(1)

Ad

ضمن البرامج المخصصة لهيئة الإذاعة البريطانية في احتفالاتها بمرور ثمانين عاما على إطلاق خدمتها العالمية، والتي تبث راهنا، أجدني حريصا على استماع فقرات من البرنامج الإذاعي الشهير (قول على قول)، ولست أدري هل هو الحنين الذي يرافق جيلنا ممن قضوا ردحا من عمرهم وهم يتلقون الثقافة عبر وسائل بسيطة محببة، ومن بينها الإذاعة، حين كانت الدنيا تسير بسلام، ولم تغز عقولنا ثورة الاتصالات والأقمار الاصطناعية، التي تبدو في جانب كبير منها تجارية صرفة، ولا علاقة لها بمعرفة الإنسان أو ثقافته أو نمو عقله، وإلا ما الذي يجعل الشباب يتسابق لاقتناء هواتف، وكمبيوترات محمولة بحسب الموضة، وليس الحاجة العلمية، تماما كما تصنع دور الأزياء تصاميمها، ومن ثم يُفتن النساء وبعض الرجال بـ«تقليعة» الموضة هاته أو تلك، يُفتن الشباب راهنا بمفرزات التكنولوجيا الحديثة.

(2)

بالعودة إلى العالم الفلسطيني حسن الكرمي (1905-2007)، وبرنامجه الإذاعي الشهير أجد أن لاشتهار هذا الرجل، أسبابا كثيرة، فهو أحد اللغويين موسوعيي المعرفة، المجيدين علما، وإلقاء مميزا، يسندها معرفة واسعة بالنحو العربي، مع نبر (بتسكين الباء) صوتي يكاد ينفرد به. كل تلك الأسباب تجعلنا مع رجل تبحر في العلوم وأجاد الصناعة الإعلامية.

التحق الكرمي بالإذاعة البريطانية في سنة 1948، وهي السنة ذاتها التي انتهى فيها الانتداب البريطاني على فلسطين وقيام دولة إسرائيل. في تلك الفترة المبكّرة خبر الكرمي العمل الإعلامي، وخاض غمار البحث والقراءة باللغتين العربية والإنكليزية، وذاق لذّة البحث العلمي، وكان قبلها تدرّج في مراحل علمية عديدة، ابتداء من مدينة طولكرم مهد ميلاده وطفولته، ومن ثم سورية، حيث تلقى تعليمه الثانوي، انتقل إلى القدس للدراسة في الكليتين العربية والإنكليزية، وانتهى به المطاف في جامعة لندن حيث تخرّج فيها سنة 1938 متخصصا في أصول التربية والتعليم (الإحصاء التربوي).

(3)

حين تخرّج الكرمي في جامعة لندن لم تكن كثير من الجامعات العربية أنشئت، أو ظهرت على الوجود، كما أن بلادا عربية عديدة لا تزال ترزح تحت وطأة الاحتلال، ولعل هذا السبق المبكر نحو المعرفة العلمية هو ما ساعد الكرمي على احتلال هذه المكانة المرموقة في تاريخ المعرفة العربية، وهي مكانة لم ينلها بسبب برنامجه الإذاعي الشهير الذي أنتج في اثني عشر مجلدا، بل بسبب جهوده اللغوية الأخرى، خصوصا تلك المعنية بحقل المعاجم، فهو صاحب المعجم الشهير «المنار» ومن بعده ألّف «المغني»، و»المغني الكبير» و»المغني الأكبر» وجميعها معاجم ثنائية اللغة (الإنكليزية والعربية)، وكان الكرمي عمل مرقبا لغويا أول التحاقه بهيئة الإذاعة البريطانية، ومن ثم قدّم عدة برامج متفرّقة، أحدها مخصص لتعليم اللغة الإنكليزية، من قبل أن ينتهي به المطاف إلى فكرة البرنامج الشهير «قول على قول» الذي يكاد يصبح ماركة مسجّلة باسمه، والبرنامج يدلّنا على الثقافة الموسوعية لصاحبه الذي يبدأه بسؤال من أحد المستمعين لبيت عربي من الشعر، فيجيب الكرمي عن قائله، ومناسبة هذا البيت الشعري، ومن ثم يذكر أبياتا شعرية أخرى مشابهة له مع أسماء قائليها.

(4)

تتطلّب الحلقة الواحدة من هذا البرنامج إعدادا إذاعيا مضنيا، من حيث البحث عن القائل، والرجوع إلى المراجع المتاحة والتثبت من صدق الرواية، ومن ثم القراءة السليمة أمام «المايك» وجميعنا يعلم الشِّعر، واحتمالات معانيه المتعددة، وصعوبته اللغوية، كل ذلك يجعلنا نشعر بالتقدير تجاه هذا العَلَم اللغوي، ويضع العاملين في الحقل الإذاعي الثقافي أمام مسؤوليات صعبة، إن هم أرادوا المنافسة، وتقديم البرامج العميقة والمشوّقة في الآن ذاته.

ولهذه المعرفة الموسوعية قصة مع القراءة والكتاب، فقد اعتاد الكرمي بحسب حديث له مع قناة الجزيرة قبل رحيله أن يُخلّف مكتبة موسوعية في كل مدينة يقطنها، حدث ذلك مع الشام، وعمّان، ولندن، وفي هذه الأخيرة كان يعيش الكرمي بين أرتال من الكتب في بيته العامر بالعلم والثقافة، وهذه الكتب هي ما أتاحت له الاستمرار في برنامجه، في الوقت الذي لم يتعرف فيه العالم بعد على ثورة الإنترنت.