من خلال تقليص المقاربة الدبلوماسية، يُضعف أوباما احتمال التوصل إلى حل سلمي ويعزز الادعاءات المجحفة التي تتهمه بالضعف. كشفت المناظرات الأولية للجمهوريين أمرا كان يشك فيه الكثيرون لفترة طويلة: سيكون الملف الإيراني أبرز موضوع خارجي سيطغى على الانتخابات العامة، فهذا الأمر ليس مفاجئاً، فالملف الإيراني هو الموضوع الوحيد الذي يمكن أن يُجمع عليه الجمهوريون (باستثناء رون بول) والذي يمكّنهم من إظهار الرئيس باراك أوباما بصورة المسؤول الذي لا يتعاطف مع المخاوف الإسرائيلية، ما يسمح لهم باتهامه بالضعف والتساهل.لكن ما يثير الدهشة فعلاً هو اعتبار أوباما ضعيفاً في هذه المسألة. في النهاية، لم يقترب أي رئيس أميركي آخر من التوصل إلى إنجاز دبلوماسي مع طهران بقدر أوباما، ولم ينجح أي رئيس أميركي آخر في تعبئة المجتمع الدولي ضد إيران لهذه الدرجة، ولم يتمكن أي رئيس أميركي آخر من فرض هذا الكم من العقوبات المؤثرة والصارمة في الاقتصاد الإيراني.كانت إيران توسع نطاق نفوذها في المنطقة بوتيرة سريعة خلال عهد جورج بوش الابن، وقد أخبرني أحد المسؤولين في إدارة أوباما بأن إيران توشك على تحقيق أهدافها، لكن في السنوات الثلاث الأخيرة، فقدت إيران زخمها الإقليمي، فقد زادت الاضطرابات في إيران على المستوى السياسي المحلي غداة الانتخابات المزورة في عام 2009، وتعرضت أدواتها الدبلوماسية في المنطقة لضربة موجعة غداة أحداث الربيع العربي، وبدأ اقتصادها يتدهور نتيجة سوء إدارة النظام وأعباء العقوبات الدولية، وقد تراجعت قدرتها على تحريض القوى النافذة ضد بعضها بعضا منذ وصول أوباما إلى السلطة.لكن وفق استطلاع رأي حديث أجرته شبكة "إي بي سي" (ABC) الأميركية وصحيفة "واشنطن بوست"، لا يؤيد الأميركيون الطريقة التي اعتمدها أوباما للتعاطي مع الملف الإيراني بهامش يتراوح بين 33 و48%. تبقى هذه النتيجة أدنى بكثير من الأرقام التي سجلها عند تقييم أدائه العام، وهي أسوأ بكثير من نسب التأييد التي حصل عليها لتقييم طريقة تعامله مع مسألة الإرهاب والشؤون الدولية.لا شك أن هذه الأرقام أربكت الناشطين في الحزب الديمقراطي. يبدو أن الرأي العام لم يتأثر بالجهود التي بذلها البيت الأبيض لإثبات مدى صرامة أوباما مع إيران (بما في ذلك الخطاب الفوقيّ الذي ألقاه مستشار الأمن القومي توماس دونيلون في معهد بروكينغز في نوفمبر 2011).ربما يعود ذلك جزئياً إلى التقدم الذي أحرزه البرنامج الإيراني النووي والشعور العام بتعاظم أزمة إيران، ففي نهاية المطاف، أدت الضغوط التي فرضها أوباما على طهران إلى تقريب الولايات المتحدة وإيران من خيار الحرب بدل أن تفرض حلاً لإحدى المشاكل الكبرى.لكن جاءت نتائج استطلاعات الرأي على هذا الشكل أيضاً لأن إدارة أوباما سمحت لليمين السياسي بتحديد معايير النجاح في الشأن الإيراني. لقد صدق أوباما بالكامل على فكرة أن السياسة الإيرانية "القوية" هي سياسة صارمة وتصادمية ومتطلّبة. في هذا الملف أيضاً (كما في ملفات كثيرة أخرى)، سمح أوباما بتوسع هذا الجدل استناداً إلى وجهة نظر اليمينيين، ولكنه بذلك نكث بالوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية بعدما تعهد بعدم تبني سياسات "صارمة" فحسب بل "ذكية" أيضاً.بكل بساطة، لا يمكن أن تبث الإدارة الأميركية الثقة في نفوس المواطنين من خلال مقارباتها وسجلها، فبدل تأييد قرار اعتماد السبل الدبلوماسية بعد ثماني سنوات من رفض المحادثات في عهد بوش، سعى البيت الأبيض في عهد أوباما إلى تخفيض جهوده الدبلوماسية. كانت هذه المحادثات ستنجح على الأرجح من وجهة نظر بعض المسؤولين الأميركيين والغربيين لولا التقاتل السياسي الداخلي في إيران غداة فضيحة الانتخابات. أخبرني وزير الخارجية البريطانية حينها ديفيد ميليباند بأن التواصل الثنائي الذي سعى إليه الأميركيون وقع ضحية السياسة الإيرانية الداخلية.لم تدعم إدارة أوباما الطرق الدبلوماسية بسبب منطقها الاستراتيجي السليم أو بهدف تحقيق النتائج المرجوة، بل تبنى أوباما موقفاً دفاعياً واعتبر أن محاولته التحاور مع طهران لم تضمن التوصل إلى اتفاق نووي، ولكنها حشدت دعماً دولياً غير مسبوق لفرض العقوبات ضد إيران.هذا التحليل صحيح من الناحية النظرية لكنه أشبه بعذر أقبح من ذنب! هذه الفكرة ليست مقنعة بما يكفي لأن الضغوط لن تنجح وحدها في إجبار إيران على تغيير سلوكها، فلا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال العمل الدبلوماسي، وعندما يدعي البعض أن الدبلوماسية تفيد حصراً بفرض الضغوط، يعني ذلك تلقائياً تراجع احتمال التوصل إلى حل سلمي للمشكلة، ما يثبت أن الإدارة الأميركية تحاول حصراً شراء الوقت بدل حل المشكلة في القريب العاجل، فلا يشير هذا الموقف إلى القوة أو الثقة بل إلى الضعف وانعدام الأمان.عملياً، يُعتبر عدم الاستعداد للدفاع عن الدبلوماسية أو إنشاء المساحة السياسية اللازمة لضمان نجاح هذه العملية الصعبة سبباً أساسياً لتبرير التخلي عن خيار التواصل في مرحلة مبكرة، فسبق أن ذكرتُ في كتاب "فرصة واحدة: دبلوماسية أوباما مع إيران" (A Single Roll of the Dice – Obama’s Diplomacy with Iran) أن أوباما كان يتمتع بقدرة سياسية غير مسبوقة على المناورة من خلال اتباع الأساليب الدبلوماسية مع إيران عند وصوله إلى سدة الرئاسة، ولكنه كان يدرك أن هذه الطريقة لن تدوم إلى الأبد لأن التقدم الإيراني النووي والضغوط التي يفرضها الكونغرس وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ستضمن زوالها في نهاية المطاف.في البداية، برزت نزعة واضحة إلى التصدي للمشككين في خيار التواصل لكن سرعان ما انهارت تلك الروح القتالية بعد الانتخابات الإيرانية المزورة في صيف عام 2009. كذلك، أدت انتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة التي ارتكبها النظام الإيراني إلى هز ثقة الإدارة الأميركية وتضييق المساحة السياسية المتاحة أمام أوباما. في هذا الصدد، قال أحد كبار المسؤولين في إدارة أوباما: "بعد الانتخابات، تحول التشكيك باستراتيجيتنا داخل الكونغرس إلى عدائية مباشرة".بدل السعي إلى توسيع الخيارات وهامش المناورة، بدا وكأن الرئيس يريد الاعتذار عن مقاربته الدبلوماسية بهدف التكيف مع تراجع مساحته السياسية، فمع اقتراب موعد المفاوضات أخيراً في أكتوبر 2010، تحولت السياسة المعتمدة إلى رهان خطير وحاسم: إما النجاح وإما الفشل! بعد أن فشلت محادثات شهر أكتوبر في إقناع إيران باقتراح تبادل الوقود النووي، تخلى الجميع عن المقاربة الدبلوماسية.لا بد من مقارنة كيفية تعامل أوباما مع المشهد السياسي المحلي عن طريق الدبلوماسية من جهة والجهود التي بذلها جورج بوش الابن لكسب الدعم السياسي اللازم لغزو العراق من جهة أخرى.بين يناير 2002 ومارس 2003، ألقى بوش 16 خطاباً مهماً لتوضيح المنطق الاستراتيجي (الشائب) الذي يبرر غزو العراق، وقد حاول بذلك إنشاء مساحة سياسية خاصة به وكسب الدعم المطلوب لخططه الحربية. كذلك، أجرى بوش وتشيني 11 مقابلة بارزة مع أهم وسائل الإعلام لإقناع الرأي العام بخططهما.في المقابل، أوضح أوباما المنطق الاستراتيجي المبني على الدبلوماسية حين كان مرشحاً للرئاسة، لكن بعد أن أصبح رئيساً للبلاد، قضت استراتيجية البيت الأبيض بتجنب أي جدل وطني عن إيران.حتى عندما عرض كبار المشرعين الديمقراطيين منح أوباما الغطاء السياسي اللازم لمتابعة مقاربته، أوصاه مستشاروه السياسيون بعدم قبول العرض. صحيح أن الدبلوماسية كانت ورقة انتخابية رابحة في عام 2008، لكن أشار تقييم الوضع العام في سنة 2009 إلى أن إقناع الرأي العام الأميركي بخيار الدبلوماسية سيكون مكلفاً جداً.يسود ارتباك سياسي مماثل في إيران حيث تنتشر المخاوف من التساهل مع الأميركيين بقدر ما تخشى الولايات المتحدة الظهور بصورة الدولة الضعيفة أمام إيران.نادراً ما يتم تجاوز العداوات القديمة عن طريق مقاربة تتماشى مع المشهد السياسي الذي ولد تلك العداوة ورسخها، إذ تتطلب الدبلوماسية عوامل عدة مثل الوقت، والشجاعة، والمثابرة، والرأسمال السياسي، والرغبة في المجازفة بالموقع السياسي.يجب أن يتعلم صانعو السياسة في واشنطن وطهران من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، فحين اقتنع هذا الأخير بأن عقد تسوية سلام مع الفلسطينيين يصب في مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، لم يتردد باتباع هذه المقاربة بكل شراسة على الرغم من الكلفة السياسية المحلية التي تكبدها (وقد كلفته تلك المقاربة حياته في نهاية المطاف). كان منطق تفكيره قوياً وصارماً: "فلا أحد يعقد السلام مع الأصدقاء، بل يجب عقد السلام مع الأعداء!".
مقالات - Oped
تراجع قوة أوباما في الشأن الإيراني
07-02-2012