أعاقت روسيا والصين قراراً يفرض تغيير النظام في سورية، غير أن التفاوض على تسوية معقولة هو الحل الوحيد لتجنب الحرب الأهلية.

Ad

لا حدود للثمن الدموي الذي يجب أن يدفعه العرب مقابل "ربيعهم" على ما يبدو، بعد المجازر التي ارتُكبت في مصر واليمن والبحرين وليبيا، تزداد فظائع الانتفاضة التي بدأت في سورية منذ 11 شهراً. بعد أربعة أيام على قصف المحافظات التي يسيطر عليها الثوار في مدينة حمص السورية، نُشرت مشاهد وتقارير مروعة من معقل المعارضة في حي باب عمرو: مساجد مليئة بالجثث، شوارع تعج بالأشلاء البشرية، مناطق سكنية تحولت إلى ركام.

لا تزال المشاهد التي تُبث عبر شاشات التلفزة أكثر وضوحاً في العالم العربي كما أن تداعياتها هي أخطر حتماً. بغض النظر عن عدد القتلى الحقيقي الذي سقط من كل فريق، لا شك أن المعاناة الإنسانية كبيرة وهي تنجم عن استمرار إراقة الدم وأعمال التعذيب والاعتداءات الانتقامية الطائفية التي بدأت منذ سنة تقريباً.

لذا عندما استعملت روسيا والصين حق النقض يوم السبت للاعتراض على قرار الأمم المتحدة المدعوم من الغرب لإدانة نظام بشار الأسد والطلب من قواته العودة إلى ثكناتها ودعم خطة جامعة الدول العربية لاستبدال النظام، شعر القادة الأميركيون والبريطانيون وحلفاؤهم بأنهم مخولون وصف ذلك الاعتراض بالعمل "المشين" و"المخجل" لأنه يعني خيانة السوريين، وقد انعكست هذه المواقف في وسائل الإعلام الغربية.

لكن تفترض هذه الادعاءات أن فرض تغيير النظام من الخارج (وهو ما ينص عليه القرار) سينجح حتماً أو سيحصل على الشرعية أو سيوقف عمليات القتل. من خلال الدعوة إلى "عملية سياسية" تؤدي إلى نتيجة محددة مسبقاً، أي انسحاب الجيش السوري من الشوارع من دون مطالبة جماعات الثوار المسلحة بالأمر نفسه وتنفيذ هذا المطلب بالكامل خلال 21 يوماً (بالإضافة إلى شرط يفرض "تدابير إضافية" في حال "عدم الالتزام")، يمهد هذا القرار أيضاً إلى حصول تدخل عسكري خارجي.

اعتبر الكثيرون أن الفيتو الثنائي منح الأسد الضوء الأخضر لتعزيز حملة القمع وزيادة احتمال نشوب حرب أهلية شاملة. لكن من خلال استبعاد خيار التدخل المدعوم من الأمم المتحدة، يمكن اعتبار أن هذا الوضع يزيد الضغوط على جماعة المعارضة الأساسية (أي المجلس الوطني السوري المدعوم من الغرب) كي توافق على التفاوض، علماً أن استراتيجيتها العامة كانت ترتكز على إنشاء الظروف المؤاتية لفرض منطقة حظر جوي كما حصل في ليبيا.

استغلت روسيا والصين سورية لتحدي المحاولة الغربية الرامية إلى الاستفادة من الانتفاضات العربية. ساهم استعمال الفيتو في تقوية نفوذ روسيا مع نظام الأسد، لكن طمأن المسؤولون الروس قادة المعارضة سراً إلى أن صراعهم الحقيقي هو مع الولايات المتحدة وليس معهم. ثم تعهد باراك أوباما حديثاً بمحاولة حل هذه المشكلة من دون اللجوء إلى تدخل عسكري خارجي.

لكن لا يعني ذلك استبعاد هذا الخيار نهائياً. ينشغل القادة الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون منذ الآن بتشكيل تحالف إرادة جديد مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الحليفة، على أن يحمل التحالف شعار "أصدقاء سورية الديمقراطية"، من أجل تدعيم المعارضة وتنحية الأسد من السلطة.

لقد بدأ التدخل يأخذ مفعوله. تشير التقارير إلى أن السعوديين والقطريين يموّلون المعارضة ويسلحونها، وحصل الجيش السوري الحر على ملجأ آمن في تركيا. كذلك، يُقال إن القوات الغربية الخاصة تمنح الدعم العسكري ميدانياً. إذا فشلت هذه الجهود، فيمكن تجاوز الأمم المتحدة عبر التلويح بمبدأ "مسؤولية الحماية" كما حصل في الشأن الليبي.

لكنّ هذه التدابير لن توقف أعمال القتل بل إنها ستصعّد وتيرتها، إنه الدرس الواضح الذي يمكن استخلاصه من تدخل حلف الأطلسي في ليبيا في السنة الماضية. عندما بدأت عملية التدخل، كانت حصيلة القتلى تتراوح بين ألف وألفي قتيل. في الوقت الذي تعرض فيه معمر القذافي للأسر والقتل بعد سبعة أشهر، أشارت التقديرات إلى سقوط عشرة أضعاف ذلك العدد. كذلك، أدى التدخل الخارجي في ليبيا إلى نشوء حملة تطهير واسعة على أساس عرقي، فضلاً عن انتشار أعمال التعذيب والاعتقال من دون محاكمة، واستمرار الصراع المسلح، وقيام إدارة لا تخضع للمحاسبة لدرجة أنها رفضت الإفصاح عن أسماء أعضائها.

أكدت روسيا والصين الآن استحالة صدور أي قرار شبيه بالقرار الليبي في الأمم المتحدة بعد اليوم. غير أنّ إصرار الأميركيين والبريطانيين وحلفائهم على اتخاذ مواقف أخلاقية سامية في الشأن السوري وادعاء صداقتهم للشعب السوري ينم عن نفاق كبير. فلا أحد يمكن أن ينسى مسؤوليتهم عن مقتل مئات آلاف الأشخاص في العراق وأفغانستان، طوال 45 عاماً لطالما قللوا من شأن الاحتلال الإسرائيلي لهضاب الجولان السورية، ولكنهم يعدون الآن بضمان "سيادة الأراضي" السورية.

تنشط الأزمة السورية على مستويات عدة، فهي تعبّر من جهة عن انتفاضة شعبية ضد نظام قومي استبدادي يحتفظ بدعم شعبي مهم حتى الآن. في وجه حملة القمع المستمرة، تحولت تلك الانتفاضة إلى "كيان مسلح" وفق التقرير المسرّب عن بعثة جامعة الدول العربية.

كذلك، اتخذ الصراع منحىً طائفياً قاتماً، إذ يخشى الجهاز الأمني الذي يسيطر عليه العلويون ومختلف الأقليات هيمنة المعارضة التي تتألف من أغلبية سنية. ميدانياً، أدى هذا الوضع إلى تعزيز حملة القتل والتطهير الطائفي كما حصل في العراق ولبنان.

غير أنّ البُعد الثالث (أي دور سورية كحليفة استراتيجية أساسية لإيران) هو الذي جعل الأزمة مروّعة لهذه الدرجة في هذه المنطقة التي حاول فيها الغرب وعملاؤه العرب الانقلاب على الصحوة العربية لمصلحتهم الخاصة من خلال تعزيز الصراع مع طهران.

سيكون إسقاط النظام السوري لطمة موجعة في وجه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. ومع تصاعد حدة الصراع في سورية، ارتفعت حدة المواجهة الغربية الإسرائيلية مع إيران أيضاً. صحيح أن وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا ومدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر اعترفا بأن إيران "لا تحاول تصنيع سلاح نووي"، لكن أكد بانيتا ارتفاع احتمال اعتداء إسرائيل على إيران في شهر أبريل، بينما تواجه إيران عقوبات هائلة على قطاعها النفطي من الاتحاد الأوروبي بسبب برنامجها النووي.

يمكن فهم التدخل الغربي في سورية (ومعارضة روسيا والصين لهذا التحرك) على أنه جزء من حرب بالوكالة ضد إيران وقد تتحول إلى صراع مباشر وكارثي. في غضون ذلك، تقل المؤشرات على حصول خرق مهم للوضع القائم من جانب النظام أو المعارضة في سورية.

إذا كانت المعارضة لا تستطيع شق طريقها إلى السلطة وإذا لم يسقط النظام، تقضي الطريقة الوحيدة لتجنب حرب أهلية كارثية بالتوصل إلى تسوية سياسية يتم التفاوض عليها وتمهّد لإجراء انتخابات نزيهة. لتعزيز فرص النجاح، يجب أن تضمن أبرز القوى الإقليمية والعالمية هذه الجهود الآن. أما الخيار البديل عن التدخل الغربي والخليجي، فسيؤدي حصراً إلى تعزيز إراقة الدم ومنع السوريين من السيطرة على بلدهم.