تعمل الثورة المضادة في مصر على قدم وساق لهز الثقة بالاقتصاد المصري عبر زعزعة الأمن، وتنفق على ذلك ببذخ، فليس من مصلحة رجال العهد البائد استقرار الأوضاع وسيادة دولة القانون، لأنهم سيكونون أول من تضيع مصالحهم، بل سيحاسبون على فسادهم. الاستقرار السياسي والأمني هو الضمانة التي تحظى بالإجماع للخروج من المشكلات الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد المصري، سواء تلك المشكلات المزمنة التي ورثتها مصر من العهد البائد لمبارك، أو تلك التي تسببت فيها الأحداث المتتالية لثورة 25 يناير المباركة.وقد سادت حالة من التفاؤل على الصعيد السياسي بعد إجراء الانتخابات البرلمانية بمراحلها الثلاث دون وقوع خلل أمني، لسيطرة كل من الجيش والشرطة على المقدرات الأمنية، كما لوحظ تواجد شرطي إلى حد ما في الشارع، مما ساعد على حالة من التفاؤل على الصعيد الأمني أيضًا.غير أنه على مدار الشهر الماضي، تدهورت الحالة الأمنية في الشارع المصري بصورة كبيرة، من السطو المسلح على البنوك وشركات نقل الأموال وشركات الصرافة، إلى الاعتداء على محلات تجارية شهيرة ودور مسنين ونهب أموالها، أو خطف سائحين.وكان الحادث الجلل الذي هز المجتمع المصري المجزرة التي ارتُكبت في ملعب مدينة بورسعيد، ثم تبعتها عمليات نوعية لخرق الطوق الأمني، مثل خطف أحفاد وأولاد الأثرياء والحصول على دية وصلت إلى ملايين الجنيهات، وكذلك حرق بعض المؤسسات العامة مثل مبنى مصلحة الضرائب العقارية، والاعتداء على أقسام الشرطة بحرق مقراتها لتهريب متهمين في قضايا جنائية.كل ذلك صب في مسار التأثير السلبي على أداء الاقتصاد المصري الحالي والمتوقع خلال الفترة القادمة، وهو الأمر الذي نتناوله في هذا التحليل.تراجع الناتج المحليحسب بيانات البنك المركزي المصري (النشرة الاقتصادية لشهر ديسمبر 2011) فإن معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول للعام المالي الحالي الذي بدأ مطلع يوليو الماضي بلغ 0.3 في المئة، والتي تعتبر أفضل مما تلاها من حيث الاستقرار الأمني.وإذا ما اعتبرنا –جدلا- أن أداء الاقتصاد المصري لن يقل عن هذا المعدل في باقي الفترة من العام، فإن معدل النمو لن يتجاوز 1 في المئة إلا بمعدل يسير، إلا أن هذا السيناريو غير قابل للتحقيق في ظل تدهور الناحية الأمنية، وهو ما يعني تراجع معدل أداء الاقتصاد المصري عن معدل الربع الأول من العام، وبذلك يكون الاقتصاد المصري في موقف حرج.وإذا ما أخذنا في الاعتبار المؤشرات المعتمدة على نمو الناتج المحلي، وهي الزيادة في معدلات المواليد والتي تقدر بنحو 2 في المئة، ومن المفترض أن تكون معدلات النمو الاقتصادية ثلاثة أضعافها، أو مؤشر البطالة وعدم قدرة الاقتصاد على استيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل -الذين يقدر عددهم سنويا بنحو 750 ألف فرد- والتي تتطلب أن ينمو الاقتصاد المصري بمعدل 7-8 في المئة، وبذلك فإن معدلات البطالة في الاقتصاد المصري ستشهد ارتفاعا ملحوظا عما هي عليه الآن. والدليل على ذلك خلال هذه الأيام واضح من خلال انتشار الباعة الجائلين، وزيادة رقعة الاقتصاد غير المنظم، وإشارة بعض وسائل الإعلام إلى غلق نحو 1600 مصنع بعد الثورة.انخفاض الاستثماراتأظهرت البيانات الخاصة للبنك المركزي المصري تراجع الاستثمارات المنفذة خلال الربع الأول للعام المالي لتصل إلى 46.1 مليار جنيه مصري، مقارنة بـ56.3 مليارا للفترة المقابلة من العام المالي السابق.وبذلك نجد أن حجم التراجع بلغ 10.2 مليارات جنيه، وأن نسبة التراجع بلغت 18.1 في المئة. ومن الطبيعي أن ينعكس تراجع الاستثمارات الكلية بوضوح على ارتفاع معدلات البطالة والفقر في المجتمع.كما تشير البيانات إلى أمر مهم، وهو تراجع نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاستثمارات المنفذة في الربع الأول من العام المالي الحالي ليصل إلى نسبة 67.8 في المئة مقارنة بنحو 70 في المئة في الفترة المقابلة من العام السابق، في حين زادت نسبة مساهمة الاستثمارات العامة عما كانت عليه في العام الماضي، من قبل الاستثمارات الحكومية والشركات العامة والهيئات الاقتصادية.ارتفاع معدلات الفقررفعت ثورة 25 يناير شعار «عيش، حرية، كرامة إنسانية»، إلا أن البيانات الصادرة بعد عام من الثورة عن الفقر أتت عكس ذلك، حيث ارتفعت معدلات الفقر في المجتمع إلى 25.2 في المئة من السكان في العام المالي السابق، مقارنة بـ 21.6 في المئة عام 2008/2009، وذلك حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.غير أن الوجه القبلي كان أكثر تأثرا بارتفاع معدلات الفقر من الوجه البحري، وإن كان كلا الإقليمين قد تأثر سلبيا بارتفاع معدلات الفقر. فبلغ الفقر في ريف الوجه القبلي نسبة 51.4 في المئة من السكان مقابل 43.7 في المئة، وفي حضر الوجه القبلي ارتفع معدل الفقر بين السكان من 21.7 في المئة إلى 29.5 في المئة. أما في الوجه البحري فوصل معدل الفقر في الريف إلى 17 في المئة من السكان مقارنة بـ16.7 في المئة، وفي الحضر بلغ معدل الفقر بين السكان 10.3 في المئة مقابل 7.3 في المئة.تراجع السياحةولم تعد السياحة الى معدلات أدائها قبل الثورة، فما زالت تدور حول 900 ألف سائح شهريا حتى سبتمبر 2011، إلا أنه بعد حادث اختطاف السائحتين الأجنبيتين يتوقع أن تعاني السياحة في مصر كثيرا، وبالتالي أن تشهد العمالة المصرية زيادة في ضياع فرص العمل، بل وتعثر في سداد التزامات المؤسسات السياحية تجاه البنوك وغيرها من الجهات التي تتعامل معها.التكلفة الاقتصاديةولوحظ في مشروع موازنة العام الجاري أنه زاد من مخصصات قطاع النظام العام وشؤون السلامة العامة إلى 22.7 مليار جنيه، بعدما كان 18.5 مليارا كمتوقع للعام الماضي، أي أن الزيادة في حدود خمسة مليارات جنيه، في الوقت الذي كان ينتظر فيه تخفيض مخصصات الأمن لتتجه إلى قطاعي التعليم والصحة وخدمة الفقراء.وصار من المألوف في الشارع المصري أن تغلق شركات الصرافة أبوابها الرئيسية وتسمح بالتعامل مع زبائنها عبر فتحة صغيرة بالباب، كما زادت إجراءات التأمين على المؤسسات المالية، ليس من قبل المؤسسة الأمنية الرسمية فحسب، ولكن من خلال المؤسسات المالية نفسها. ومن شأن هذه الإجراءات أن تزيد من تكلفة عمل هذه المؤسسات، وبالتالي التأثير على أرباحها، والأخطر هو تراجع ثقة أصحاب المدخرات في الذهاب إلى هذه المؤسسات والتعامل معها، فضلًا عن أن يقلقوا على مصير مدخراتهم بهذه المؤسسات.كما لوحظ أن المؤسسات الاقتصادية قد زادت من حجم إنفاقها على الأمن وتسليح أفراد الأمن بها. كما تلجأ بعض العائلات إلى شراء السلاح لتأمين منازلها، أو الاحتفاظ ببعض أنواع السلاح في سياراتهم. وقد أدى هذا الأمر إلى رواج تجارة السلاح غير المشروعة، حيث يتم تهريب كميات غير محدودة من الأسلحة عبر الحدود المصرية من كل من السودان وليبيا، وقد أعلنت الجهات الأمنية غير مرة ضبطها لكميات كبيرة من الأسلحة من هذين المنفذين.ويزيد من خطورة نشاط تجارة الأسلحة غير المشروعة أن ثمنها يدفع بالعملات الأجنبية، وعادة ما يحصل العاملون بهذه التجارة على متطلبات التمويل من خارج المؤسسات الرسمية، وهو ما يخلق سوقا سوداء ويزيد من الطلب على الدولار، وبالتالي العمل على خفض سعر العملة الوطنية.(الجزيرة. نت)ضبابية الرؤيةطالت الفترة الانتقالية المقدرة للأوضاع السياسية في مصر، ومن بينها حالة القلق التي تعيشها مصر على الصعيد الأمني، وهو ما أثر بدوره على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر، فكانت محدودة للغاية خلال العام الأول للثورة، ولم تعد إلى سابق عهدها قبل الثورة، بل تؤثر هذه الحالة أيضا على قرارات المستثمرين المحليين سلبيا فلم تتم عمليات توسعة لمشروعات قائمة، أو التفكير في مشروعات جديدة.في حالة استمرار الحكومة المصرية على طلبها لقرض صندوق النقد الدولي، فإن الوضع الأمني سيساعد على إضعاف موقفها التفاوضي بشأن قدرة الاقتصاد المصري على سداد التزامات القرض.«رأس المال جبان»... مسلمة يدركها الجميع، وبدون توفير الأمن لن تكون هناك تنمية اقتصادية حقيقية تعمل على تحقيق مطالب ثورة 25 يناير، من القضاء على الفساد ومحاربة الفقر والبطالة، أو الانتقال بالاقتصاد المصري من مصاف الدول النامية إلى الدول الصاعدة. ولذلك تعمل الثورة المضادة في مصر على قدم وساق لهز الثقة في الاقتصاد المصري عبر زعزعة الأمن وتنفق على ذلك ببذخ، فليس من صالحها استقرار الأوضاع وسيادة دولة القانون، لأنهم سيكونون أول من تضيع مصالحهم، بل وتعرضهم لمحاسبات على فسادهم.ليس بوسع أحد الوقوف على رقم محدد لحجم إنفاق الثورة المضادة لزعزعة الأمن، ولا حجم التجارة غير المشروعة في السلاح، ولا أيضا حجم ما ينفقه الأفراد على تأمين مؤسساتهم ومنازلهم وأنفسهم. وبلا شك فإن الفرصة البديلة للإنفاق على هذه البنود، من شأنها أن تخلق فرصا للعمل ويزيد من الاستثمارات ويساعد على تغيير وجه مصر الاقتصادي. وبقدر نجاح الحكومة المصرية ومعها المجتمع في استقرار الأمن، ستنجح في صناعة مستقبلها الاقتصادي والعكس صحيح.الفقر يشمل ربع سكان مصرفي الوقت الذي يرجو فيه مصريون توديع الفقر، أتت الإحصائيات الرسمية لتظهر ارتفاع معدلاته في المجتمع بشكل عام إلى 25.2 في المئة من السكان في الفترة 2010/2011 مقابل 21.6 في المئة في 2008/2009. وكانت مناطق الريف بصعيد مصر هي الأكثر تضررا حيث بلغ الفقر فيها 51.4 في المئة من السكان مقابل 43.7 في المئة في 2008/2009.وتكشف البيانات التي أبان عنها بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الذي أنجزه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الكثير من بؤس حياة الفقراء في مصر، حيث تشير البيانات إلى أن حد الفقر الأدنى ناهز 256 جنيهاً (42 دولارا) للفرد في الشهر بينما يبلغ الحد الأعلى للفقر للفرد بحدود 334 جنيهاً (55 دولارا).ولا يتجاوز معاش الضمان الاجتماعي الذي تقدمه الحكومة للأسر الفقيرة 175 جنيها (قرابة 29 دولارا) في الشهر، ويستفيد من هذا المعاش نحو مليون ونصف مليون أسرة، أي ان ما تحصل عليه الأسرة الفقيرة في الشهر أقل من الحد الأدنى للفقر للفرد الواحد بنحو 81 جنيهاً (13 دولارا).ولكن تنبغي الإشارة إلى أن بيانات المسح أوضحت انخفاض معدلات الفقر المدقع خلال الفترة من 6.1 في المئة إلى 4.8 في المئة.تراجع طبيعيوزير الاقتصاد الأسبق مصطفى السعيد صرح للجزيرة نت بأن ارتفاع معدلات الفقر في مصر بعد الثورة وضع طبيعي، حيث تراجع العديد من المؤشرات الاقتصادية مثل انخفاض معدل النمو في ظل بقاء أو ارتفاع معدل النمو السكاني، وكذلك تراجع معدلات أداء قطاع السياحة بشكل ملحوظ، وتوقف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.وعن مبررات ارتفاع معدلات الفقر في ريف الوجه القبلي بمصر (منطقة الصعيد)، أجاب السعيد بأن هذه المناطق بطبيعتها تعاني انخفاض الاستثمارات وفرص العمل، ويعتمد أبناؤها على الهجرة إلى القاهرة والإسكندرية للعمل. ونظراً لأن المشروعات التي يعمل فيها أبناء منطقة الصعيد في المدينتين تسير ببطء أو شبه متوقفة، فإنهم فقدوا وظائفهم، وبالتالي قل إنفاقهم على أسرهم وزادت معدلات الفقر في صفوفهم.أولوية الأمنويطالب السعيد بضرورة عودة الأمن على وجه السرعة وتوقف ما وصفه بالإعلام السلبي الذي «يعمل على الإثارة، ويبعث برسائل سلبية إلى المستثمرين الأجانب، ويمنع تدفق السائحين إلى مصر».وفي الأجل الطويل يرى وزير الاقتصاد الأسبق ضرورة مواجهة مشكلة الزيادة السكانية، والاهتمام بالتعليم لتحسين نوعية الموارد البشرية لمصر لتكون قادرة على ولوج سوق العمل والحصول على دخل مناسب والخروج من دائرة الفقر.ويدعو المتحدث نفسه للتركيز على التصنيع الذي يشغل العمال بكثافة، والانتباه لما لمصر من دور اقتصادي إقليمي في المحيط العربي والافريقي.ازدواجية اقتصاديةوينبه أستاذ الاقتصاد في جامعة المنصورة مختار الشريف إلى أن مصر تعاني من ازدواجية اقتصادية فُرضت عليها بعد ثورة 25 يناير، حيث توقفت عجلة الإنتاج إلى حد ما، في ظل وجود تدفقات نقدية من العاملين بالخارج لا تقابلها سلع وخدمات، فارتفع معدل التضخم، مما نتجت عنه صعوبات في الوضع المعيشي للأسر التي لا تتوفر على تحويلات خارجية.وأضاف أنه بسبب ذلك «ارتفعت نسبة الفقر في مصر بعد الثورة» وفقا للشريف، حيث إن بعض المصانع أغلقت ويقدر عددها بنحو ألفيْ مصنع، وهو ما أسهم في ارتفاع معدلات البطالة وفقدان الدخل لدى هؤلاء العمال ودخولهم في شريحة الفقراء.وعن دور الحكومة في الفترة المقبلة لمواجهة مشكلة الفقر، أوضح الشريف أن الحكومة الحالية مطلوب منها أمران فقط على وجه السرعة هما عودة الاستقرار والأمن وتهيئة مناخ الإنتاج، «فإن نجحت في تحقيق ذلك فإنها تكون أدت ما عليها»، حسب رأيه.ويفسر أستاذ الاقتصاد ارتفاع معدلات الفقر في ريف الوجه القبلي بوجود تراكم تاريخي نتيجة حرمان المنطقة من الخدمات والاستثمارات بالشكل المطلوب، مضيفا أنه «لابد من أن ينظر بعد الثورة واستقرار الأوضاع إلى مسألة إيجاد تنمية إقليمية تساعد على تغيير وجه الصعيد، ليخرج من معدلات الفقر المرتفعة».(الجزيرة. نت)
اقتصاد
مصر... الثورة المضادة تحفظ إرث مبارك و تهز الثقة بالاقتصاد
08-02-2012