«مرض السرطان لا ينبغي المزاح فيه، ولا يجب أن يعالج إلا في مركز متكامل يوفّر للمريض التثقيف المناسب حول المرض وطرق علاجه وآثارها الإيجابية والسلبية، فمرض السرطان معقّد بشكل لا يجدر التعامل معه كما نتعامل مع التهاب الزائدة الدودية، فنخبر في دقائق المريض بضرورة استئصالها عبر جراحة ونرسله من ثمّ إلى غرفة الجراحات من دون أن نوطّد علاقتنا به ونستمع إلى مخاوفه ورغباته ونحاول تلبيتها قدر ما نستطيع». بهذه المقولة ودعني جيمس فرانك، أستاذ جراحة السرطان في جامعة تفت في بوسطن، على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، قبل أن أقطع أميركا بسيارتي «الماكسيما» وأنا أقطر ممتلكاتي لأصل إلى الشاطئ الغربي حيث أتابع تدريبي. كنت في شوق إلى إجازة قصيرة أنا والأهل نتوقف فيها في بعض الولايات التي ستصادفنا على الطريق لنقول إننا قطعنا الطرق ذاتها التي قطعها الرحالتان لويس وكلارك حين اكتشفا غرب أميركا المجهول، أو كما نسميها «حجة وقضيان حاجة». قدم لي د. فرانك كتاباً في عنوان «من على طاولة المطبخ» ممهوراً بإهدائه، فلما غادرت قرأت الإهداء فإذا به يقول: «استمع إليهم قبل أن تتحدث»، فتذكرت حادثة وقعت لي معه، ومع أنني كنت مصيباً في أمور طبية إلا أنني فشلت في أن أكون إنساناً يفهم مخاوف مريضه الذي يرفض العلاج، فقد عاش عمراً كافياً، كما قال، لكنه أراد قبل كل شيء أن تبقى هيبته في مجتمعه حتى يوم موته من دون ألم، فأصريت على معالجته ولم أقبل رفضه حتى فهمت ما يريد فبدأت أستمع. تجدد لي ذلك حين قابلت، قبل أيام، مريضة بالسرطان حزنت على ضياعها أكثر من عدم علاجها على يد الطب الحديث، وغضبتُ من فشلنا، نحن الأطباء، في الحفاظ على التواصل مع مرضانا حتى لو رفضوا العلاج، عندها تذكرت كلمة دكتور فرانك: «لا يعالج السرطان من شخص بل من فريق». هذه المريضة المسكينة فقدت زوجها منذ أمد غير بعيد بعد إصابته بسرطان في الجهاز الهضمي، ورأته يضمحلّ ويسقط ضحية السرطان، لكن ما ترسّخ في ذهنها أن زوجها سقط صريع العلاج وليس المرض، فقد هدّ الكيماوي حيله، فأرداه قتيلاً، كما أخبرتني ابنتها التي هي، بلا شك، خير عضد لهذه الأم. لكن على رغم علمي بصحة مقولة إن الكيميائي قضى عليه إلا أنني أرجح أن مرضه كان من السوء بحيث أعطي جرعات تلطيفية أكثر من كونها علاجاً بقصد الشفاء، ولعلها لم تكن، على الغالب، ذات فائدة لتأخر العلاج، كما هي الحال مع كثير من سرطانات الجهاز الهضمي الشديدة الخبث، التي لا تُكتشف إلا بعد فوات الأوان، أو قد يكون المريض من الضعف والتعب فيأتي العلاج أقوى من قدرته على التحمّل فيموت. ويلجأ الأطباء، أحياناً، إلى علاجات قوية حين يصرّ المريض وأهله على تجربة علاج نسبة نجاحه ضعيفة فيكونون كمن تعلّق بقشّة. المشكلة هنا معلوماتية، فلا الزوجة ولا الأبناء البالغون على علم بما جرى، وقد دلّت إجاباتهم عن أسئلتي حول والدهم على ذلك، من بينها: «لا نعرف، لم يُقل لنا هذا، هل هذا معقول؟ ليتنا كنا ندري»... لا أعلم إلى متى سنقبل أن نعالج مرضى السرطان كما نعالج الزكام في مراكز ظاهرها التخصص وباطنها مجموعة من الأقسام لا تحترم بعضها ولا تتبادل المعلومات أو حتى تتشارك فيها!؟ أقفل ملفّ المريض المتوفى وعلقت الذاكرة السيئة في العقول وشاء المولى أن يبتلي صبر هذه الأم، فأصابها السرطان قبل ما يزيد على العام. تصف المريضة لي حالتها فتقول: «آلمني صدري فظننت أنه من أثر حادث سبب لي كدمة استمرت شهرين، فزرت الطبيب الذي أحالني إلى مركز السرطان حيث أُخذت عينة وأُخبرت بالخبر السيئ، لقد أصبت بالسرطان، فتذكرت معاناة زوجي قبل كل شيء». كعادتي أردت تصحيح مفهوم أن السرطان لم يأتِ من الكدمة فقلت: «على الغالب سيدتي كنتِ مصابة بالسرطان منذ فترة، والكدمة نبهتك إلى التورم، أتمنى أن تنتبه البنات في أسرتك إلى ضرورة الفحص الدوري والمبكر»، هنا قاطعني الابن بلهجة المستاء المتضايق: «يا دكتور قالوا لنا إن أمّنا في المرحلة الخامسة من السرطان، وإنه منتشر وستموت، ثم حين أجروا فحوصات لها قالوا: لم ينتشر لكنه في المرحلة الخامسة». هذا تناقض في الحديث لا أحمّل أحداً وزره سوى عدم وجود قناة واضحة للاتصال والتخاطب بين المريض والطبيب، بحيث تختلط الأمور. حتى التقارير لم تكن معهم، كل ما كان في حوزتهم تقرير أشعة وتقرير عيّنة. أضاف الابن: «راجعنا جراحاً في مركز السرطان فقال لنا: العلاج كيميائي ولا جراحة، ثم في زيارة تالية غيّر رأيه إلى خيار الجراحة فاستبشرنا، ثم غير رأيه إلى جراحة تليها كيميائي، ثم فوجئنا حين قال سنبدأ بالكيميائي تليه الجراحة ثم نستكمل بالكيميائي... فمع تقلّب الحديث وتغيره، لم تعد لدينا ثقة بالطبيب، ثم جاءت مخاوفنا الأولى من موت الوالد بالكيميائي، فدلنا أهل الخير على العلاج بالماكروبيوتك في أميركا»... وقبل أن أسترسل أقول بالتأكيد إن الجراح، كلما جاءته نتائج الفحوصات كلما غير خطّة العلاج، ولا أعتقد أن الخبراء يخطئون بهذا القدر، لكن كان الأفضل لو قال الجراح: «لن استطيع أن أخبركم عن العلاج حتى تكتمل الفحوصات»، وإن سألوا عن أنواع العلاج المتوافر أخبرهم بشكل عمومي، كي لا يحدث ما يحدث، ويوثّق كل شيء حتى لا يكون ثمة لبس، لذلك ينبغي ألا تصدر خطة علاجية من بورد الأورام وألا تكون نسخة منها مع كل مريض، فهذا حق واجب، في رأيي، على كل مركز للسرطان. يتابع الابن: «الحمد لله شددنا الرحال لأحدث علاج وهو الماكروبيوتك فعالجنا أمنا ورأينا مرضى شفوا من دون العلاج الكيميائي الذي ترفضه أمي». لم أرد، في مقابلتي الأولى، أن أبدي رأيي الصريح في هذه الهرطقة المسماة العلاج بالأعشاب والحشائش والألياف العالية القيمة، فقد تعلمت أن هذه العلاجات هي حقيقة يراد بها باطل، ولكشف حقيقتها ينبغي أن يتمّ ذلك تدريجاً وبالتفصيل البطيء. لا أتذكّر في حياتي مريضاً بالسرطان عولج بالألياف أو الماكروبيوتك أو العسل أو الحبة السوداء أو الطاقة الكامنة وشفي من السرطان من دون أن يخضع للعلاج الكيميائي أو التقليدي معه، وهنا أتحدى أن يبرهن لي أحد العكس بالدليل القاطع وليس بكلام سمعه من مرضى شفوا، بل وأزيد: «شاهدت حالات مأساوية كحالة هذه المريضة خدعها البعض بأدوية ادّعى أنها تعالج السرطانات كافة». ما زلت أتذكر مريضاً بالسرطان اللمفاوي قصد طبيب أعشاب لبناني شهير وعاد ولديه تحسن ٣٠٪ تقريباً، كما أخبره الطبيب، وقد أوصاه هذا الدجال بأخذ أشعة مقطعية للتأكد مما ذهب إليه، فاستغربت ذلك وطلبت أن أرى الدواء، فكان لي هذا، وأعطيته إلى زميلي الصيدلاني الذي حلله، فكشف وجود كورتيزون بجرعات عالية جداً، وهي علاج طبي للسرطان اللمفاوي، واستغربت أن الدجال تعلّم من مآسي مرضاه بل وفهم مضاعفات كل علاج، فكان، إذا خلط الكورتيزون وصف الجرعة بالطريقة ذاتها التي يصفها أطباء السرطان للمرضى. وأتذكّر ذاك الطبيب الذي يغيّر نسبة الحبة السوداء (حبة البركة) والعسل والشاي الأخضر وبعض العشب الآخر، ويضع كل خلطة ويسميها علاج سرطان معين، فكان أن رفعت السماعة عليه في مكة المكرمة وأغلظت له القول من هاتف المريضة التي أوشكت أن تموت على يديه بجهله. نقبل من هؤلاء خداعهم لأننا نعتقد أنهم من أهل الصلاح أو أهل الأخلاق والمبادئ العليا بسيماهم أكثر من تصرفاتهم، فحين يدسّون بين المنتظرين عندهم بعضاً من معاونيهم من المدعين بإصابتهم بسرطان مزعوم قد شفوا منه تنطلي علينا الحيلة، فلا أقول إلا بئس هؤلاء فهم كما جاء في القرآن «يشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار». للأسف، هي تجارة لا يتورع من فيها عن الكذب والدجل. لا أطلب منا كأطباء أن نلجأ إلى الأساليب غير المقبولة أخلاقياً نفسها، لكن أطلب مزيداً من الخصوصية في علاج مرضى السرطان والتقرّب إليهم من خلال مساعدينا الاختصاصيين، مثل المثقفة الصحية أو الاختصاصية النفسية والاجتماعية، ونوفر مصادر معتمدة للمعلومات لا تهوّن ولا تهوّل، بل تعطي صورة حقيقية لكل مريض. وعودة إلى مريضتنا المسكينة فقد زاد الورم في صدرها حتى تقرّح الجلد وبدأ ينز الدم على ملابسها من دون توقف، ونتيجة لتغذية الماكروبيوتك الخاطئة جاءت شاحبة، فلما فحصنا دمها وجدناه ٤ والطبيعي فوق الـ١١ للمرأة، وبدا التعب عليها جلياً وتتحرك على كرسي العجلات، مع ذلك كانت مقتنعة هي وأولادها بأنها في حال أفضل، وأن تقرّح الورم من خلال الجلد هو نتيجة مقبولة للعلاج، حيث يبدأ الورم في الاحتضار، كما أن فقر الدم الشديد نتيجة نزف الجلد وليس التغذية الخاطئة، وكان ذلك بعيداً كل البعد عن الحقيقة، فالورم زاد ولم يتوقف عند ذلك بل اخترق في العمق ليصل إلى عضلات الصدر. ثمة فرصة لشفاء المريضة، وكلي أمل أن تحصل على علاج ملائم وألا يتأخر ذلك، وأتمنى على جمعيات النفع العام، التي تهتمّ بأمراض الثدي أو السرطان على العموم، ألا تكون حاضرة في الأسابيع الاحتفالية التوعوية فحسب، بل أن يكون لها وجود دائم ويزداد التطوّع فيها للبقاء إلى جانب المرضى وإعطائهم مصادر مناسبة من معلومات ومساعدات، معنوية أو مادية، لتغطي ما قد يثقل على بعض المراكز توفيره نتيجة زحمة العمل أو نقص الكوادر المؤهلة. كذلك أتمنى أن يحذر مرضانا من مدّعي العلم وذوي الجشع علماً أنني أشجّع مرضاي على أن يشربوا من ماء زمزم ويتناولوا العسل والحبة السوداء، فأغلب هذه العلاجات خير وتستقى من العطارين ممن لهم باع في هذا المجال مباشرة، كذلك أشجع من يعتقدون بجدوى العلاج بالأبر الصينية أو الحجامة وغيرها من علاجات، وحتى العلاج العشبي بأنواعه من الحواج، شرط ألا يكون على حساب العلاج التقليدي وأن يكون مكملاً لا بديلاً. أنا ممن ينادون بإلغاء كلمة الطب البديل واستبدالها بالطب التكميلي. الطب الحديث قائم على البراهين، وقد درست هذه العلاجات المقترحة على أعداد كبيرة بنتائجها ومضاعفاتها، فبالقوّة نفسها التي نطلب فيها من الطبّ الحديث توخّي العلم والأدلة في اختيار العلاج الصحيح، لا ينبغي أن نقبل بعلاجات لم تقم عليها أي أدلة علمية ولم تخضع لمنهاج علمي لدراستها سوى تجربتها على البشر، وكأنهم فئران تجارب، بناء على فرضيات مبهمة تتدخل فيها خزعبلات ونظرة سطحية لجسم الإنسان ابتغاء ربح سريع أو أحياناً فلسفة دينية مختلقة من البشر. أتمنى أن تكون الرسالة وصلت.
توابل
ماكروبيوتك... عسل... حبة سوداء... طاقة كامنة: لماذا يقع بعض مرضى السرطان فريسة المشعوذين؟
29-09-2011