يتدفق السيّاح إلى الريفييرا الإيطالية كسلسلة من الأمواج المارقة والمتكسّرة على جدار بحري، حيث يتمتعون بمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة وآفاق السماء اللامتناهية وزرقة البحر الأبيض المتوسّط المبهرة.يأتي السياح لزيارة بلدتَي Portofino الجميلة التي تظهر في البطاقات البريدية وCinque Terre التي تخترق ممرات المشاة فيها المنحدرات الخطيرة والحادة مشكِّلةً الطريق الوحيد للدخول والخروج من مجموعة القرى الخمس الرائعة التي تنتصب على قمم التلال وتبدو مثل انهيارات أرضية تكعّبية على وشك الانهيار والصبّ في قاع البحر. عادةً، يأتي السياح الذين سبق لهم أن زاروا الريفييرا الإيطالية - لا سيّما الإيطاليين منهم - إلى رابالو (Rapallo)، بلدة ساحلية سياحية أقل فخامةً وأكثر تواضعاً يسهل الاسترخاء فيها والاستجمام بعيداً عن ضجيج الأماكن السياحية الأخرى الأكثر شعبيةً.وعلى غرار بلدات ساحلية كثيرة واقعة على البحر الأبيض المتوسط، شكّلت رابالو وجهة السياح على مدى قرون عدّة على رغم أن زمن مجدها وعزّها قد ولّى وبريقها قد تلاشى لتصبح اليوم لوحة من اللون الوردي الناعم والبرتقالي والأصفر تتراقص برشاقة على طول البحر الأبيض المتوسّط.تحاصر هذه البلدة خليجَ Tigullio بمجموعة من الفنادق المنخفضة الارتفاع التي تعلو سطوحها أشجار نخيل ومظلات من أشجار الصنوبر المنتصبة من التلال الغنية بالأشجار والواقعة خلف البلدة. وللتمتّع بمنظر طبيعي رائع، بإمكانك استقلال القطار المعلّق والقيام برحلة لمدة تسع دقائق لتصل إلى ديرOur Lady of Montallegro الذي يرتفع 610 أمتار عن سطح البحر. كذلك يمكنك أن تفعل كما فعل الشاعر الأميركي يزرا باوند الذي قال عنه ناشر كتبه: «يرفض باوند استقلال القطار المعلّق للذهاب إلى الدير. فهو يفضِّل الوصول إليه سيراً على الأقدام».وجد باوند بلدة رابالو مصيفاً رائعاً يستطيع فيه الهروب من صخب مسيرته المهنية، ما جعله ينتقل في عام 1924 إلى المنطقة ليستقرّ في نهاية المطاف في قرية St. Ambrogio التي عاش فيها مع عشيقته، أولغا ريودج، والتي كتب فيها الجزء الأكبر من عمله The Cantos (توقّف باوند عن العمل عليه عندما ألقت القوات الأميركية القبض عليه بعد الحرب العالمية الثانية بتهمة الخيانة وحوَّلته إلى مستشفى للأمراض العقلية والنفسية في واشنطن دي.سي حيث قضى 12 عاماً من حياته).لا يزال «شارع رابالو الرئيس» حتى اليوم عبارة عن ساحة عريضة تفصل بين الفنادق من جهة، والشاطئ من جهة أخرى. وبينما كان في الماضي مكاناً يعجّ بعربات تسير بموازاة رجال ونساء أنيقين خرجوا للقيام بنزهة، أصبح اليوم يتميّز بطابع أكثر حداثة وعصرية ومكاناً يعجّ بأطفال يركضون في مختلف أرجائه متحدّين أهاليهم القلقين عليهم.يُلاحظ في رابالو كثرة السياح في المطاعم التي تقع في الطابق الأرضي من كل مبنى مطلّ على البحر، وكثرة الصيادين الذين يحاولون اصطياد السمك من على الصخور الواقعة تحت ممرّ المشاة. وما يلفت الانتباه أيضاً النساء المسنّات اللواتي يبعن سلات القش ويتنافسن على مساحة العرض مع شبان أفارقة رشيقين يخرجون حقائب يد مقلّدة من ماركة غوتشي ويعرضونها على الأرض، وهم على أهبّة الاستعداد دوماً لتوضيب بضاعتهم بحركة واحدة عند رؤيتهم الشرطة.شاهدنا، زوجتي وأنا، المشهد برمّته من على شرفة غرفتنا في فندق Italia e Lido المتميّز بموقع استراتيجي مهم، ذلك أنه يقع في الطرف الآخر من الساحة العريضة.كانت غرفتنا تشرف على الخليج كلّه. في الطرف البعيد من الساحة، كان ينتصب تمثال برونزي لكريستوف كولومبس طويل بطول أشجار النخيل المحيطة به وموجّه غرباً باتجاه المياه. وكان يخترق الخليج رصيف أبيض كانت العبّارات تقترب منه وتبتعد بصمت كبير أثناء وصولها أو مغادرتها بورتو فينو، وCinque Terre وغيرهما من المواقع المهمّة في الساحل الإيطالي التي لا بد من زيارتها.تحت شرفة غرفتنا مباشرة، كانت الأمواج تتكسّر على جدران حجارية تعود إلى قلعة صغيرة إنما قوية بُنيت في القرن السادس عشر لحماية البلدة من هجمات القراصنة.ليلاً، كانت مصابيح الإنارة ذات الضوء البرتقالي تضيء القصر ليتلألأ في سواد الليل الداكن مولّدةً جوّاً من الرومنسية الممزوجة بالغموض والخطر. عندئذِ، فكرت في أنه ربما كان شبح اللورد بيرون يجلس في الشرفة المجاورة لشرفة غرفتنا ويحتسي شراب الأفسنتين وهو يفكّر في ترجمة هذا المشهد الرائع بقصيدة شعرية.خلال مساء أول يوم قضيناه في رابالو، دخلت وزوجتي إلى مطعم بيتزا يقدّم طعاماً لذيذاً للغاية. وأمضينا ساعة تقريباً في دراسة المطاعم المتوزّعة على طول الساحة المستوية فبدت جميعها متشابهة، لذا اخترنا المطعم الأكثر ازدحاماً وقد تبيَّن لنا لاحقاً أن خيارنا كان موفّقاً. ومع أن الساعة كانت قد تخطّت العاشرة مساءً، إلا أن المكان كان يعجّ بأناس من فئات عمرية مختلفة بدءاً بالأطفال ووصولاً إلى المسنّين. وكم كانت دهشتنا كبيرة عندما سمعنا الجميع يتحدّث باللغة الإيطالية علماً أن المكان وجهة سياحية يقصدها سياح من مختلف أنحاء العالم.كان جوّ المطعم يفيض بالحيوية والحركة والنشاط لا سيما وأن النوادل كانوا يحملون صواني طعام ضخمة ويرقصون مع الأطفال الذين بدا واضحاً أنهم كانوا يسعون إلى فرض سيطرتهم على المكان.جلسنا إلى طاولتنا التي تناولنا عليها وجبة لذيذة من البيتزا والخضار المشوية تبعتها بوظة بطعم الأفوكادو تعدّ عادةً بإضافة قليل من قهوة الإسبريسو إليها.وفي آخر ليلة أمضيناها في رابالو، رغبنا بشدّة في تكرار تجربة العشاء اللذيذ. وبما أننا أحببنا الفندق الذي أقمنا فيه، قرّرنا أن نجرِّب أطباق مطعمه، صحيح أنها كانت أغلى ثمناً إلا أننا وجدناها مع ذلك مقبولة.في تلك الليلة، كنا زوجتي وأنا أحد الأزواج الثلاثة الموجودين في غرفة العشاء. وعلى أحد جدران الغرفة الطويلة، عُلّقت مجموعة صور لمشاهير زاروا الفندق في زمن مجده وتناولوا العشاء في مطعمه وكانوا بمعظهم من نجوم سينما زمن هوليوود الذهبي. لكننا لاحظنا أيضاً وجود صورة التُقطت ليزرا باوند في الفترة التي ذاع فيها صيته، يظهر فيها وهو يتناول طبق معكرونة.وبين الطبق والآخر، كانت صاحبة المطعم تطلّ لإلقاء التحية. كانت ابنة باني هذا الفندق قد عاشت في نيويورك لسنوات عدّة وكانت تتحدّث الإنكليزية بطلاقة كبيرة مثلما يتحدّثها الأميركيون أنفسهم.وفي سياق حديثنا، قلت لها مشيراً إلى الحائط: «لاحظت أن يزرا باوند قد زار مطعمكم». فأجابت قائلة: «عزيزي، إن يزرا باوند عاش هنا».شعرت حينها بأنني مضطر الى تصحيح معلوماتها، فقلت لها بطريقة لا تظهرني متحذلقاً: «في الحقيقة، عاش باوند على رأس التلة في St. Ambrogio»، مشيراً لها بيدي إلى الوراء أي باتجاه قبّة الكنيسة الواقعة في التلّة التي تعلو الفندق والتي كان أحدهم قد أخبرنا بأن St. Ambrogio تقع هناك.بعدما انتهيت من كلامي، استدركتني قائلة: «حسناً، لقد فهمت قصدك. في الواقع، كانت عشيقة باوند تقيم في St. Ambrogio بينما كانت زوجته تقيم في الفندق. لقد كان باوند ووالدي صديقين مقرّبين».ثم أضافت: «وها هو الصندوق البريدي الذي كان ترد إليه رسائل قرّائه ومعجبيه».صحيح أن هذه المعلومة تافهة، إلا أنها مهمة للغاية بالنسبة إلى كاتب يهتم بالمراسلات بقدر ما كان يفعل باوند. وفي خلال حديثنا هذا، رحت أتساءل عما إذا كانت الأجيال الثلاثة من محبّي باوند قطعت هذه المسافات كلّها لزيارة المكان الذي عاش فيه هذا الكاتب الأميركي.تبادرت إلى ذهني صورة عامل فندق حائر ومتوتّر بشأن كيفية التعامل مع وابل الرسائل التي كانت ترد إلى باوند. ثم تراءت لي صورة أخرى يجلس فيها الشاعر على إحدى الشرفات العلوية الصغيرة ويتناول مقبّلات ويقرأ كتاباً على الأرجح أو يردّ على إحدى الرسائل الواردة إليه، فيما زوجته منشغلة بطباعة أحد أجزاء عمله Canto. وخلال لحظات التأمّل هذه، يوجّه باوند نظره إلى القلعة القديمة مفكراً في كم كانت لتكون إضاءتها في المساء أمراً رائعاً. من ثم ينهض ويتّكئ على درابزين الشرفة موجّهاً نظره باتجاه قبّة الكنيسة الواقعة على رأس التلة حيث تنتظره عشيقته أولغا.صورة طبيعية تمتزج فيها التلال بميناء البحر، وبلدة Portfio بمنطقة Cinque Terre. وفي وسط هذه اللوحة الرائعة، تقبع Rapallo التي تشكِّل بوابة العبور إلى هذه الأمكنة.في حال زرتهاالوصول إلى هناك: أقرب مطار من المنطقة مطار كريستوف كولومبوس الواقع بالقرب من جينوا(http://tinyurl.com/3ktvqv9). ثمة سكة حديد ساحلية تقدّم خدمات نقل بواسطة القطار من جينوا وروما إلى رابالو. زر الموقع الإلكتروني التالي: www.italiarail.com لشراء بطاقات الدخول المطلوبة أو بطاقات منفردة، ولمعرفة الأسعار بالدولار الأميركي وإيجاد مرشد سياحي أوروبي برافقك في القطار. كذلك يمكنك حجز بطاقات السفر من وإلى رابالو بواسطة شركة Trenitalia(www.trenitalia.com/en/index.html). تقدّم شركة Servizio Marittimo del Tigullio أيضاً رحلات بالعبّارة من شهر مايو إلى شهر سبتمبر، من Rapallo إلى PortofinoوCinque Terre وغيرهما من المناطق. تتراوح أسعار تذاكر الذهاب والإياب بين 6.5 و45 دولاراً تقريباً، بحسب الوجهة المقصودة. (www.traghettiportofino.it).مكان الإقامة: يتميّز فندق Italia e Lido(www.italiaelido.com/eng/holiday-hotel-rapallo.asp) بشرفات مخصّصة لكل غرفة من غرفه المطلّة على البحر وبشاطئ خاص مزوّد بغرف لتبديل الملابس وكراسٍ للتسمّر متوافرة من شهر مايو إلى شهر سبتمبر. يبدأ سعر غرفة السرير المفرد اعتباراً من 72 دولاراً تقريباً وغرفة السرير المزدوج من 114 دولاراً تقريباً في الليلة.
توابل
بلدة رابالو... استراحة إيطاليَّة مضيافة
20-12-2011