المفكر الإسلامي البارز د. محمد عمارة أستاذ الفلسفة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، قد ارتبط اسمه بالكتابة عن الثورة وهو صاحب كتب عدة ترصد الثورات المختلفة.كتب عمارة عن الثوار في التاريخ الإسلامي وعن كل ثوار مصر ولم يترك لحظة من لحظات الثورة في تاريخنا وفي تاريخ العرب وتاريخ المسلمين إلا وسطّرها في صفحات. «الجريدة» التقته لمناقشة كل ما يخص الثورة وعلاقة الإسلام بها ورؤيته للثورات العربية. ما تعريفك للثورة، وهل لها ذكر مباشر في القرآن والسُنة؟الثورة تعني العلم الذي يوضع في الممارسة والتطبيق لتغيير المجتمع تغييراً جذرياً وشاملاً، والانتقال به من مرحلة تطورية معينة إلى أخرى أكثر تقدماً، الأمر الذي يتيح للقوى الاجتماعية المتقدمة في هذا المجتمع أن تأخذ بيدها مقاليد الأمور، فتصنع الحياة الأكثر ملاءمة وتمكيناً لسعادة الإنسان ومثله العليا التي ستظل زاخرة بجديد يغري بالتقدم ويستعصى على النفاد والتحقيق.العرب والمسلمون الأوائل عرفوا مصطلح «الثورة» واستخدموه، وكان يدل عندهم إلى معان كثيرة أبرزها الهياج والانقلاب والتغيير والوثوب والانتشار والغضب، بل دل بعض مشتقات مصطلح الثورة على نمط في البحث بالعمق والغوص وراء المعاني وقلب الظواهر وتجاوزها بحثاً عن المكنونات. ففي «لسان العرب» لابن منظور نطالع حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): «أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين» وحديث «من أراد العلم فليثور القرآن» وتثويره قراءته والتدبر في معانيه وتفسيره، ونقرأ في القرآن الكريم «أثاروا الأرض وعمروها» أي قلبوا وجهها، وقد تنبأ الرسول بالثورة على عثمان بن عفان عندما قال «كيف في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر...»، كذلك تؤكد لنا صحاح السنة ومسانيدها شيوع هذا المصطلح في تراثنا النبوي في أكثر من 40 حديثاً. وغير مصطلح الثورة نجد أن العرب والمسلمين استخدموا مصطلحات أخرى للدلالة على عدد من المعاني والأفعال القريبة من معنى الثورة. فمصطلح «الفتنة» استخدم للدلالة على الاختلاف والصراع حول الآراء والأفكار وقيام الأحزاب والتيارات الفكرية المتصارعة، وكان كثر يصفون المؤرخ إذا كان حجة في أخبار «الثورات» و{الحروب» فيقولون إنه عالم في «الفتن والدماء»، كذلك استخدموا مصطلح «الملحمة» للدلالة على بعض معاني مصطلح الثورة، فدل عندهم على التلاحم في الصراع والقتال، خصوصاً إذا كان القتال في ثورة، ودلَّ أيضاً على عمليات الإصلاح الجذري لأنه كالثورة يفضي إلى التأليف بين الأمة ويحقق وحدتها، ولأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مارس التغيير بالوسيلتين معاً، القتال والإصلاح، كان أحد أوصافه «نبي الملحمة».القرآن والثورةلكن هل قدَّم القرآن ما يدل على الثورة؟بالطبع، استخدم القرآن مصطلحاً مباشراً للدلالة على عملية «التغيير الثوري» وهو مصطلح «الانتصار». فالثورة تعني التغيير الذي يبدل حالاً بحال وسادة بسادة ويستبدل واقعاً بالياً بآخر جديد، وهي في بعض جوانبها انتقام للمظلومين من الظالمين على تفاوت درجات الانتقام ومواطنه، وفي اللائحة نفسها يحضر «النصر» و{الانتصار» فالنصر يعني إعانة المظلوم والانتصار يعني الانتصاف من الظلم وأهله والانتقام منهم، والقرآن يذكر الانتصار بهذا المعنى كفعل يأتيه «الأنصار» ضد «البغي» الذي هو الظلم والفساد ومجاوزة الحدود، فإذا كان الانتصار ثورة والثوار أنصاراً، فإن هذه الصلة جعلت كتاب هذا الدين وأدب أمته يطلقان على أولئك الذين أسسوا دولة الإسلام وجهروا بدعوته وحاربوا في سبيلها من الأوس والخزرج اسم {الأنصار}.الآيات التي استخدمت في مصطلح «الانتصار» للدلالة على «الثورة» بمعنى التغيير والردع والانتقام من البغاة والظلمة والمستبدين كثيرة، وأهم من كثرتها وأخطر أنها تجعل «الانتصار» أي «الثورة} إحدى الصفات المهمة للإنسان المؤمن ولجماعة المؤمنين، بمعنى أن على المؤمن كي تكتمل له الصفات التي وصفه الله بها في كتابه الكريم أن يكون «منتصراً» ضد البغي والظلم والاستبداد، أي أن يكون ثورياً وثائراً، قال تعالى: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»... «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل»، والقرآن الكريم مليء بما يزكي حجج التيارات الثورية الإسلامية على مشروعية الثورة، بل وجوبها في الإسلام.معنى ذلك أن الإسلام كان فعلاً يمثل ثورة شاملة لمواجهة الظلم وإقامة دولة العدل.صحيح، فالإسلام عندما ظهر في شبه الجزيرة العربية في جوانبه الفكرية والاجتماعية والسياسية كان بمثابة أول ثورة كبرى وأعظم ثورة في التراث الحضاري للعرب والمسلمين، وكانت لجوانبه الثورية صلات وثيقة بالواقع الذي ظهر فيه، إذ استهدفت تغييره والانتقال به إلى طور متقدم وجديد، ويشهد لهذه الصلات ما سبق ظهور الإسلام كثورة من إرهاصات تمثلت في محاولات لتغيير هذا الواقع الجاهلي أو تطويره اتخذت أحياناً شكل الرفض والاستنكار والإنكار وأحياناً أخرى لجأت إلى العنف الثوري ممثلاً في الانتفاضات والتمردات.وجعلت ثورة الفكر السياسي الإسلامي من الشورى فلسفة لنظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة وثورة تحرير ذات الإنسان العربي من الجبر والقدر وظواهر الطبيعة وإطار التعصب القبلي الضيق، وثورة لتحرير المرأة والارتقاء بها كي تلحق بالرجل، وثورة لتحرير الرقيق تدريجاً ودمجهم «بالولاء» قومياً مع العنصر العربي في إطار العروبة بمضمون إنساني مستنير. كذلك مثّل الإسلام ثورة لتحرير الإنسان اجتماعياً من العوز والاستغلال بالانحياز للمجموع وتقرير «الاشتراك العمومي» في ثروة الأمة وجعل العمل معياراً للكسب الحلال وللتفاوت في الأرزاق، وقد ظلَّ مضمون ثورة الإسلام العربية الثوري محور الصراع في المجتمع العربي بين تيار الثورة بفرقها وتياراتها وتنظيماتها وطبقاتها وبين أعدائها. فالذين انتكسوا بهذا المحتوى الثوري لثورة الإسلام كانوا هم دائماً أعداء الثورة كإحدى وسائل التغيير والذين شرعوا الثورة سبيلاً للتغيير كان الهدف من ثوراتهم غالباً محاولة العودة بالمجتمع إلى تبني محتوى الإسلام الثوري سواء في الفكر النظري أو الممارسة والتطبيق.معاداة الثورةإذاً ثمة من ينكر وصف الإسلام بأنه ثورة. كيف أسس هؤلاء موقفهم برأيك؟فعلاً، ثمة فريق من المشتغلين في الدراسات الإسلامية ينكرون وصف الإسلام بالثورة. هؤلاء يؤسسون موقفهم على أن الثورة كأي نشاط إنساني فيها الخطأ والصواب، فيما أن الحقيقة هي أن الإسلام صواب لا خطأ فيه، من ثم فإن الواجب تنزيهه عن مثل هذه الأوصاف. لكن هذا الفريق لا ينكر ولا يستنكر وصف الإسلام بأنه «دولة»، بل تجده حريصاً كل الحرص على ترديد عبارة «الإسلام دين ودولة» وهي عبارة صادقة نشارك هذا الفريق الحرص على إذاعتها والدعوة إليها.إذاً ينكر هذا الفريق أن الإسلام «ثورة» ويحرص على أنه دولة على رغم أن كلاً من الثورة والدولة نشاط إنساني فكراً وتطبيقاً، وفي كليهما ما هو خطأ وما هو صواب، وهؤلاء الباحثون ينكرون ويستنكرون أن تكون دولة الإسلام دولة ثورة أو دولة ثورية ويحبذون الابتعاد بها عن صفة الثورة والثورية ويريدونها دولة فحسب أو دولة غير ثائرة تحديداً، وهنا تظهر منطلقات وجهة النظر هذه ويسفر هذا الاتجاه الفكري عن وجهه. فالقضية ليست قضية تنزيه الإسلام عن الاتصاف بأوصاف من صميم النشاط البشري الذي يحتمل الخطأ والصواب وإلا لنزهوه أيضاً عن صفة الدولة، وإنما القضية أن ثمة موقفاً معادياً للثورة كسبيل لتغيير الحياة وتبديل النظم والتطور بالمجتمعات، وهو موقف يكرِّس الواقع ويمنحه الشرعية والبركة وإن كان لا بد من تغيير فليكن إصلاحات لا تصل إلى حد الثورة ولا تبلغ الجذور والأعماق في عملية التغيير.ثمة فريق آخر يقبل الثورة عندما تحدث وعندما يعيش في ظل سلطتها وسلطانها، باعتبارها «واقعة» قد حدثت و{نازلة» يسلم بها المؤمنون الذين امتحنوا بها ولهم أجر الصبر على معايشتها والعيش في كنفها. وفي أحسن الحالات، ينظرون إليها كمحظور ومحرم تبيحه الضرورة. هنا، لا بد من الإشارة إلى أنه لا فرق بين منطلقات الفريقين، بل هما في الحقيقة فريق واحد يرى أصحابه أن الصلات غير قائمة بين الإسلام كفكر خالص وكفكر وضع للتطبيق في مجتمع عصر النبوة وصدر الإسلام، وبين الثورة كطريق إنساني لتغيير المجتمعات والانتقال بها إلى درجات جديدة في سلم التطور.التصدي للحاكم الجائر والظالم، هل يكون باستخدام القوة وعدم الاقتصار على المواجهة السلمية؟شرَّع القرآن الثورة كسبيل إنساني لتغيير الواقع والتطور بالمجتمعات، وجميع التيارات الفكرية الإسلامية التي انحازت الى الثورة نظرياً أو عملياً أو إليهما معاً وقررت مشروعيتها استندت إلى أن القرآن أوجب على الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا اقتضى النهوض بهذا التكليف استخدام «الفعل» بعد «القول» والاستعانة بالقوة التي اصطلحوا على تسميتها قضية «السيف» كان ذلك مشروعاً لدى البعض وواجباً لدى الآخر، وقد استندوا في ذلك لقوله تعالى: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»، وقوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». فالفعل يتقدم غيره في وسائل التغيير، خصوصاً في رفع الظلم، وقال الرسول الكريم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم»، وقوله كذلك: «إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده»... وغير ذلك من أحاديث وجدت التيارات الثورية المسلمة فيها ما يؤيد موقفها من قضية «السيف» أي استخدام «العنف الثوري» ومن مثل ترغيبه (صلى الله عليه وسلم) لأمته لمواجهة الحاكم الظالم والسير في هذا الدرب المليء بالأشواك والمحفوف بالمخاطر، ذلك بقوله: «أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر»، وقوله: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»، وفي هذا الحديث دليل قاطع على ضرورة الثورة في وجه الحاكم الظالم ووجوب الخروج عليه ومواجهة ظلمه بالوسائل كافة. والقتلى في هذه المواجهات، خصوصاً عندما يبادئ الحاكم شعبه بالعنف والقتل كما في بلدان عربية كثيرة، شهداء وضعهم النبي في منزلة «سيد الشهداء» حمزة بن عبد المطلب، لأن الجور منكر وتغيير المنكر فريضة ثابتة في الكتاب والسنة، شريطة ألا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أشد، علماً أن غالبية أئمة الإسلام أيدوا الثورات وبايعوا الثوار وتحملوا في سبيل ذلك إيذاءً شديداً.هل عرف المسلمون الأوائل طريق المعارضة السياسية؟بالتأكيد، فالمعارضة السياسية تواجدت بكل قوة في العصور الإسلامية كافة، ولعل أول ظهور قوي لها كان في خلافة الخليفة أبو بكر الصديق الذي كان مشهوداً بعدله وعلى رغم ذلك كان حكمه وخلافته لا عدله محل نزاع ومعارضة سياسية شديدة. فعلي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وفريق من بني هاشم ومن الصحابة امتنعوا عن البيعة لأبي بكر نحو ستة أشهر أي قرابة ربع المدة التي حكم فيها، وسعد بن عبادة وهو أحد أكبر زعماء الأنصار وأعظم بناة الدولة الإسلامية وأحد النقباء الإثني عشر الذين عقدوا مع النبي عقد تأسيسها في بيعة العقبة، امتنع عن بيعة أبي بكر بل وعن الصلاة خلفه أو الاقتداء بلوائه في الحج لأنه كان يريد الخلافة لنفسه وللأنصار ومات أبو بكر وخلاف سعد له قائم لم يحدث حوله اتفاق.كذلك عثمان بن عفان، بلغ اختلاف المسلمين حول سياسته ونهجه الاجتماعي إلى حد الثورة عليه، وهي الثورة التي حاصرته في منزله ومنعت عنه الزاد والماء حتى تسور الثوار داره فقتلوه رحمه الله وهو يقرأ القرآن، أما علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وهو الذي عُرف بالعدل فقد انقسمت الأمة من حوله وحاربه كثر حتى لقي ربه شهيداً، ذلك كله يدلل على أن المعارضة السياسية مؤصلة في الإسلام، ومعارضة الحاكم لا تعني بالضرورة أن يكون ظالماً أو جائراً، فقد يكون أحد أعدل الناس، لكن البعض يعارض سياساته كما حدث مع قمم العدل في عصر الخلافة الراشدة.لكن ثمة من يفتي بحرمة الخروج على الحاكم حتى ولو كان فاسداً؟هذا زعم باطل والذين يقولون به هم «فقهاء السلاطين»، فهم يزعمون أن الإسلام يوجب على الرعية طاعة الحكام في الأحوال كافة وأنه يطلب من الأمة شكر الحاكم إذا عدل، والصبر على ظلمه إن كان ظالماً، وهؤلاء إنما يسخرون بذلك «دين الحرية» ليكون سبيل الظلمة والمستبدين، وما يعتمدون عليه هو أحاديث آحاد وهي غير ملزمة في العقائد.أقول لهؤلاء إن كل ما خرج عن القسم الخاص بتبليغ الرسالة الدينية ليس ديناً وإنما دنيا، وسياسة على العقل المسلم أن يتناول موضوعها بالنظر والاجتهاد من دون تقيد بما يُروى من نصوص ومأثورات.عدل الحاكمالعدل بين الحاكم والمحكوم أساس تطلبه أي ثورة فكيف أسس الإسلام لهذا المنهج؟العدل مبدأ أساسي من مبادئ الإسلام وعدل الحاكم في الدولة الإسلامية أحد الأسس التي أسس لها الإسلام وطبقها المسلمون، ولنا في عهد عمر بن الخطاب القدوة والمثل. فالقدوة العادلة التي يقدمها الحاكم للمحكوم في ميدان العدل والمساواة كانت ولا تزال إحدى أروع القيم التي ورثها لنا وللإنسانية عمر بن الخطاب. فالعدل ليس نصوصاً وقوانين وصياغات تصدر عن حاكم يحيا حياة تتميز وتمتاز عن حياة أوساط الناس، لكنه واحد من الشعب والمواطنين، لذا وضع الفاروق عمر مبدأ ضرورة تساوي الحاكم في القانون والاقتصاد بجمهور المحكومين، فعنده نجد أن نقطة البدء في قيام العدل أو اختلاله هي الحاكم ففي استقامته وعدله استقامة النظام وعدالته واستقامة المحكومين وسيادة العدل في المجتمع الذي يعيشون فيه والعكس صحيح.أحد أهم مطالب الثورات العربية تكريس العدالة الاجتماعية وضبط سياسات الأجور، فكيف أسس المسلمون في العصور الأولى هذه المبادئ؟العدالة الاجتماعية هي إحدى الركائز الإسلامية التي حثَّ عليها الإسلام في أي دولة ووضع مناهجها الصالحة للتطبيق في كل عصر. بل إن سياسات ضبط الأجور ووضع لائحة للحد الأدنى للمعيشة بقواعد علمية موجودة في التاريخ العربي والإسلامي، فقد حدث أن قرر الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن يكون لكل مواطن في الدولة حد أدنى للمعيشة واستشار المسلمين في مقدار هذا الحد الأدنى، وأجرى لتحقيق ذلك تجارب علمية معاشية. في هذا المجال يروي الحارث بن مضرب أن عمر طلب إحضار مقدار من الطعام «جريب» فعجن وخبز ثم عمل «ثريداً» ثم دعا 30 رجلاً لأكله في الغداء. بعد ذلك، أمر بتكرار الأمر في وجبة العشاء، فوجد هذا المقدار كافياً لهذا العدد، ثم تقرر لكل مواطن «جريبان» في الشهر حداً أدنى للطعام.حتى الأطفال الرضع كان لهم نصيب في بيت مال المسلمين أي نصيب في مال الأمة، وفي ذلك قرر وطبق الفاروق عمر المبدأ الذي جعل المال للأمة، لكل مواطن مسلماً كان أو غير مسلم فيه حق ونصيب يبدأ بالحد الأدنى للمعاش ثم يتدرج صعوداً وفقاً لبلاء الإنسان وعمله وحاجته ودوره في بناء المجتمع الجديد.في ظل مناخ الحرية الذي أوجدته الثورات العربية الأخيرة، نادى بعض التيارات بالدولة الدينية ورفض الدولة المدنية. ما الموقف الإسلامي من شكل الدولة؟الإسلام عقيدة وشريعة تطالب بالحكم بما أنزل الله، ولا بد من وجود علاقة بين الدين والدولة والإصلاح في المنظومة الإسلامية. لكن الإسلام لم ولن يعرف الدولة الدينية منذ ظهوره في جزيرة العرب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الإسلام الدولة مدنية منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن مرجعيتها الإسلام.يحسب كثر أن الدولة المدنية دولة لادينية، لكن نقيض المدنية هو اللادينية في الحقيقة، وأن الدولة الإسلامية نمط متميز عن غيرها، فنرى العصور الوسطى الغربية والحكم الفرعوني في مصر وكأن الحاكم إله أو ابن إله، أي سلطته دينية لا يجوز التمرد عليها، لكن في الإسلام من يطبق الشريعة الأمة وليس الحاكم، وليس لدينا كهنوت متحكم.كيف تنظر إلى الثورات العربية الأخيرة وهل هي قادرة على التغيير والعودة بالأمة إلى سابق عهدها، وهل تفضل الحكم السياسي أم البرلماني؟كلنا سعداء للغاية بهذه الثورات العربية فالشعوب العربية تسعى من خلال ثوراتها إلى استعادة مجد الأمة الغابر، والتخلص من العار التاريخي الذي سربلتنا به أنظمة الجور الداخلي والخور الخارجي والعمالة والسرقة والنهب والخيانة... بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان، انطلاق قطار الثورات العربية من تونس ثم مصر مثل إلهاماً للشعوب العربية للضغط على أنظمتها لأجل التحرر والإصلاح، وقد أثبتت هذه الثورات للشعوب العربية أنه من الممكن مواجهة «إرهاب الدولة»، لذلك فنحن نحذر الحكام في الدول العربية التي لم تندلع فيها الثورات بعد من مغبة عدم استجابتهم لمطالب شعوبهم كي لا تنتفض ضدهم، ونطالب المسؤولين في الدول كافة بأن يأخذوا إرادة شعوبهم في الاعتبار، وأن يستمعوا إليهم ويتحاوروا معهم.في ما يخص نظام الحكم، أميل إلى النظام البرلماني وأتمنى بأن يكون نظام الحكم في مصر برلمانياً لا رئاسياً لأن فكرة الفرعونية وتركيز السلطة في يد شخص يولدان الاستبداد.في سطور:د. محمد عمارة مصطفى عمارة مفكر إسلامي ومؤلف ومحقق وعضو مجمع البحوث اﻹسلامية في اﻷزهر. ولد في ريف مصر (مركز قلين- كفر الشيخ) في 8 ديسمبر1931، وحفظ القرآن وجوَّده. وهو في كتاب القرية بدأت تتفتح وتنمو اهتماماته الوطنية والعربية، وكان أول مقال نشرته له صحيفة «مصر الفتاة» بعنوان «جهاد عن فلسطين».درس د. عمارة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية- كلية دار العلوم- جامعة القاهرة 1965، والماجستير في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية 1970، ونال الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية 1975.الإنتاج العلمي للدكتور محمد عمارة غزير، ومنه أنه حقق لأبرز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية الحديثة مثل: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي... كذلك ألف كتباً ودراسات عن أعلام التجديد الإسلامي مثل: د. عبد الرزاق السنهوري باشا والشيخ محمد الغزالي ورشيد رضا وخير الدين التونسي وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وحسن البنا، ومن أعلام الصحابة مثل: علي بن أبي طالب... وكتب أيضاً عن تيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة وعن أعلام التراث مثل غيلان الدمشقي، والإمام الحسن البصري.من آخر مؤلفاته في الفكر الحديث: «الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأميركي، الغرب والإسلام أين الخطأ... وأين الصواب؟، مقالات الغلو الديني واللاديني، الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، ومستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية... أزمة الفكر الإسلامي الحديث، والإبداع الفكري والخصوصية الحضارية»... كذلك أسهم في دوريات فكرية متخصصة عدة، وشارك في ندوات ومؤتمرات علمية كثيرة، ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية والبحثية، أبرزها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي.اتسمت كتابات عمارة وأبحاثه التي أثرى بها المكتبة العربية والتي وصلت إلى 200 مؤلف بوجهات نظر تجديدية وإحيائية، والإسهام في المشاكل الفكرية، ومحاولة تقديم مشروع حضاري نهضوي للأمة العربية والإسلامية في المرحلة التي تعيش فيها.
توابل
المفكّر الإسلامي د. محمد عمارة: رسول الإنسانيّة كان أعظم الثوار في التاريخ
14-08-2011