لم نتخيّل أننا قد نمضي يوم الثلاثاء في التنزه سياحياً في واحدة من أخطر المدن في العالم، لنجد أنفسنا فوق قمة قلعة كركوك القديمة، ورحنا نتأمل بأسى بقايا خمسة مساجد متداعية كانت تشغل الهضبة المطلة على هذه المدينة المتنازع عليها.

 قال آكام عمر عثمان، مشيراً إلى الشمال: "أنظرا! في المناطق الكردية، نرفع النفايات من الطرقات وننعم بخدمات عامة". ثم تابع ملتفتاً إلى الجنوب: "أما هناك، فلا شيء من هذا القبيل". عثمان مترجم رافقنا بطلب من قوات البشمركة الكردية التي أحضرتنا إلى هنا.

Ad

بدا لنا الشمال في حالة من الازدهار، في حين كانت غيوم العاصفة تتلبد فوق المناطق الجنوبية الأكثر هدوءاً من المدينة، حيث كانت النفايات مكومةً. تشكل مدينة النفط الرئيسة هذه، التي تضم أنابيب النفط العراقية الأساسية، فضلًا عن عدد من المصافي، جزءاً من الأراضي المتنازع عليها بين كردستان العراق والحكومة المركزية العراقية. وفي الأسبوعين الأخيرين، تحولت كركوك إلى خط تماس في المواجهات العسكرية بين هذين الفريقين، فبعد تبادل لإطلاق النار بين الشرطة العراقية وقوات البشمركة في مدينة أخرى متنازع عليها (طوز خورماتو) في ديسمبر الماضي، ما أدى إلى مقتل شخص وعدد من الإصابات، طوق الجيش العراقي وقوات البيشمركة كركوك.

لكن التوتر أعمق من أن يقتصر على مناوشات عابرة، فقد شكّلت بغداد أخيراً قيادة جديدة تُشرف على القوى الأمنية في المناطق المتنازع عليها، ما أغضب المجتمع الكردي في البلاد. وشعر الأكراد بإساءة أكبر عندما عُيّن الفريق عبد الأمير الزيدي، الذي ارتبط اسمه بإبادة صدام لمئات آلاف الأكراد في حملة الأنفال عام 1988، مسؤولًا عن القوات العراقية في المناطق المحاذية لهم.

استاء الرئيس العراقي نوري المالكي عندما بدأ الأكراد يسلبونه عقود النفط (خصوصاً في المناطق المتنازع عليها) مع شركة "إكسون" والشركة الفرنسية "توتال"، والروسية "غازبروم"، و"شيفرون". أضف إلى ذلك عمليات التفاوض التي يخوضها الأكراد والأتراك راهناً لعقد صفقة هدفها بناء خط نفط بين تركيا وكردستان يتيح للأكراد تصدير الـ45 مليون برميل، التي يُعتقد أنها مدفونة تحت الأراضي الكردية، من دون الحاجة إلى عبور مناطق العراق الأخرى. ويشدّد المالكي على أن الحكومة المحلية لا تتمتع بالسلطة لتوقيع عقود مماثلة.

صباح يوم الثلاثاء، التقينا في العاصمة الكردية أربيل وزير البشمركة، الشيخ جعفر مصطفى، قبل أن نتوجه لمعاينة ما ظنناه خطوط التماس. أكد لنا جعفر: "من المخالف للقانون أن تستخدم بغداد الجيش العراقي لتحل الخلافات المحلية. يطلقون الكلمات ذاتها ويرددونها، كما صدام".

ركبت أنا والمصور آيفور بريكت وثلاثة من البشمركة، فضلًا عن مترجمنا، سيارة دفع رباعي جديدة من طراز "فورد إف- 150" تحتوي على صفين من المقاعد. كانت السيارة جديدة إلى حد أنهم اضطروا إلى نزع الملصق عن نافذة المقعد المجاور للسائق. لكن أسلحتهم كانت قديمة جدًّا، حتى إني لاحظت بعض التشققات في خشب المقابض، ما دفعني إلى التفكير في مَن قد يكون الفائز في حال اشتد التوتر واندلعت أعمال العنف. يتمتع الجيش العراقي بتجهيزات أحدث بفضل الأميركيين، إلا أن الأكراد يتحلون بالحماس ويعرفون جيداً الجبال الخطرة في مناطقهم. وقد نجح هؤلاء الأكراد، رغم قدم تجهيزاتهم، في قهر جيش صدام القوي طوال عقود. كذلك لا نعرف كم من قوات الأقليات (سنّة وتركمان) في الجيش العراقي قد تكون مستعدة لمقاتلة حلفائها وأصدقائها (يتألف الجيش العراقية بأغلبيته من الشيعة).

نحو منتصف رحلتنا التي تستغرق ساعة من الزمن، سألنا عثمان عما إذا كنا نود رؤية كركوك. لا يحمل آيفور تأشيرة سفر تخوله دخول العراق، لأن الأكراد يمنحون الأميركيين والأوروبيين لدى وصولهم إلى المطار تأشيرة فورية مدتها 10 أيام تخوّلهم دخول الأراضي الكردية فحسب. في المقابل، يتطلب دخول العراق معاملات طويلة يرافقها تقديم فحص دم رسمي لفيروس نقص المناعة المكتسبة (أيدز) (HIV). لكن عثمان أكد لنا ألا مشكلة لأن كركوك جزء من أراضيهم، وهذه نقطة يشددون عليها بوضوح. أما مخاوفنا مما قد نتعرض له من مخاطر، فبددها مشيراً إلى بندقيته: "معنا أنتما بخير، فضلاً عن أن المنطقة آمنة، كما ستريان". ولكن ما كنا لنتجرأ على زيارة المدينة لو أنني لم أسمع في الليلة السابقة عدداً من الدبلوماسيين الغربيين يتحدثون عن أنهم يسافرون دوماً إلى كركوك، وأن المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد خالية من المخاطر.

تُعتبر كردستان المنطقة الأكثر أمانًا في العراق اليوم. فلا يحتاج المسافرون إلى التنقّل في مواكب مؤمَّنة أو برفقة حراس شخصيين. أما الكهرباء، التي لا يزال الجنوب يعاني بسبب انقطاعها المتكرر رغم الاستثمارات التي بلغت 20 مليار دولار، باتت منتظمةً في كردستان. كذلك يمرّ الاقتصاد الكردستاني في مرحلة من الازدهار. فترى الرافعات تشيّد فنادق خمس نجوم تصل إلى ثلاثين طابقاً في أربيل. وأينما نظرت، تلاحظ عمليات شق الطرقات والأنفاق التي تتواصل على قدم وساق، فضلًا عن أن أعمال الشركات الأجنبية والسياحة يشهدان نمواً كبيراً في المناطق الكردية.

بسط الأكراد هذا الاستقرار في شمال كركوك. فالبازار يعج بالناس. وأكد لي كل مَن قابلتهم، حتى العرب، أنهم يريدون العيش في دولة كردستان المستقلة. قال لي حجي سوبيك (80 سنة) وعلى فمه الخالي من الأسنان تكشيرة، متحدثاً عن الرئيس الكردي مسعود البرزاني: "إن كان البرزاني حياً، فنحن أحياء. وإن مات، نموت كلنا".

ظننت في البداية أن الجميع يتكلمون بشكل إيجابي عن الأكراد لأنني أقترب منهم وأنا محاط بثلاثة رجال مدججين بالسلاح من البشمركة. لكننا قصدنا بعد ذلك مقهى لتناول الشاي، وما إن جلست أنا وعثمان حتى أحاطت بنا مجموعة من نحو 30 شخصاً أرادوا جميعهم التحدث عن مدى كرههم للمالكي وحبهم للأكراد.

بحلول يوم الخميس، كانت الحكومة المركزية والسلطات الكردية قد توصلتا إلى اتفاق للحد من التوتر الحاصل، مع أنهما لم تتفقا على جدول زمني للانسحاب ولم تحلّا أياً من المسائل العالقة. في هذه الأثناء، يقف عشرات الآلاف من الجنود (يصل عددهم إلى 60 ألفًا وفق بعض التقديرات) في مواجهة مستمرة في عدد من المواقع، ولا تتعدى المسافة التي تفصل بين الفرقين أحيانًا المئة متر. يوضح هاري شوت، كولونيل سابق في الجيش الأميركي قاد القوات الأميركية إلى كردستان عام 2003 وعاد بعد تقاعده إلى هذه المنطقة ليعمل مستشاراً أمنياً لدى الأكراد: "نظراً إلى المسافات القليلة التي تفصل بين الجيشَين، يكمن الخطر في وقوع حوادث قد تتطور إلى حرب. وهكذا تشتعل المنطقة في حرب غير متعمدة".

يملك كلا الطرفين حافزًا كبيرًا للسعي وراء الحلول. فيواجه المالكي انتخابات محلية خلال ستة أشهر، وشعب سئم من العنف الطائفي، واضطرابات سياسية ومعمعة بيروقراطية. أما الأكراد، فيعلّقون أهمية كبرى على الاستقرار. يذكر فلاح مصطفى بكير، وزير العلاقات الخارجية الكردي: "نأمل ألا تتطور الأمور لتصل إلى الحرب. ندرك أننا سنخسر الكثير في هذا القتال. السلامة والأمن عنصران ضروريان للنمو، الذي نريده أن يتواصل ويتوسع، فكردستان تفتح أبوابه أمام الشركات والأعمال".