الطبيب الشهير والهيدرولوجي فراكاسترو جيرولامو من أن البحيرة «ستجف من البحر وتصبح مستنقعية، إما لأنها امتلأت بالطمي أو لأن البحر ينسحب من الخليج بأكمله». لم يتمكن العالم أن يتصور «أي قوة بشرية يمكنها أن تقاوم ذلك».

أخذ معظم معاصريه وجهة نظر درامية مماثلة حول هذا الوضع. نمت المخاوف من أن انخفاض كميات مياه البحر من شأنه أن يزيد من انتشار الطاعون والملاريا في البحيرة. وتوقع أحد المعاصرين أن تدفق المياه العذبة المستمر من شأنه أن «يجعل الهواء كريه الرائحة في الصيف حتى ستصبح البندقية غير صالحة للسكن». وفق وثيقة رسمية، لم يرَ الخبراء سوى حل واحد ممكن: «زيادة كمية المياه». لذا حفروا القنوات في البر الرئيس.

كانت النتائج قاتلة: انتشرت المياه المحولة بهذه الطريقة إلى البحيرة في جميع أنحاء الأحواض المسطحة، وتبخرت في الصيف ولم تتمكن سوى من «إنتاج أسوأ نوعية هواء ممكنة». ثم، خطرت على بال شخص ما فكرة ثورية تتمثل في إيقاف إمدادات المياه العذبة تمامًا، أي تحويل مجرى الأنهار التي تصب في البحيرة بحيث لا تفرغ في الخليج، بل مباشرة في البحر.

مصدر الشرور

في العودة إلى عام 1324، أجري بعض المحاولات لتحويل نهر برينتا، التي يعتبرها البنادقة «مصدر كل شر». في الوقت نفسه، امتلأ مدخل سان نيكولو دي ليدو إلى البحيرة بالطمي. كان البنادقة مقتنعين أنها الآثار الجانبية لتدخلهم على نطاق واسع في العالم البحري.

وعلى رغم أنه لم يكن ضروريًا، أعاد البنادقة برينتا إلى مسارها القديم في 1360. وبعد ثماني سنوات، عاد النهر إلى القناة. وتكرر النمط نفسه مرارًا وتكرارًا. في كل مرة نُفذت فيها مشاريع ضخمة مماثلة، كانت النتيجة غير متوقعة. فقد تحولت مشاريع البناء «إلى أكبر تهديد للبحيرة» على رغم الإشادة بها في البداية على أساس أنها العلاج الأكثر فاعلية».

في أوائل القرن السادس عشر، ومع تراكم الطمي، لم يتوافر سوى حل وحيد: لا بد من تحويل اتجاه برينتا وكل الأنهار الباقية. لكن بعدما حاولت السلطات لمدة قرن من دون جدوى السيطرة على مسار بيافي من خلال السدود، رسمت موجات الفيضانات مسارها الخاص في 1683. وأصبح سيليه يصب في مجرى نهر بيافي وأخيرًا تم تفادي خطر امتلائها بالطمي.

بفضل هذا المشروع الهندسي الأكبر والأكثر تكلفة والأطول أمدًا في تاريخ البشرية، تمكن سكان مدينة البندقية من تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً: قاوموا قوى الطبيعة، ولو موقتًا. بعد ذلك بوقت قصير، بدأ الإنسان العصري تدمير الأسس التي تقوم عليها المدينة والتي يعتمد عليها وجودها.

في عام 1918، بدأ العمل على تطوير مجمع صناعي قرب منطقة مرغيرا (Marghera) على حافة البحيرة، واستكمل بناء مصانع الكيماويات ومصافي النفط ومصانع تشغيل المعادن. نما مجمع مرغيرا تزامنًا مع نمو ميستري، المنطقة المجاورة ، وتضاعف عدد السكان في هاتين المنطقتين أربع مرات منذ أوائل الخمسينيات حتى وصل إلى مئتي ألف نسمة. في الوقت نفسه، تقلص عدد سكان مدينة البندقية من حوالى مئتي ألف نسمة إلى أقل من ستين ألف.

لتسهيل النقل الصناعي، حفر العمال الممرات الملاحية في البحيرة بعمق يصل إلى 18 مترًا، ووسعوا الممرات في البحر الادرياتيكي لتصل الى 900 متر. كذلك أفرغوا أجزاء من البحير لاستيعاب مطار ماركو بولو مثلاً. ولكن، لهذا الأمر عواقب معينة.

منذ ذلك الحين، أُخرج حوالى مليون متر مكعب من الرمل والحصى من البحيرة إلى مياه البحر. ويعتقد العلماء أن هذا وحده سيتسبب بخفض قعر البحيرة بنسبة 15 سنتمترًا على مدى نصف القرن المقبل. وتتسبب عوامل أخرى أيضًا بتسارع هذا الانخفاض: كميات هائلة من المياه العذبة يتم ضخها من آلاف الآبار العميقة لاستخدامها في مياه الشرب والمياه الصناعية، ذلك بالإضافة الى عامل استخراج الغاز الطبيعي.

ترتفع مستويات المياه ، وقعر البحيرة ينخفض. وفقًا للتقديرات، انخفض منسوب المياه في البندقية من 23 إلى 30 سم مما كانت عليه قبل قرن، علماً أن هذا الانخفاض على استمرار حتى يومنا هذا. وتوقعت دراسة أجراها معهد علوم المحيطات سنة 2009 أن تغرق مدينة البندقية في القرن الحادي والعشرين أسرع من أي وقت مضى، بالتالي فهي تواجه خطر الفيضانات.