النهايات التي لا تقدّم نفسها بشكل جيد، لا تستحق الاحترام.لم أستيقظ من النوم إلا متأخرة. صحوت في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، استيقظت وعبده لا يزال يشخر، التقطت منشفتي وردية اللون التي كانت معلّقة في الخزانة بهيبة ووقار، وأخذت أقلب خزانة الملابس التي كانت تملأ شدق الجدار أمامي، تناولت منها بيجاما صفراء كنت أحبها كثيرًا، وتناولت معها منشفة رأسي الصغيرة التي تشبه كل التحف التي نراها في زوايا المحلات الفخمة، واتجهت إلى الحمام لأستحمّ. شعرت بعدما أنهيت استحمامي بأنني أحلّق، وأحسست بأنني أخف مما أنا عليه، حينها شعرت بسعادة غامرة. عدت إلى غرفة النوم، التقطت مجفف شعري وذهبت به إلى الصالة، وأدرت جهاز التلفاز، وأخذت أحدّق فيه وأنا أعمل على شعري بعناية وجدّية، ولا أدري لماذا كان كل هذا الاهتمام بمظهري في هذا اليوم بالذات؟ كنت أسرّح شعري وأنا أفكر فيما سأقوم به اليوم، كان صوت موسيقى أحد المسلسلات السورية يمتزج مع صوت مجفف الشعر وعبده يغطّ في نومه في الحجرة المجاورة، وصوت شخيره يرنّ في رأسي ككابوس... وقعت عيناي على هاتفي المحمول على الكنبة المجاورة، فتذكرت بأنني تركته البارحة هنا بعدما باغتني عبده، وأنا أمام التلفاز أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن حياة الدلافين... كان الفيلم يحكي حياة الدلافين بطريقة ممتعة جدًا، لأنني منذ أن كنت صغيرة كنت أتوق لمعرفة السبب وراء براءة الدلفين بهذا الشكل؛ فالكائن الذي يرقص كثيرًا هو كائن بريء. بعدما انتهيت من تجفيف شعري اتجهت إلى غرفة النوم، وتناولت عبوة ماكياجي وذهبت إلى المرآة المعلّقة على المغسلة المخصصة لليدين أمام الحمام، ووضعت بعض المساحيق على وجهي، ورسمت شفتي بأحمر شفاه، ووضعت ظلاً على عيني، فبدوت كدمية. فعلت كل ذلك بهدوء لكي لا يصحو من نومه، فقد كنت أبغض كثيرًا أن يشاركني عبده قهوتي حينما أستيقظ من النوم، أعدت عبوة الماكياج في مكانها على التسريحة، وذهبت إلى المطبخ الذي كان مرتبًا ترتيبًا يليق بامرأة حسناء مثلي، فأنا حين أقول امرأة حسناء فإنني أفترض أن ينطبع الحُسن على كل الأشياء حول المرأة الجميلة: حجرتها، ملابسها، بيتها، مطبخها؛ فمنذ أن كنت صغيرة لم أعترف بأن الحسن هو حسن المظهر فقط، فقد علمتني أمي بأن المرأة الجميلة هي التي يكون كل ما حولها جميلاً باستمرار. لم يكن من عادتي حينما أصحو من النوم أن آكل، إنما يحلو لي أن أتناول قهوة مرّة أجلس بعدها قرابة الساعة، ثم أعود وأصنع لي ما آكله، لذلك وضعت (كنكة) الماء على النار، وذهبت إلى الصالة لأشاهد التلفاز فيما الماء يسخن. كان التلفاز يبث إعادة لحلقة مسلسل عرض مساء البارحة، التقطت جهاز التحكّم وأخذت أحلّق في الفضاء. أثناء ذلك وقعت عيناي على هاتفي المحمول الملقى على الكنبة بجانبي، فالتقطته لأنظر إلى الساعة، ففوجئت برسالة قصيرة تتربع شاشته: من سيرسل لي رسالة قصيرة في هذا البلد الذي لا أعرف فيه إلا أصابع يدي؟ فتحت الرسالة، ومن هول ما صُدِمت لم أنتبه فيما بعد للوقت الذي استغرقه الماء وهو يسخن على النار، فقد كانت الرسالة من حبيب حياتي ماهر كتب فيها:«أهلاً يا قمر، ما هي أخبارك؟ ماذا تفعلين الآن؟ وحشتني كثيرًا جدًا، أرسل لك هذه الرسالة بعد مضي شهر على زواجك، فأنت لا تعرفين الى أي مدى أشتاق إليك، لكن تأكدي بأنني سأبقى أحبك إلى أن أموت... ماهر».إذن ها هو «ماهر خليل»، لم ينسني كما كنت أظن، فطوال هذا الشهر من زواجي لم أسمع عنه أي خبر، حتى حينما كنت أسأل أختي عنه كانت تقول بأنها لا تعرف عنه شيئًا، وكأنه هاجر من البلاد، أو لحسته السماء؛ كنت موقنة بأن العشاق أكثر الناس هربًا إذا ما تعلق الأمر بفقدانهم لحبيباتهم، لكنني لم أكن أتخيل بأن ماهرًا قد نسيني فعلاً، فطوال شهر قضيت أغلبه في السعودية كان معي في كل مكان، حتى أنني كنت أتخيله معي على السرير بدلاً من هذا الأسود، وأحيانًا كان يستبد بي خيالي، وأتخيله معي في الحمام يمسح ظهري، ويصب الماء عليّ، ويحتضنني، ونحن تحت صنبور الماء الدافئ نغسل عنا بقايا ليلة حب دافئة، والله من فوقنا يحرس حميميتنا.أتذكر حينما كنا معًا في جامعة دمشق، وبعدما توطدت علاقتنا جيدًا، وبعد محاضرة في يوم من أيام الشتاء، كانت السماء متخمة بالغيوم كرسمة طفل في المرحلة الابتدائية، وكان الجو ممتعًا للغاية على الرغم من برودته التي تتسرب من بين أكمامنا، طلب مني مرافقته لتناول القهوة، اتجهنا إلى مطعم الكلية مشيًا، كانت ساحة الحرم الجامعي تغصّ بالطلاب والطالبات، فهنا طالب يثرثر باهتمام أمام فتاة يبدو أن البرد قد لفح وجهها ودماغها، فلم تعد تستوعب كل ما يقوله، فكل ما تريده أن تنفك من همّ هذا البرد، وتعود إلى البيت سريعًا، وهنالك شاب وفتاة يمسكان بين أيديهما بكوببن من الشاي، وقد وضعاهما قريبًا من وجهيهما يتدفآن بهما، وهما يتحدثان بحميمية مطلقة، وفي الجهة الأخرى مجموعة من الشباب يخطب فيهم شاب يرتدي نظارة طبّية، وكأنه رجل سياسة في بلد لا يعترف بالسياسة إطلاقًا.حينما دلفنا إلى المطعم كان مزدحمًا كلجنة انتخاب برلمانية، ورائحة الطعام تنتشر مع رائحة الأجساد في المكان، لتشكّل مزيجًا لا يطاق، طلبت من ماهر أن يذهب لإحضار القهوة، وأخبرته بأنني سأنتظر في الخارج لأن قسوة البرد أرحم من سطوة هذه الرائحة، إنه صعب جدًا أن تبقى تنتظر إنسانًا تحبه، ومن حولك رائحة كهذه، رائحة تشبه خطاياك الأولى.عاد بالقهوة وناولني إياها وأنا لا أدري لماذا لا يشعر العشاق بأي مذاق للأكل والشراب أثناء لقاءاتهم الغرامية؟ أصبحت مع ماهر لا أتذوّق ما أتناوله مطلقًا؛ فجبروت حضوره كان يطغى على كل حواسي، فيحدث أن نتناسى حواسنا دفعة واحدة إذا استطعنا أن ننجز فرضًا من فروضنا العشقية. تحدثنا كثيرًا ذلك اليوم، تحدثنا بالشكل الذي كنا نتخيل معه أننا لن نلتقي فيما بعد أبدًا، حتى فاتتنا محاضرتنا التالية التي لم نأسف على فواتها إطلاقًا.كنت أتذكر هذه الحوادث، وكأنني خارجة عن الوعي إلى أن أعادتني رائحة بخار الماء الذي وضعته على النار. كنت أتذكر هذه الذكريات، وصورة ماهر تقف أمامي في آخر لقاء لي معه حينما قلت له: لقد خطبني شاب سعودي، وأمي مصرّة على أن أتزوجه، ما رأيك؟ما رأيك أنت؟ أنا لا أريده، لكن أهلي سيرغمونني عليه إن لم تتقدم لي.لا أدري ماذا أقول لك، فأنا أحبك، لكنك تعرفين أموري المادية، فلست مؤهلاً للزواج الآن، حاولي أن ترفضي يا سحر. سأرفضه حتمًا، ولن أتزوج غيرك، حتى لو اضطررت أن أهرب من المنزل، فأنا لن أتزوجه إطلاقًا.أخذ وجه ماهر يتمدد في مخيلتي حتى استحال إلى غول ضخم، لأتيقن بأن للذاكرة سلطة تشبه الأنظمة السياسية العربية تمامًا. أعددت قهوتي وأخذت أتناولها بلذة، وبقيت أمام التلفاز أشاهد ما فاتني من مسلسلات البارحة التي لم أستطع مشاهدتها. كنت طوال هذا الشهر أشاهد أغلب المسلسلات معادة، كنت أشبه بالحراس الذين يملأون حياة رؤسائهم أمنًا أثناء الليل، كنت دائمًا ما أملأ حياة عبده أمنًا. بقيت على ما أنا عليه، فرحة برسالة ماهر وفي داخلي شهر يعج بالألم، ويعج بالحنين، ويعج بالقهر أيضًا، حتى رأيت شبح عبده يخرج من باب الحجرة ليناديني ويده على إحدى عينيه: «حبيبتي ألحقيني بملابسي إلى الحمام». ذهب إلى الحمام، وذهبت بدوري إلى غرفة النوم لأختار له أجمل ثيابه، كان يحب اللون الأبيض عادة، فتناولت من الخزانة أفضل ملابسه البيضاء، واستدرت عائدة إلى الحمام. ناولته ملابسه ومنشفته.دخلت إلى المطبخ أريد إعداد طعام الغداء، تناولت دجاجة من الثلاجة ووضعتها في قدر متوسط الحجم، وسكبت عليها ماءً ساخنًا، وتركتها لفترة، وبدأت في إعداد الأشياء الأخرى. كان الغداء عبارة عن صينية دجاج في الفرن، وإدام ملوخية، وعبوتي مشروب غازي. جلسنا على السفرة وأنا أحمل همّ أسئلة عبده التي كثيرًا ما أمطرني بها خلال هذا الشهر، أسئلة مليئة بالقهر والتملّك، فعندما يغدو طرح الأسئلة انتصارًا رديئًا للكائن المتملّك في داخلك، عندها تصبح الإجابات محاولة هروب بائسة لا معنى لها. كان يسألني كثيرًا عن علاقتنا الجنسية مؤخرًا، كل ذلك لأنه تحرر من عقدة جمالي الذي كنت على ثقة مطلقة بأنها تسبب له أزمة جلدية، فأي معنى لجمال يغدو في نظر الآخرين أزمة، ولعنة!.كان حينما ينتهي من غدائه دومًا يستند بظهره إلى الكنبة الموضوعة خلفه. أخذت ألمُّ الأطباق من فوق السفرة وهي على الأرض، وعين عليها، والأخرى تحرس هذا الأسود المستند إلى الكنبة. لم أكن أعرف السبب وراء كرهي له حينما يشبع، كنت كلما رأيته وقد امتلأ كرشه أكلاً أتقزز، فأشعر برغبة ملحة في أن أخرج كل ما في بطني عليه.في الحقيقة لم يكن «عبده غطفان» حقيرًا معي أبدًا، ولم يمارس معي دناءته في أي يوم من الأيام طوال هذا الشهر الذي قضيته معه كزوجة، لكنني لا أستطيع تفسير غضبي تجاهه؛ فهنالك بعض الأحاسيس تشبه الأقدار، تأتي أكبر من حجم إرادتنا ككرهي له تمامًا. كنت في ذلك الحين أقلّب طبقًا بين يدي تحت صنبور الماء وأغسله، وصوت عبده يصلني قادمًا من الصالة كصوت جبريل يقول: «إصنعي لي كوبًا من الشاي يا حلوتي».
توابل - حبر و ورق
القار
06-10-2012