"التقدم العلمي" أين سيصل بالبشرية؟ إن المخترعات "الحديثة" تتراكم... ولكن! اخترع الإنسان القنبلة النووية وطورها، وعندما ألقيت على اليابان كانت غير مطوّرة، ولم تكن في قوة الدمار الذي وصلت إليه القنابل النووية "الحديثة"، هذا رغم الدمار الهائل الذي عاناه الإنسان (والحيوان) في الضربة النووية لليابان!

Ad

والتصنيع "الحديث" أمر مبهج، ولكن هل قسنا حجم التلوث البيئي الناجم عن المصانع؟ وعندما قسناه... ماذا وجدنا؟!

واليوم توصلت البشرية، ووصلت مسيرة التقدم العلمي إلى "اختراع" وسائل التواصل الاجتماعي، وما أدراك ما هذا "التواصل"؟

صحيح أنه صار بإمكان الإنسان أن يضغط زراً فتأتيه المعلومات التي يريد عن أي موضوع بدل الذهاب إلى المكتبة واستخراج كتاب منها! ولكن يمكن للمرء أن "يغرق" في طوفان المعلومات... إن المعلومات الكثيرة تحجب الرؤية وتشوش العقل! وطوفانها يمكن أن يضيّع الحقيقة والوقت.

يتباهى الكثيرون بأنها نهاية العصر الورقي "فلن تعود حاجة إلى الصحف والكتب بالشكل الورقي... فكل شيء يمكن أن يُعرض إلكترونياً".

ألسنا في عصر العرض والاستعراض؟! والعرض الإلكتروني هل يمكن أن يعتمده العلماء والباحثون؟ أشك في ذلك! أم يفضلون العودة إلى الكتب والموسوعات والمراجع التي تتعب العيون؟!

قبل سنوات، كانت الكتب المهمة تُسجل أو تُسجل مقاطع مهمة منها؛ ليسمعها من لا تمكنه ظروفه من القراءة- كمن يقودون سياراتهم إلى أماكن عملهم لساعات طويلة- فيمكنهم تشغيل المسجل في السيارة والاستماع إلى تلك الكتب. لقد عد الكثيرون ذلك فكرة رائعة ورحبوا بها خدمة للثقافة العامة والتراث الإنساني، ولكن كيف يستطيع من يقود سيارته قراءة "النص الإلكتروني"؟! هل سيؤدي ذلك إلى حرمانه من تراث الإنسانية؟ ثم ما "ضمانة" صحة المعلومة التي تم وضعها؟ وقديماً قيل: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"! إن كثيراً من المواقف والاستنتاجات تؤسس على تلك المعلومات المزورة التي وضعت طبقاً لأجندة "خاصة": سياسية أو اقتصادية أو تجارية أو طائفية، ويكفي أن نشير إلى أن شركات الأدوية "تدفع" بعض الأطباء للقول إن الماء غير مفيد شربه!

وعلى أساس تلك المعلومات المغلوطة قامت ما تسمى بثورات "الربيع العربي" في بعض بلادنا العربية، والمؤسف أن الفضائيات تروّج لتلك المعلومات دون التأكد من صحتها إذا كانت تتوافق مع سياسة أصحابها. واليوم تواجه الدول التي شهدت تلك الثورات صعوبات اقتصادية خانقة، فهل كان هذا هو المطلوب؟ وبعد سنة فقط، ثبت أن حركة "احتلوا وول ستريت" كانت هوساً لا طائل وراءه، وعلى صعيد غير سياسي تجد الناس إذا جلسوا معاً، كل واحد منهم ينظر في جهازه، وينقطع "التواصل" وقد أدت الحضارة "الحديثة" إلى انقطاع التواصل، ليس بين الناس فحسب، بل بين الابن وأبيه، والابنة وأمها، لغلبة "النزعة الفردية" في المدرسة والشارع والمجتمع، وفي ظل تلك الحضارة صار هم الفرد البحث عن اللذة الفردية متوهماً أن السعادة فيها.

ومنذ القدم والفلاسفة ينبهون إلى أن السعادة والأنانية لا يلتقيان، وأن أي سعادة قائمة على الأنانية هي سعادة وهمية، وقبض الريح!

لقد قامت الحضارة الحديثة- بعكس الحضارات القديمة والوسيطة- على البحث عن اللذة الفردية التي تنتهي بنهاية الفرد، والمؤسف أن النهضات الجديدة في الشرق، والشرق الأقصى بالذات، ركزّت على قيمة الاستهلاك! "استهلك... حتى تهلك!"... ولم تشذ عن الغرب في ذلك.

وإذا تأملنا في سبب "انهيار" الشيوعية في العالم، فإن تركيزها على قيم الاستهلاك، قد كلف دولها عبئاً كبيراً لم تستطع تحمله. والمجتمعات الغربية في طريقها إلى نهاية مماثلة، وإن غداً لناظره قريب. لقد كُتب الكثير، في الغرب نفسه، ضد نزعة التقدم بالشكل الذي تتخذه، ولكن ما البديل؟!

أهل الدين: يقولون: البديل هو الدين.

والعودة إلى التاريخ لا تقدم شواهد على أن البشرية عاشت سعادةً أفضل في ظل الأديان. فهل تفسير آخر... وفهم آخر للدين في العصر الحديث يمكن أن يحقق للإنسانية السعادة المنشودة؟

لقد تحول كثير من ملحدي الحضارة إلى الإيمان وبلا شك، فالإيمان أكثر احتواء لهموم الإنسان من الإلحاد.

آخرون يقولون: لابد من العودة إلى حياة البساطة ولكن الدين لا يرفض البساطة!

وقد عاش البشر مئات السنين: مؤمنين وبسطاء!

وكان إيمانهم كإيمان العجائز في قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

* مفكر من البحرين