بعد صدور الطبعة الأولى منه بإعداد عبده وازن وتقديمه عام 1998، تعيد دار «الجديد» طباعة «ديوان الحلاج» الذي عمل عليه وازن انطلاقاً من أبحاث المستشرق لويس ماسينيون والباحث كامل مصطفى الشيبي، ليقدم رؤيته المعاصرة للحلاج إحدى الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ التصوف الإسلامي.

Ad

أحاط الناقد والشاعر عبده وازن في تقديمه «ديوان الحلاج» بمختلف وجوه الحلاج (الحسين بن منصور) عاشق الله حتى الموت، واستثمر جهود المحققين الذين سبقوه إلى إنجاز ديوان المتصوف الشهير.

حاول وازن من خلال مقدمته أن يوفق بين استنتاجات باحث من الشرق هو كامل الشيبي ومستشرق من الغرب هو ماسينيون الذي يضع جهداً كبيراً لإظهار الجوانب المسيحية في شخصية الحلاج، ويضع وزان شعر الحلاج داخل إطار زمني وديني وثقافي متجدد يأخذ في الاعتبار القيمة الشعرية والصوفية فيه، إلى جانب الخاتمة التراجيدية التي انتهت بصلبه على ضفة نهر دجلة في عام 309هـ (922م)، وما برح صلبه يؤجج نار الاختلاف بين فئة ترفض دعوته، وفئة تسلّم بها وتؤيدها.

تضاربت الآراء حوله وتعددت المواقف حتى التناقض والالتباس في ولائه الديني بين التشيع والتسنن والتصوف أو الولاء إلى المسيحية. لم يختلف رجال الدين المسلمين في أمر صوفيّ كما اختلفوا في أمر الحلاج، فرفضه البعض وكال له التهم وناصره البعض الآخر واعتبره في منزلة الأولياء وأصحاب الكرامات ونسب إليه «الخوارق».

لم يقتصر الاختلاف على شخص الحلاج، بل شمل آثاره التي لم يسلم منها إلا القليل، وقد كفّره بعض مناوئيه وأعدائه واعتبره مارقاً وزنديقاً، سوى أن بعض الصوفيين ممن أعقبوه لم يتردد في اعتباره شهيداً للحق.

يعتبر وازن أنه لئن عرف تاريخ التصوف الإسلامي تجارب صوفية عظيمة ومضيئة طوال حقبات، فإن التجربة التي خاضها الحلاج في حياته وكرسها بدمه هي من أهم التجارب تلك وأشدها خطراً وأعمقها أثراً. عاش الحلاج حياته كما لو أنه يحيا موته ويتهيأ له متجهاً نحوه كغاية من أنبل الغايات، ولطالما كان في مقدوره أن يتحاشى موته المأساوي، وأن يستسلم لإغراءات العالم والسلطة متخلياً عن دعوته، لكنه لم يستطع إلا أن يعيش في صوفيته وفي كل لفظ قاله، وكل خاطر مرّ به... وشعره المكرس في هذا الكتاب هو المعبّر عن حالته الصوفية. فهو لم يكتب إلاّ ليشهد على ما يختلج في عمقه من أحوال وآلام ورؤى. وقد جاء شعره خفيض النبرة، رقيق العبارة، فهو كشاعر يملك أسرار الصنعة الشعرية، لكنه لا يستسلم لها كلياً، فكان شعره للعارف أداة للكشف والمعرفة قبل أن يكون فنّاً بذاته. وإن استعان الحلاج بما يسمى الجناس والكناية والتلميح والإلماع فإنما ليؤكد وحدة التجربة التي تدمج الشعر والفكر وتصهرهما في نار الحدس والرؤيا والتأمل...

ولد الحسين بن منصور عام 857 م، فيما كان العصر العبّاسي يشهد صراعاً محموماً بين المذاهب والتيارات الدينيّة والسياسيّة. عاش في خلوات الصوفيّة، ثمّ طاف البلدان داعياً إلى الزهد، ليعود ويستقرّ في بغداد.

لُقّب بالحلاّج لكشفه أسرار القلوب «حلاّج الأسرار»، وثمة من قال إن لقبه جاء بسبب مهنة أبيه في حَلج القطن. كتب الكثير، وفي شتّى المواضيع، لكن لم يبقَ سوى القليل من كتاباته، تمكّن ماسينيون من جمعها بعدما كرّس أكثر من 50 عاماً يبحث في سيرة حياة هذا المتصوّف المميّز، ومقارناً بينها وبين حياة المسيح، ومستنتجاً أنّ حياة الحلاّج وأقواله قريبة من المفهوم المسيحي للألم والفداء والحياة والحبّ الإلهي، لذلك قال عنه إنّه «مسيحيّ بالشوق».

في خاتمة المقدمة، يكتب عبده وازن أنه لم يرد في ثبتِ الحلاج الذي تناقله معظم الذين كتبوا سيرته أي عنوان يدل على أن المتصوف الشهيد جمع ديوانه قبل موته صلباً وحرقاً. ومثلما لم يبق من مؤلفات الحلاج إلا عناوينها، وهي تربو على الأربعين، لم يبق من شعره إلا بضع قصائد ومقطعات وبضعة أبيات «يتامى» كما يسميها ماسينيون. وقد نسبت إليه قصائد ومقطعات سميت بالأشعار المنسوبة ولم يحسم أمرها نهائياً، إذ لا تزال مادة لسجال أدبي وتاريخي تختلف فيه الآراء وتتناقض.

يُذكر أن ديوان الحلاج صدر للمرة الأولى في القاهرة عام 1912، وقد جمعه ماسينيون ثم اصدره كامل الشيبي محققاً في بغداد في عام 1972 .

مختارات من الديوان:

أنا من أهوى, ومن أهوى أنا

نحن روحان حَللْنا بَدَنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

***

رأيتُ ربّي بعين قَلْبِي فَقُلْتُ:

مَنْ أنتَ؟ قالَ: أنتَ

***

يا نسيم الريح

يا نسيم الريح قولي للرشا

لم يزدني الورد إلا عطشا

لي حبيب حبه وسط الحشا

لو يشا يمشي على خدي مشا

روحه روحي وروحي روحه

إن يشا شئت وإن شئت يشا

طوبى لطرْف فاز مِنكَ

بنظرةٍ أو نظرتين

رأى جمالك كلّ يوْمِ

مرّةً أو مرتين

يا زين كل مَلاحة

حوشيت من عيب وشَيْن

أنت المقدم في الجمالِ

فأين مثلك أين أين؟

عجبت منك و منّي

يا مُنية المتمنّي

أدنيتني منك حتى

ظنَنْتُ أنك أني

وغبتُ في الوجد حتى

أفنيتني بك عنّي

هَمّي بِهِ وَلَهٌ عَلَيْكا

يا من إشارَتُناَ إليكا

روُحانِ ضَمَّهُمَا الهوى

فيما يَليكَ وفي يَدَيْكا

ما حيلة العبد والأقْدارُ جارِيةٌ

عَليهِ في كُلِّ حالٍ أيُّها الرّائي؟

ألْقاهُ في اليَمِّ مكتوفاً وقال لَهُ

إيّاكَ إياك أنْ تبْتَلَّ بالماءِ

الانفراد بالحبيب

أنتُمْ مَلَكتمْ فُؤادي

فَهِمتُ في كُلِّ وادِ

رُدُّوا عَلَي فُؤادِي

فَقد عَدِمْتُ رُقادي

أنا غَريبٌ وحيدٌ

بِكُمْ يطولُ انفرادي

مكانُك من قلبي هو القلبُ كلُّهُ

فليسَ لَشَيء فيهِ غَيركَ موْضِعُ

وحَطَّتْكَ روحي بينَ جِلْدي وأعْظُمي

فكيف تراني إن فقدتُك أصْنَعُ؟

أقتلوني يا ثِقاتي

إنّ في قتلي حياتي

أنا عندي مَحْوُ ذاتي

من أجلّ المكرماتِ

سَئمتْ روحي حياتي

في الرسوم البالياتِ

فاقتلوني واحرقوني

بعظامي الفانياتِ

ثَم مرّوا برفاتي

في القبور الدارساتِ

تجدوا سرّ حبيبي

في طوايا الباقياتِ