كنت في مراجعة للقنصلية المصرية في الكويت ذات مرة، فتوقف أمامي شاب، يبدو في الثلاثينيات من العمر، يطلب مني مساعدته في تعبئة استمارات خاصة به، لأنه لا يُجيد القراءة والكتابة. قد يكون مألوفا حدوث ذلك مع كبار السن، ولكن مع الشباب أمر غريب ولافت، والموقف ذاته ربما يتكرر مع آخرين، فنحن نعلم أن نسبة الأمية في مصر في أحسن حالاتها، تقارب الأربعين في المئة. مع اختلاف بسيط بحسب مصدر الإحصاء.

Ad

استذكرت ذلك أثناء متابعتي لما أثير في مصر أخيرا بشأن حق الأميين في التصويت، على مشروع الدستور، وكان الروائي علاء الأسواني هو من أطلق شرارة الموضوع عبر تغريدة له على "تويتر" فتلقفتها الألسن، وأثير حولها كثير من اللغط. أيا كان الصوت الذي أطلق شرارة هذه القضية فإن تداعياتها تنمّ عن خلفية عنصرية تصنيفية، لا تليق بمجتمع يعيش في الزمن الراهن، ويزداد الأمر سوءا عندما تصدر هذه الدعوة من أناس مثقفين، أو كتاب وروائيين. إذ كيف لهذا الكاتب أن يتجرأ على إطلاق مقولة تسلب نصف المجتمع حقه في التصويت، واختيار مرشحه، لا لسبب إلا لأن هذا الإنسان لم يتلقّ التعليم في صغره، وهو أمر لا ذنب له فيه.

يسوق الأسواني ومن يؤيده حججاً من قبيل أن هؤلاء الأميين يسهل قيادهم، وهم لا يعلمون شيئا عن الدستور الذي يصوتون عليه بنعم أو لا، كما تسهل رشوتهم بالمواد التموينية ونحوها، ويسهل استعطافهم باسم الدين. مهما كانت المبررات التي يسوقها هؤلاء، فقد وقعوا في خطيئة تاريخية لا تُغتفر. وبرأيي هذه دعوة تستوجب "الكسوف" والخجل، ولا يغفرها حتى الاعتذار للمصريين قاطبة، فقد أساء العلواني وأتباعه لشريحة اجتماعية لا يُستهان بها. وكان الأجدر بهؤلاء المثقفين مناقشة قضية الأمية في البلاد على نحو أوسع وأشمل، كأن تدعو الدولة إلى افتتاح مراكز محو الأمية في القرى والأرياف البعيدة، وتجعل محو الأمية أمرا يشبه الإلزام لكبار السن، والشباب الذين يعيشون في الأرياف.

وكان النقاش بشأن هذا الموضوع قد تشعّب، إلى حد يشبه "الفكاهة"، وأصبحنا نسمع عن من يقول إن الأمي له "نصف صوت"، وقال آخرون: لا يحق له التصويت، وإنّما وليّه يصوت عنه، يعني حق "الوصاية" عليه... إلى هذا الحد بلغ بنا التصنيف الفئوي البغيض!

قد لا يكون للمؤسسة الرسمية وأقصد هنا مؤسسة الرئاسة منذ عهد مبارك أي مصلحة في تعليم هؤلاء، لأنها هي المستفيدة من توجيههم، ومن هنا يجب أن تبرز مؤسسات المجتمع المدني، التي من المفترض أن ينتمي إليها المثقفون والكتّاب، بحيث يدفع هؤلاء نحو تعليم الأميين، وينظرون إليهم بعين الرأفة، ويأخذون بأيديهم نحو الاندماج في المدنية والتعليم المعاصر، لا أن ينظر إليهم بـ"فوقية" مقيتة، ويصنفوا وكأنهم جناة، تجب محاسبتهم.

ومن يقرأ عن الأمية جملة في الوطن العربي يجد العجب العجاب، وباستثناء الأردن، وفلسطين، ودول الخليج النفطية التي اعتمدت خططا وبرامج بعيدة المدى، فإننا نجد هذه الأمية مستشرية في بقية الأقطار، وبحسب إحصاءات المنظمة العربية للثقافة والعلوم فإن نسبة الأمية في الوطن العربي تبلغ قرابة 35 في المئة، أي ما يصل إلى 70 مليون نسمة، وفقاً لإحصاءات عام 2005. ولا أظن أن الوضع تحسن كثيرا في الوقت الراهن، فنحن نعلم أن الوطن العربي يضم بين جنباته السودان، والصومال وجيبوتي والمغرب واليمن، وجميعها تحوي نسبا لا بأس بها من الأمية، كما أن هذه المجتمعات الريفية في غالبيتها تتميز بخاصية التكاثر، وهو أمر لا نجده لدى من يتبعون نظام الأسرة الصغيرة، وهؤلاء – وهم قلة- يرسلون أبناءهم بانتظام إلى المدارس.

وفي مصر وحدها قد يصل عدد الأميين إلى 17 مليون نسمة. كيف يحق لإنسان أياً كانت درجته في التعليم أن يمنع هذا العدد الهائل من التصويت؟!