"الفان الشمالي" قرية سورية صغيرة في شمال ريف حماة. وعلى غرار قرى سنّية كثيرة في محافظات حماة وحمص وطرطوس، تتاخم "الفان الشمالي" قرى علوية، وتربط مدينة سيروان ذات الأغلبية العلوية بمدينة السلمية، التي ينتمي معظم سكانها إلى الإسماعيلية.

Ad

قبل شهر تقريباً، انهمرت على القرية قنابل مدفعية جيش نظام الأسد. وفي الصباح التالي، اقتحمتها مجموعة من الرجال العلويين المسلحين من قرى الطليسية والزغبة والفان القبلي، كانت هذه الميليشيات مسلحة بالسكاكين والأسلحة الخفيفة، وأفادت التقارير بأنها ذبحت ما لا يقل عن 30 شخصاً، بينهم نساء وأولاد.

خلال زيارة أخيرة قمت بها إلى مخيمات اللاجئين في الأردن، التقيت بعض سكان "الفان الشمالي". هرب أبوعبيدة، مربي نحل يعيل عائلة من عشرة أفراد، من العنف في سورية بعد أن شهد مجزرة سابقة، كان النظام يسعى في أثر اثنين من أبنائه لأن أحدهما تهرب من الجندية والثاني ينتمي إلى الجيش السوري الحر، عندما قصدتُ المخيم، كان جاره من القرية قد وصل قبل يوم قادماً من سورية، وراح يروي فظائع تلك المجزرة، إذ تُرك الرجال والنساء والأولاد في الشوارع ليموتوا.

سألتُ أبوعبيدة: "قبل المجزرة، هل كانت بينكم، أنتم السنّة، وبين جيرانكم العلويين أي صدامات أو خلافات؟"، فأكد لي أنهم كانوا على وفاق تام، حتى إنهم كانوا يعملون معاً وتجمع بينهم روابط أسرية بالزواج.

فحاولت أن استفهم منه الأسباب التي قد تدفعهم فجأة إلى ارتكاب أعمال مروعة كهذه، فأجابني: "أتفهم أن يطلقوا النار على المتظاهرين والمقاتلين المناهضين للنظام لأنهم يعتبرونهم خطراً يهدد وجودهم، ولكن لمَ يستخدمون السكاكين؟ لمَ يستهدفون الأولاد والنساء الضعيفات؟".

لم يكن الكثير من هؤلاء الرجال المتسلحين بالسكاكين جزءاً من النظام قبل الانتفاضة، لكن هذا الأخير سلّح الكثير منهم بذريعة أنهم "لجان محلية" تدافع عن مناطقها.

للمجازر في سورية أسباب عدة، على سبيل المثال، يقصف النظام المناطق "المحررة" عشوائياً، وخصوصاً إذا كانت هذه المناطق مهمة لحركة جنوده واستمراره، كذلك يهاجم النظام مخابئ الثوار في الأحياء،

لكن المجازر تكون أحياناً وليدة الانتقام البحت، كما حدث في معرة مصرين في إدلب، التي قصفتها طائرات الميغ الحربية التابعة للنظام بعد تدمير عدد من الآليات العسكرية في كمين للثوار في شهر ديسمبر الماضي.

إلا أن المجازر التي تقع في تلك الرقعة من القرى في حماة وطرطوس وحمص تثير مخاوف أشد خطورة، لأنها تكون غالباً نتيجة أعمال انتقامية طائفية، وتشمل عادةً ذبح الأولاد واستخدام السكاكين، وهذا أسلوب "الشبيحة"، تلك الميليشيات العلوية المجرمة التي تعود إلى ما قبل الانتفاضة، ستبقى هذه المناطق مشتعلة طوال سنوات، ولن يكون هناك مفر من أعمال الانتقام والقتل هذه.

في بداية الانتفاضة، تظاهرت القرى السنّية ضد النظام، إلا أن الزعماء المحليين من كلا الطرفين تمكنوا من تفادي الصراع الطائفي، لكن وتيرة العنف تصاعدت عندما سلّح النظام رجالاً من القرى العلوية واقتحم الجيش حماة في شهر أغسطس السنة الماضية.

أقام رجال مسلحون من القرى السنّية نقاط تفتيش ليمنعوا الشبيحة من التوجه إلى مدينة حماة لاستهداف المتظاهرين، فلقي رجلان من قرية سنّية حتفهما في الصدامات، نتيجة لذلك، احتشد الرجال من عدد من القرى السنّية "لمحو قرية" الربيعة، وفق الكاتب الفلسطيني عزمي بشارة.

لم تنجح كل الجهود والمساعي في احتواء هذا العنف، إلا بعد تدخل الزعماء المحليين، لكن عمليات الخطف والصدامات استمرت. وفي شهر يونيو، اقتحمت مجموعة من الرجال العلويين من قرى مجاورة، بتغطية من الجيش، قرية القبير وذبحت ما لا يقل عن 140 شخصاً، بينهم أطفال، بأفظع الطرق. تذكر التقارير أن الميليشيات تعمدت قتل الأولاد والنساء بالسكاكين قبل إعدام الرجال.

صحيح أن نظام الأسد لا يدين هذه المجازر، إلا أنها تبقى ممارسات شعبية أكثر منها سياسة صريحة تعتمدها الدولة، ما يجعل التعاطي معها مهمة صعبة، قد تتبع الميليشيات الأوامر العامة التي يوجهها إليها النظام، غير أنها تنفذها بالطريقة التي تراها هي مناسبة، وتملك هذه الميليشيات صفحات على موقع Facebook تعرض عليها إنجازاتها اليومية، وتشجع الناس على الانضمام إلى صفوفها.

في الأردن، أشار أبوعبيدة إلى أن هذه المجازر الطائفية تحدث نتيجة المخاوف التي أججها النظام في بداية الانتفاضة، قال: "أخبرهم النظام منذ البداية أن السنّة قادمون لإبادتهم".

يعتبر البعض هذه المجازر محاولةً من النظام لتطهير عدد من المناطق بهدف إقامة دولة علوية في المستقبل، لكن هذا الافتراض لا يبدو دقيقاً. فقد فرّ الكثير من العلويين من تلك القرى وانتقلوا للعيش في مناطق أخرى، كذلك هرب عدد كبير من العلويين الذين يقيمون في قرى سنّية بغية تفادي أي صدامات.

يبقى الاحتمال الأبرز أن الأطراف المختلفة (من بينهم إيران و"حزب الله") يتعمدون التشجيع على مجازر مماثلة لتمهيد الطريق أمام ميليشيات طائفية مستقبلية من خلال ما يُدعى اللجان الشعبية.

في مطلق الأحوال، يبدو مستقبل هذه المناطق، التي كانت مختلطة، حالكاً، سألتُ ابن أبوعبيدة عما سيحل بأولئك العلويين عندما ينتهي الصراع، فأجابني أن مَن لم يتدخل منهم في الصراع الدائر سيستمر في العيش مع السنّة جنباً إلى جنب. وتابع: "قبل رحيلنا، كان جارنا العلوي لا يزال يقيم في القرية، ولم نواجه أي مشاكل معه أو مع عائلته"، لكنه أضاف أن مَن شاركوا في الميليشيات الموالية للنظام سيموتون، إلا أن علويين كثراً انضموا إلى هذه الميليشيات.

* حسن الحسن | Hassan Hassan