من دون ذلك البحث العميق عن طرق مختلفة للتعامل مع طهران، ستبقى واشنطن عالقة في مخالب سياسة عقيمة لن تغير ممارسات إيران أو نظامها، بل قد تؤدي إلى حرب كارثية.

Ad

"بما أن الحروب تبدأ في عقول البشر، فيجب بناء دفاعات السلام في عقول البشر أيضاً" (أرشيبالد ماكليش، عام 1945، مقدمة دستور اليونسكو). يسمع الشعب الأميركي من المسؤولين الحكوميين والمرشحين للرئاسة كلاماً شبه يومي عن التحرك العسكري ضد إيران، فقد قال وزير الدفاع ليون بانيتا حديثاً إن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تسمحا لإيران بالحصول على قنبلة نووية، فهل أصبحت هذه الكلمات نموذجية في هذه السنة الانتخابية؟ وهل هي استراتيجية لمنع إسرائيل من الإقدام على تحرك أحادي الجانب؟ أم أن هذه التهديدات تعني أن الحرب موجودة في "عقول البشر" فعلاً؟ يفكر الإيديولوجيون المحافظون باحتمال أن يعود زعيم يمكنهم التأثير عليه إلى البيت الأبيض.  سبق أن تعهد المتحدث السابق باسم مجلس النواب نيوت غينغريتش بتعيين جون بولتون، أحد نجوم معسكر المحافظين الجدد، في منصب وزير الخارجية، لكن بما أن غينغريتش أعلن أنه يفضل التخطيط لعملية مشتركة مع إسرائيل ضد إيران بدل إجبار الإسرائيليين على التحرك بشكل أحادي الجانب، فلا عجب أنه المرشح الأشد التزاماً بالتحرك العسكري. هل نسينا ما مرت به الولايات المتحدة والعراق منذ عام 2002؟ لولا تلك الحرب المشؤومة، ما كان آلاف الأميركيين (والعراقيين) ليخسروا حياتهم، وما كانت الولايات المتحدة لتنفق تريليون دولار سُدىً، بل كانت لتحافظ على عزة نفسها وتفرض احترامها بين الجميع، وكانت لتبقى الدولة السليمة اقتصادياً كما عرفها العالم. بُنيت دفاعات السلام في عدد من ألمع العقول الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن لم يحصل ذلك قبل أن تتعرض تلك العقول للإهانة والحرج بفعل التداعيات المترتبة على قراراتها السابقة، فقد اعترف روبرت ماكنمارا وماكجورج باندي بالكوارث التي نجمت عن قناعتهما بضرورة "أمركة" حرب فيتنام. ثم تبين أن المحارب دين أتشيسون كان العضو الأكثر ذكاءً بين "العقلاء" في عهد ليندون جونسون، فهو حثّ الرئيس على وقف الحرب الفاشلة في فيتنام. كذلك، أدرك عشرات المسؤولين في مراكز قيادية، بعد انطلاق حرب العراق، مدى جنون ذلك القرار وقلة الكفاءة في تنفيذه ولكن بعد فوات الأوان. في منتصف الخمسينيات، عندما سُئل دوايت أيزنهاور (أكثر الرؤساء خبرةً بشأن حدود القوة العسكرية) عمّا إذا كان سيفكر في تنفيذ عمليات عسكرية ضد الاتحاد السوفياتي لمنعه من تطوير برنامجه النووي، أجاب قائلاً: "بالنسبة إلي، الحرب الاستباقية أمر مستحيل اليوم، فكيف يمكن شن حرب مماثلة إذا كانت ستترافق مع تدمير مدن عدة وقتل وجرح وتشويه آلاف الأشخاص؟ هذه ليست حرباً استباقية. إنها مجرد حرب!". بدأ التحرك العسكري يتحول إلى حل مضمون بالنسبة إلى الولايات المتحدة من أجل التعامل مع المشاكل الأمنية الحقيقية والوهمية. تُعتبر الوسائل الدبلوماسية الغامضة والمتطلِّبة فكرياً "ضعيفة" ومملة، ومن المتوقع أن تشمل تسوية أو حتى "تهدئة" في نهاية المطاف. بذل الرئيس أوباما جهوداً كثيرة للتواصل مع القادة الإيرانيين في السنة الأولى من حكمه، لكن سرعان ما غير اتجاهه حين تعرض للصد، ومنذ ذلك الحين، تقضي السبل الدبلوماسية الأكثر فاعلية للتعاطي مع إيران بحشد الدعم العالمي لفرض سلسلة غير مسبوقة من العقوبات والتدابير التي تضمن عزل البلد. تشكل إيران تهديداً جدياً على الولايات المتحدة وأمن المنطقة، ومن المتوقع أن يتنامى هذا التهديد في حال نجح برنامجها النووي بتصنيع الأسلحة. يجب أن تطلق الولايات المتحدة بحثاً جدياً لإيجاد طريقة أفضل تضمن التصدي لهذه القوة الإقليمية الغامضة، فمن دون ذلك البحث العميق عن طرق مختلفة للتعامل مع طهران، ستبقى واشنطن عالقة في مخالب سياسة عقيمة لن تغير ممارسات إيران أو نظامها، بل قد تؤدي إلى حرب كارثية. طوال ثلاث سنوات، طرحنا مع زملائنا في "المشروع الإيراني" (مبادرة شخصية تقترح استراتيجيات دبلوماسية وتشجع على إجراء مناقشات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران طوال عقد من الزمن تقريباً) أساليب متنوعة لاحتواء برنامج إيران النووي ومنعها من تطوير الأسلحة، فضلاً عن إشراك إيران في حوار حول المسائل الإقليمية الأخرى، إذ لم يفت الأوان على ذلك بعد. يعلّمنا التاريخ أن أساليب التواصل والدبلوماسية تمنح مكاسب مهمة لا تضمنها التهديدات العسكرية، فقد يؤدي استعمال القوة العسكرية إلى نشوء وهم بتحقيق "النجاح" على المدى القصير، ولكنه يؤدي دوماً إلى عواقب غير متوقعة وأضرار جانبية تعقّد تنفيذ الأهداف الأميركية الأساسية. كذلك، ستساهم الاستعانة بدبلوماسيين لديهم استراتيجية واضحة، تزامناً مع استمرار الضغوط على إيران، في إحباط طهران والحد من إصرارها على تصنيع قنبلة نووية وتراجع خطر اندلاع الصراع. لا شك أن العملية الدبلوماسية البطيئة والمبهمة لتنفيذ الأهداف الأميركية لا تمنح شعور الرضا نفسه الذي يترافق مع التهديدات أو التحركات العسكرية، ويمكن التوصل إلى حلول طويلة الأمد وبكلفةٍ أقل بكثير بفضل الجهود المبتكرة التي تهدف إلى التواصل مع قادة إيران وإيجاد مخرج معقول للأزمة، لكن يبدو أن الأشخاص الذين يحثون على التحرك العسكري ضد إيران لم يتعلموا هذا الدرس. فمن الواضح أن حرب العراق لم تُنشئ أي "دفاعات سلام" في عقول هؤلاء الأشخاص، وبالتالي، لا بد من أن تفشل هذه الجهود قبل اتخاذ خطوات أكثر صرامة من خلال تحرك متعدد الجوانب ومدعوم من مجلس الأمن. قام أتشيسون، ذلك الخبير الاستراتيجي اللامع والصديق المقرّب من أرشيبالد ماكليش، بانتقاد المدافعين عن "الرد العسكري العنيف" خلال الخمسينيات، وبحسب قوله، من الجنون التسبب بكارثة لتجنب الاضطرابات والتوتر، فلا شك أن تكثيف المعارف وتعزيز الاتصال مع العدو يساهمان في تخفيف حدة التوتر والكشف عن طرق مضمونة لتجنب الكارثة.