وفق باحث مهمّ في مجاله، توشك التكنولوجيا الرقمية على زيادة فاعلية قطاع الرعاية الصحية. لكن هل يكون فيض البيانات مفيداً فعلاً؟ هذا ما تحاول  Technology Review الإجابة عنه.

Ad

إليكم أحدث الابتكارات التي يعمل عليها الباحثون راهناً: مجسّات نانو تتجول في مجرى الدم بحثاً عن أول مؤشر على حصول سكتة دماغية أو نوبة قلبية وشيكة وتُطلق عقاقير مضادة للتجلط أو الالتهابات لوقف مسار أي أزمة محتملة؛ هواتف خليوية تعرض وضع مؤشرات الجسم الحيوية وتلتقط صوراً بالموجات فوق الصوتية للقلب أو البطن؛ عمليات مسح وراثي للخلايا الخبيثة التي تشبه الخلايا السرطانية لأجل التوصل إلى أكثر العلاجات فاعلية...

من وجهة نظر طبيب القلب إيريك توبول، يوشك عالم الطب على تحقيق إنجاز مهمّ يساوي الإنجاز الذي حققته التكنولوجيا الرقمية في جميع المجالات، بدءاً من طريقة التواصل وصولاً إلى كيفية تحديد مختلف المواقع. كتب توبول، في كتابه المرتقب «التدمير الخلاّق في الطب: كيف ستحسّن الثورة الرقمية قطاع الرعاية الصحية» (The Creative Destruction of Medicine: How the Digital Revolution Will Create Better Health Care)، أن الطبيعة «المتحجّرة» و{المتصلبة» للطب أدت إلى عزل المجال الصحي وحرمانه من منافع الثورة الرقمية». لكن يوشك هذا الوضع على التغير بحسب رأيه.

تخفيض التكاليف

يتوقع توبول أن تتمكن التكنولوجيا الرقمية من تقديم سبل وقاية فاعلة (مثل مجسّات النانو التي تمنع تطور نوبة قلبية)، وضمان رعاية متخصصة (بفضل تحليلات الحمض النووي التي تحدد الأدوية الفاعلة بالنسبة إلى كل مريض)، وتخفيض التكاليف (من خلال منح المرضى الأدوية التي تساعدهم حصراً)، وتراجع الأخطاء الطبية (بفضل السجلات الصحية الإلكترونية). يمكن أن يحلّ الاتصال بمنازل المرضى وأساليب المراقبة عن بُعد مكان زيارات الطبيب أو حتى دخول المستشفى في بعض الحالات.

يبدو أن توبول، مدير معهد سكريبز للعلوم، ليس الوحيد المقتنع بهذه الأفكار. أصبحت «الصحة الإلكترونية» شائعة جداً إلى درجة أن القانون الأميركي لإصلاح برنامج الرعاية الصحية في عام 2010 خصّص مليارات الدولارات للسجلات الصحية الإلكترونية اقتناعاً منه بأنها تحسّن قطاع الرعاية الصحية عموماً.

زيادة المعلومات

لا شك في أن جميع من وقعوا ضحية المرض أو سيكونون عرضة للمرض يوماً (أي جميع الناس) سيشجّعون على استكمال هذا المشروع. لكن تبرز مشكلة واحدة تتمثل بندرة الأدلة التي تثبت أن هذه التقنيات التكنولوجية تفيد المرضى. لكن لا يغفل توبول عن هذه المشكلة. عند معاينة كتاب «التدمير الخلاّق»، قد يشعر القارئ بأنه من تأليف كاتبَين، أحدهما عالم فيزيائي وباحث جدي وصارم ينتقد النزعة إلى تقييم العلاجات وفق درجة فاعليتها بالنسبة إلى المريض العادي.

في هذا المجال، يذكر توبول دراسات متلاحقة تشير إلى أن معظم الإنجازات التي يشيد بها قد لا تفيد المرضى على الإطلاق. أما النزعة الثانية التي يجسدها توبول بلهجة مغايرة، فتعكس أفكار شخص مبتدئ في مجال الإلكترونيات أو طفل يتلهّف إلى رؤية أي لعبة جديدة ومثيرة للاهتمام.

تعكس هذه الحماسة تجاه إدراج ثورة المعلومات في قطاع الطب الفرضية القائلة إن زيادة عدد المعلومات تعني تحسّن قطاع الرعاية الصحية. لكن تقدّم البيانات الحقيقية أسباباً عدة تدعو إلى الحذر أو حتى التشكيك بالموضوع. لنأخذ مثلاً تقنية المراقبة عن بُعد التي تمكّن التطبيقات الخليوية المتوافرة اليوم ومجسّات النانو التي ستتوفّر مستقبلاً من قياس ضغط الدم، وإيقاع التنفس، ومعدل غلوكوز الدم، والكولسترول، وغيرها من المؤشرات الفيزيولوجية.

في هذا الإطار، يقول ويليام رايلي، مدير البرنامج في المعهد الوطني للقلب والرئة والدم ورئيس فريق صحي في المعاهد الوطنية للصحة: «في السابق، كنا نستطيع تقييم صحة الناس حين يحضرون إلى عيادة الطبيب، لكن تسمح لنا التكنولوجيا الخليوية واللاسلكية الآن بمراقبة وتعقب المؤشرات الصحية المهمّة طوال اليوم والحصول على إنذارات قبل أن تسوء الحالة. قريباً، سنتمكن من مراقبة كل شيء عن بُعد».

تحسين الخيارات

لا شك في أن مراقبة ضغط الدم ومعدل الغلوكوز ورصد مؤشرات أخرى لها أهمية كبرى، فقد يساهم الحصول على بيانات مماثلة في مساعدة الناس على تحسين خياراتهم الصحية. لكن هل يساهم تحويل تدفق البيانات إلى «شلال» من المعلومات في تحسين النتائج على نطاق واسع؟ لا تزال الأدلة غير دقيقة في هذا المجال.

في دراسة أُجريت في عام 2010 وشملت 480 مريضاً، أدت مراقبة ارتفاع ضغط الدم عن بُعد إلى تراجع ملحوظ في ضغط الدم أكثر مما يحصل بفضل خدمات الرعاية الصحية الاعتيادية. كذلك، وجدت دراسة أُجريت في عام 2008 أن استعمال أجهزة تبادل الرسائل وعقد المؤتمرات عن بُعد لمراقبة المرضى المصابين بحالات مزمنة، مثل داء السكري وأمراض القلب، ساهم في تراجع نسبة دخول المستشفى بنسبة 19%. لكن استنتجت دراسة أخرى، أُجريت في عام 2010 وشملت 1653 مريضاً ممن دخلوا المستشفى بسبب نوبة قلبية، أنّ مراقبة الوضع الصحي عن بُعد لم تحسّن تلك النتائج.

كذلك، كشف تقييم حديث لدراسات عشوائية تُعنى بالتطبيقات الخليوية الخاصة بأساليب التوقف عن التدخين أن تلك الطريقة مفيدة على المدى القصير، لكن ما من أبحاث كافية لتحديد منافعها على المدى الطويل. نظراً إلى تهافت الناس على التكنولوجيا الصحية الخليوية، لا شك أن قلة البيانات حول مدى فاعليتها ستثير المخاوف في أوساط كثيرة. يقول رايلي: «يستعمل الناس أنظمة وتكنولوجيا لم تخضع للدراسة بعد».

تنطبق هذه المخاوف أيضاً على التكنولوجيا التي لا نملكها بعد مثل مجسات النانو التي يتم دسّها في مجرى الدم. على سبيل المثال، توصلت الدراسات إلى استنتاجات متناقضة حول ما إذا كان المصابون بالسكري يستفيدون من مراقبة معدل الغلوكوز (يمكن أن توفر مجسات النانو، إلى جانب أجهزة حقن الأنسولين، هذه النتائج). وجدت دراسات عدة أن هذه التقنية قد تؤدي إلى نقص سكر الدم (مستويات متدينة على نحو خطير من غلوكوز الدم) وقد لا تساهم في تراجع نسبة الوفيات عند المصابين بحالة خطيرة من السكري.

كذلك، قد لا تكون المجسات خياراً أفضل لرصد تطور أمراض السرطان أو النوبات القلبية. انطلاقاً من الجدل المستمرّ حول التشخيص غير الدقيق لسرطان الثدي أو البروستات، يجب أن نفهم أنّ أي خلل يشبه السرطان قد لا ينتشر أو يسبب الأذى، لذا لا حاجة إلى معالجة جميع تلك الاختلالات بالضرورة. بالنسبة إلى النوبات القلبية، نحتاج إلى تجارب عيادية فاعلة تحدد معدل الإيجابيات والسلبيات المغلوطة قبل البدء بتوزيع مجسّات النانو بكميات كبيرة.

تراجع الأخطاء

يبدو أن السجلات الصحية الإلكترونية ستسجّل تقدماً مضمون النجاح: يكفي أن نجمع سجلات المرضى بطريقة إلكترونية سهلة، بدل تركها مكدّسة على شكل أوراق تُدوَّن عليها ملاحظات غير مفهومة، كي تتراجع الأخطاء الطبية وينخفض عدد الاختبارات التقليدية، ولتجنب تفاعل مختلف الأدوية بشكل خطير (يحذر النظام المُعتمد الطبيب في حال وجوب الامتناع عن تناول الوصفة الجديدة مع أي وصفة قديمة) وضمان القيام بالفحوصات اللازمة (من خلال تذكير الطبيب بضرورة فحص بصر المصابين بالسكري مثلاً).

لكن عملياً، تبقى هذه السجلات مبهمة. في إحدى الدراسات الشهيرة، ذكر العلماء، بقيادة جيفري ليندر من كلية الطب التابعة لجامعة هارفرد، في عام 2007، أن السجلات الصحية الإلكترونية لم تترافق مع تحسّن الرعاية الصحية في عيادات الأطباء، ذلك في ما يخص 14 مؤشراً للنوعية من أصل 17، بما في ذلك معالجة الأمراض الشائعة، وتوفير التوصيات الوقائية والاختبارات اللازمة، وتجنب الوصفات غير المناسبة للمرضى الكبار في السن. (لكن سجلت الممارسات التي استعملت السجلات الصحية الإلكترونية نتائج أفضل في ما يتعلق بتجنب اختبارات تحليل البول غير الضرورية).

يعترف توبول بعدم وجود أي أدلة على أن استعمال السجلات الصحية الإلكترونية يخفّض أخطاء التشخيص، بل إنه يذكر دراسات عدة لحظت مثلاً عدم وجود روابط فعلية بين تحسين نوعية الرعاية الصحية والسجلات الصحية الإلكترونية. لكن أظهرت إحدى الدراسات المزعجة أن معدل وفيات المرضى تضاعف في أول خمسة أشهر بعد أن أقدمت إحدى المستشفيات على حوسبة نظامها لطلب الأدوية.

تهدد الدوافع المالية جزءاً آخر من رؤية توبول. قد يكون علم الصيدلة الجيني (أي استعمال المعطيات الوراثية لتحديد المرضى الذين سيستفيدون، أو لن يستفيدوا، من دواء معين) أبرز مسار واعد في مجال الطب الشخصي.

من الواضح أن الحاجة إلى تحقيق هذا الإنجاز ملحّة. أظهرت التجارب العيادية أن شخصاً أو شخصين من أصل مئة شخص غير مصاب بأمراض القلب يستفيد من عقار «ستاتين» مثلاً، وأنّ مريضاً واحداً من أصل مئة شخص ممن يُصابون بنوبات قلبية يستفيد من منشّط البلازمينوجين والأنسجة (وهو دواء مُصمَّم وراثياً لمكافحة التجلط) أكثر من دواء ستربتوكيناز (دواء رخيص وقديم للتجلط). قد تكشف فحوصات المسح الجيني في نهاية المطاف هوية ذلك الشخص أو الشخصين المحظوظين. كذلك، يذكر توبول تحسن الصحة بفضل تلك الأدوية عند نصف المرضى الذين يتلقون دواءً لالتهاب الكبد بقيمة 50 ألف دولار، وعند نصف المرضى الذين يستهلكون الأدوية التي تعالج التهاب المفاصل الروماتويدي والتي تحصد مبيعات سنوية بقيمة 14 مليار دولار تقريباً.

من خلال تصنيف المرضى مسبقاً، قد يساهم علم الجينوم في منع المرضى وشركات التأمين الخاصة وبرنامج الرعاية الصحية من هدر عشرات مليارات الدولارات سنوياً.

لكن على رغم إحراز بعض التقدم في مجال التوفيق بين أدوية السرطان والأورام المستهدفة، كانت آثار علم الصيدلة الجيني محدودة في مجال الممارسات العيادية، بحسب قول جوشوا كوهن من مركز تافتس لدراسة تطور العقاقير، وكان هو من أجرى دراسة عن هذا الموضوع في عام 2011.

حصر التجارب

تُستعمل عشرات التشخيصات لتقييم المنافع التي يحصل عليها المرضى من دواء معين، وتُعتبر تلك التشخيصات أحد أشهر التحليلات في مجال سرطان الثدي لمعرفة ما إذا كانت الحالة ناجمة عن تحول في بروتين (Her2) (مستقبلات عامل نمو البشرة عند الإنسان)، ما يعني أنها قابلة للعلاج بدواء هرسبتين. لكن تشك شركات التأمين حتى الآن بقيمة هذه الاختبارات. لم يتضح بعد ما إذا كان إخضاع الجميع لهذه الاختبارات قبل تلقيهم وصفة طبية معينة سيوفر عليهم المال أكثر مما يحصل عند إعطاء الدواء لجميع المرضى بغض النظر عن العواقب.

لم يصبح «التنميط الجيني» بعد عملاً روتينياً في التجارب العيادية المتعلقة بأدوية السرطان التجريبية. اعتبر تايلر جاكس، باحث في مجال السرطان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن الشركات «تجري تجارب كبرى وسخيفة» بدل أن تختبر الأدوية على المرضى المصابين بسرطان ناجم عن تحول بروتيني قد يستهدفه الدواء. يعود ذلك إلى أن الشركات تعتبر أنها ستكسب أرباحاً أكبر من اختبار تلك الأدوية على عدد كبير من المرضى من دون حصر التجارب في إطار المصابين بمرض ناجم عن ذلك التحول البروتيني.

صحيح أن أي دواء جديد قد يساعد معظم مرضى سرطان الرئة الذين شهدوا تحولاً معيناً في جسمهم، إلا أن الأبحاث قد تشير إلى أنها تساعد 30% مثلاً من مرضى سرطان الرئة ككل. حتى هذا الرقم الضئيل قد يكون كافياً بالنسبة إلى إدارة الغذاء والدواء للموافقة على بيع الدواء إلى جميع المصابين بسرطان الرئة. سيؤدي حصر التجارب ضمن المرضى الذين شهدوا تحولاً معيناً إلى الحد من عمليات بيع الأدوية إلى هؤلاء المرضى. يبقى خطر أن تفشل التجربة العيادية متوازناً بسبب وجود فرصة لبيع الدواء إلى ملايين الأشخاص الآخرين.

عقبات

لا تقتصر العقبات التي تقف في وجه توقعات توبول على هذه الاعتبارات المالية فحسب. بل يجب أن يتخطى توبول وزملاؤه المتحمسون لهذا الإنجاز مشكلة نقص الأدلة التي تشير إلى تحسن الصحة وتوفير الأموال بفضل هذه الأجهزة المثيرة.

صحيح أنه يعترف بأن هذه «المخاوف مشروعة» عند استعمال التكنولوجيا قبل التأكد من فاعليتها، لكن لا أهمية كبرى لاعترافه هذا. فهو يعلن أن القدرة على رقمنة الوضع البيولوجي والفيزيولوجي والتركيب البنيوي لكل فرد ستعيد حتماً رسم معالم الطب بفضل خليط من تقنيات تجزئة الحمض النووي، والهواتف الخليوية الذكية، والأجهزة الرقمية، ومجسات النانو القابلة للارتداء، والإنترنت، وظاهرة «الحوسبة السحابية». بحسب رأي توبول، وحدهم الأغبياء لن يشجعوا على إحداث تغييرات مماثلة. لهذا السبب أعدّ كتابه ليُلهم الناس على المطالبة بأن يدخل عالم الطب في القرن الواحد والعشرين. لكن يبدو أنه قلّل من شأن «الدمار» الذي يجب إحداثه في سبيل تحقيق ذلك الهدف.