كما أن لقضية (البدون) أبعادها السياسية والاجتماعية، فإن لها أيضاً بعدها الأدبي الإنساني الذي يأتي انعكاساً مباشراً لتلك المعاناة المزمنة. وأدباء البدون هم شريحة من المخضرمين والشباب ممن وجدوا أنفسهم ضحية لمأزق (إداري/ سياسي/ إنساني)، وضحية لآبائهم – ربما - أو لظروف مرحلة تاريخية لاتزال مفتوحة على الاحتمالات.

Ad

يأتي في طليعة هؤلاء الشاعر سليمان الفليّح، الذي يمكن اعتباره عرّاب أدب البدون، فمعه يمكن تتبع البدايات الأولى للون من الشعر مكرّس للتعبير عن معاناة هذه الفئة، وإشكالية عيشهم على هامش مجتمع يشكك في استحقاقاتهم المدنية. وقد وجد سليمان الفليّح - كونه شاعراً – ضرورة توظيف أداة فنية يمكن من خلالها جعل تجربته الإنسانية أكثر شعرية وتأثيراً، فوقع اختياره على ظاهرة (الصعلكة) بجذورها التراثية وتشابهاتها الظرفية والنفسية. وتبدو (الصعلكة) أو استبطان حياة الصعاليك طريقاً لا مفرّ منه لشاعر مثل سليمان الفليّح يعيش تجربته الشعرية بمستوييها الفني والواقعي، ويراها ببصيرته الشعرية قدراً وواقعاً يتلبسه لا محالة، فيتخذها مطيته وأداته الوحيدة لبث معاناته واستهجانه لواقع ينبذه ويهمّشه.

يمكن اعتبار نص "البدو الرّحل" من ديوان (أحزان البدو الرحل) خير ما يعبر عن هذه المعاناة في شعر الفليّح فناً وموضوعاً. إنه نص يتفجّر بالشجن واللوعة، ويضجّ بذلك الروع وارتجاف الإنسان في انكساره ومراراته، وعذابات ارتحال قسري يتخذ بعداً روحياً ونفسياً أعمق مدى من بعده الواقعي. إن حكاية آخر جماعات البدو الرحل اللاجئين لبوابات المدن، معفرين بالحاجة والذل والفقر، تغدو في هذا النص أغنية فاجعة معذِّبة تعلن اندثار الصحراء وسقوط رموزها واندحار إنسانها:

ها قومي انحدروا من مرتفعات الماضي – شُهْب الأعين – /  تجلدهم ريح المستقبل نحو الواحات المأهولة بالأمطار

هاهم مثل جراد القحط القادم من آخر إقليم في الدنيا / جاءوا وانتشروا في هذي الصحراء الرملية مثل الأحجار

ها هم عند حدود الغيم الأزرق ناموا /  فتوسّد كل فقير منهم/ عوسجه

حلموا بالفجر وأبكاهم برق شقّ الظلمة "يشعق" / يتعرج في دائرة الأفق المغلق/  لكنه ما يلبث أن يخبو

فابتلّت من أدمعهم عند الفجر الريح/ الأرض/ الأشجار/ هاهم قاموا/ ساروا نحو تخوم المدن الكبرى

جوعى/ عطشى/  يستعطون الخبز اليابس والماء الآسن والنار

هاهم عند حدود المدن الكبرى محنيو القامات/ منكسرو الهامات/ ومشتملون بأسمالهمو الرثة لا تكسوهم/ إلا الأطمار

ها هم تجلدهم / كي تبعدهم/ عن أسوار المدن الكبرى/ خيالة جيش التتار

هاهم يضطجعون هنالك/ مثل الأخشاب المنخورة خلف الأسوار

هاهم ينطفئون هنالك/ عند حدود الغيم الأزرق مثل الأنجم/ كي يُسدل عن آخر أخبار البدو الرحل/ في هذا العصر ستار!

أما في مجال القصة القصيرة يمكن الاستشهاد بمثالين من ناصر الظفيري وعلي المسعودي. ففي نص قصصي للأول بعنوان: (الرحلة الأولى أخيرة) يعبر الكاتب فيها عن إشكالية الاقتلاع القسري من ألفة المكان/ الوطن والعلاقات والتفاصيل الحميمة التي يعتادها الإنسان، وما تخلقه من تشبث وتعلّق يصبح الاقتلاع معه مؤلماً حدّ الشجن:

"لو وضعت النملة في أعظم قصور العالم لبحثت فيه عن ثقب تشم منه رائحة الرمل وأسمته وطناً... رئتاي تعودتا على رياح الكوس وهبوب الشمال وعيناي تعشقان كراسي قهوة شعبية... قلبي يطير لشرائط الضفائر الملونة في كل صباح".

وحين تطأ القدمان أرض المنفى القسري حيث الغربة واللاوطن، لا يطل على الروح المتعبة غير القشعريرة والهواجس المرّة:

"ماذا شربت؟ لا أتكلم. تنزل دمعة صغيرة تمسحها الممرضة الهادئة، تربت على كتفي وتمضي. لن يأتي أحد ليراني. من يعرفني هنا؟! ربما لو متُّ سيضعونني في كيس بلاستيك ويحرقونني كالنفايات. هل سيعرفون كيف يصلون عليّ؟ حتى الموت ملعون هنا. لو مت هناك يا أحلام... هناك الموت جميل... سأطل من فوق أكتاف أحبائي أمسح دموعهم... سيكون لي وطن صغير وأسمع صوت العصافير كل صباح تغني للموتى أغاني الحياة... وهنا أموت وحيداً غريباً".

***

* سليمان الفليّح: حصل على الجنسية السعودية وأقام فيها بعد أن ترك الكويت في السنوات الأخيرة.

* ناصر الظفيري غادر الكويت إلى كندا، فهل أصبح مواطناً كندياً حقاً؟ أترك لكم الحكم على قلبه من خلال ما سبق.