لي مجموعة من الأصدقاء ممن يصدقونني القول، وقد هاتفني أحدهم قبل أيام فهنأني على مدوّنتي وشكرني على ما أسماه قوة القلم في مدوّنتي الأخيرة ونبّهني على حادثة عشتها ولا أودّ الخوض فيها مجدداً، مختصرها أن الشجاعة في القول تتطلب عدم الخوف أو المداهنة، فعندها سيصدق كل منا القول ولا نهوّن واقعاً أليماً أو نعطي عذراً لسارق لأنه من بني مخزوم، فشكرته على تشجيعه.

الأصدقاء، كما هي العادة، هم عيننا على ما حولنا، فكان أن انتقدني في أمرين، أولهما دفعني إلى كتابة مقال اليوم. من جملة ما قال إنه طلب مني ألا أبقى من كتّاب الترف، وألا أنسى المطحونين أو الضعفاء، وهم السواد الأعظم، فقضية كاتبة وقناة تستحقّ أن أكتب عنها، لكن أيضاً تلك الأم التي فقدت ضناها نتيجة علاج خاطئ، أو فقير احتاج إلى علاج فأوصدت أبواب المشافي دونه... فوعدته أن أتحدث عن هذا بأمانة.

Ad

أما نقده الآخر فاعتذرت عن تلبية طلبه فيه ما لم أسمعه من باقي القراء المستضعفين كأم أحمد وأم فيصل... فلهؤلاء أكتب، ومما قال: «لم تلحن وتسيء إلى اللغة العربية وقواعدها في بعض ما تكتب، وأنت ابن الأديب».

وهنا أقول معتذراً: «حين بدأت الكتابة، ويعلم الله كم أنا مشغول، قررت أن أكتب مسترسلاً فلا أدقق أو أصوّب ليخرج الحديث بسيطاً سهل الاستيعاب لمن يفكّ الخط قبل الأديب، لذلك جاءت مدوّنتي، كما لو كنت أنا راوي الحي، يجمع الناس في القهوة ليقصّ عليهم، لذلك تأتي الجمل طويلة أحياناً ويأتي كثير منها خبرياً. لو أردت لصغتها من جديد لكنها ستصبح في غير لغة العصر أولاً، وقد تصعب على من أردت أن تتسع دائرة قرائي لتشملهم ثانياً. فإلى كل أديب وضليع في اللغة أتأسف وأقول للمصحّحين في «الجريدة» عذرهم في عدم تصحيح الكثير، ففي الكتابة العلمية يصعب إعادة ترتيب الجملة لمن لم يكن في المجال نفسه».

الآن لندخل في مدوّنة اليوم، كعادتي أبدأها بقصة حدثت في أوائل القرن الحالي، كنت مسافراً بالطائرة ووقع بين يديّ مقال في جريدة الـ «بوسطن غلوب» شدّني وبقي في ذاكرتي المهلهلة اليوم من كثرة ما ملأتها بالغث والسمين حتى طفحت ففقدت سيطرتي عليها، ولهذا رجعت إلى الشبكة العنكبوتية المذهلة وهي ذاكرتي الثانية فبحثت حتى لقيت المقال، يقول المحرر: «توفيت أمي في مستشفى «بتسبرغ» بعدما أصيبت بكسر في عظمة الفخذ ونقلت إلى المستشفى قبل فترة، وتم تثبيت الكسر بعد استبدال رأس العظمة، وكنا ننتظر خروجها إلى البيت بعد تحسّنها ليدركها الموت فجأة، وكانت أختي إلى جوارها فانهارت ولم تعلم ما تفعل، وبعدما  وعينا على الكارثة التي حلّت بأختي، فقد كانت أمي أنيستها في المنزل، خاطبتني أختي لتقول إنها تتهم المستشفى بالتقصير والإهمال، فما كان لأمنا أن تموت، وتريدني أن أجد محامياً نوكله ليأخذ حقّ أمنا المتوفاة».

يضيف المحرر: «بعد وفاة أمي بأسبوع اتصل بي أحد الأطباء المعالجين ودعاني لزيارته في عيادته هو وشريكه، وعلى رغم عدم رغبتي في الذهاب من دون محامٍ قبلت الدعوة لتهذيب من دعاني الجم».

ثم يصف الكاتب كيف استقبله الطبيبان في شقة فخمة في ناطحة سحاب، وكانا يرتديان بدلتين رسميتين. وبعد شرب الشاي ومن دون لف أو دوران فهم أن أمه عولجت وفق المعايير إلا في موضوع واحد وهو إعطاء المريضة موانع التخثّر، فهي لم تعطَ الجرعات، لخشية الطبيبين من استعمال موانع التخثر خوفاً من النزف، فأصيبت بتخثر في الفخذ انتقل إلى شريان الرئة فأغلقه وماتت فوراً.

ثم أخبره الطبيبان أن المستشفى والمحامين أعلموهما بأن المرجعية القانونية نصحتهما بالتسوية مع أهل المريض من جيبيهما وإلا فالعواقب وخيمة، وأوصوهما بعدم التحدث إليهم، وأن فرصتهما الوحيدة للنجاة، أن يخبراه وأخته أو محاميهما حقيقة ما حدث، فالقاضي سيحكم ضدهما لأنه خطأ واضح ومكلف، وليست الكلفة مالاً فحسب بل مستقبلهما، فما من شركة تأمين ستقبل أن تؤمن عليهما وبالتالي ما من مستشفى سيقبل خدماتهما.

يتابع المحرر: «ذهلت من كشفهما كل الأوراق من دون أن أبادر بالسؤال، ثم نظرت إلى وجهيهما فرأيت شابين في مقتبل العمر تملؤهما الحياة مكسورين، ثم تعرفت إليهما أكثر، فقد تخرّجا قبل سنتين، وحين بدآ العمل لم يجدا من يحتضنهما ويقف إلى جانبهما، فقد أفسدت المادة النفوس وينتظر كثر زلة الآخر أو يغتابونه في ظهره، فاجتهدا قدر استطاعتهما ولم يقبلا إلا الحالات السهلة أولاً ثم أصبحا، تدريجاً ومع الثقة والخبرة، من المتميزين بعد أقل من عامين، لتأتي هذه الحالة فتكسرهما من جديد».

يضيف المحرر: «قلت لهما أجيبكما بعد أن أشاور أختي بعد يومين». ويختم مقالته بالقول: «عاشت والدتي وأحمد الرب أنها سعدت بالأحفاد وأتمنى لكما أيها الجراحان الصادقان مزيداً من التقدم والنجاح وجزاء صدقكما أنني وأختي قد غفرنا ما حدث ولا نريد نقداً ولا قضايا».

أسعدني المقال فقرأته وكنت قد خرجت من حالة للتو حدثت لي فيها مضاعفة، بسبب أمرين: الأول غرور العبد لله، حين نعود من دراستنا، وقد تخرجنا للتو، لا نودّ أن نعامَل كتلاميذ، للأسف يكون هذا شأن من سبقونا في الدراسة والعودة، فيكون التضييق والإقصاء حتى يُقتل كل طموح للتطوير وإدخال العلم الجديد، فمنا من يذهب إلى عمله كطبيب يوقّع حضوراً وانصرافاً، وقد يتجه إلى سوق العقار والأسهم ليعوض خسارة البعثة. منا من يبقى ليقاتل، وهنا الصعوبة، فمهما يكون ممتازاً يبقى سمكة صغيرة بين حيتان، فيلابط حتى يبقى حياً، وكثيراً ما يأتي ذلك على حساب المرضى.

وهنا أقول: «أتمنى لو سمعني كل رئيس عاد طالبه وقد تخصص، أن يدعم هذا الطالب ويقف إلى جانبه بل يحتضنه ويملأ بعض غروره، فكلنا نحتاج الى ذلك إلا من رحم الله، لحماية المرضى من قلة الخبرة وفي ذلك فائدة عظيمة لفريقه. هذا القادم الجديد أتى بعلم جديد وطرق حديثة أولى بنا أن تنفذ تحت سمعه وبصره وبدعمه ليستفيد الناس.

وأقول لمن تخرّج حديثاً: «تواضع لله قبل البشر فمهما تعتقد أنك قد تعلّمت وتثقفت فأنت في أول الطريق والمزج بينك وبين الخبرة التي حولك مصدر خير لك ولمرضاك وأمان ما بعده أمان ليرتاح ضميرك».

المشكلة هي حين نبدأ التحزّبات، فهذا فريق من خريجي أميركا الشمالية وهذا فريق من خريجي أوروبا، كلّ يشكّك في تعليم الآخر، ثم هناك الخرّيج المحلي ونقولها باستهزاء أحياناً، وينصرف كل فريق للإطاحة بالفريق الآخر، ثم هناك صراع الأجيال، لست كبيراً في السن أو في العلم  إنما تعاقبي في الإدارات مكّنني من رؤية حجم المنافسة بين كل هؤلاء، وهي ليست في صالح المرضى البتة.

الخوف كل الخوف حين يكون ثمة من أساء العلم والأدب، وأقصد يأتي أحياناً طبيب مليء بالأنا لا يقر بخطئه، فهو لا يراه وإن رآه خدع نفسه قبل الآخرين بمحاولة طمسه وإخفائه، هذا الطبيب يستفيد من تناحر الفرقاء، فلو اتفقوا لما خرج طبيب مخطئ كهذا بين الناس وفلت بأخطائه.

أقول ذلك وأنا أقصد ما أقول، كلما تعامل الطبيب مع الحالات الصعبة كلما زادت المضاعفات وهذه حقيقة، فعدد المضاعفات لا يعني سوء الطبيب بل قد يعني العكس. لكن الحكم على حقيقة صعوبة الحالات هو من مسؤولية من حوله والرقابة تقع على عاتقهم أيضاً.

الأمر الثاني، ثمة فرق بين الاجتهاد في ما لم يرد فيه نص صريح واضح وهذا ينطبق في الطب، فالطب المبني على البراهين واضح وجلي والاجتهاد مجاله ضيق خصوصاً في العهد الحالي.

وفي الأخير أقول: غالبية الحالات التي تقع فيها أخطاء ويتم الاعتراف بالخطأ والتعلم منه، تكون مصدر قوة للطبيب وراحة للمرضى وأهلهم، فأسوأ الحال حين يشعر المريض أو أهله بأنهم قد استُغفلوا وكذب عليهم، الناس لا يغضبون كثيراً من المضاعفة حين يقرّ بها الطبيب ويجتهد في حلّها حتى لو تركت إعاقة وحتى في الوفاة، لكنهم يغضبون حين يشعرون بأن شأن الطبيب هو إخفاء الحقائق وطمس معالمها.

ولأختم أخبر قصة رواها لي زميل على سبيل المزاح: «كنت طالباً وكنا نقوم باستئصال المرارة بالمنظار وبالخطأ نسي الطبيب ذلك، فأزال الزائدة وخرجت المريضة للإفاقة فسألت عن الحصى، وكان الطبيب في العمليات فاتصلت به الممرضة فقال لها: «لا تقولي شيئاً». وحالما انتهى من حالته أعاد المريضة إلى العمليات، فأزال مرارتها وحين أفاقت لفّق لها قصة فقال: «رأيت الزائدة فيها ورم فكان ضرورياً أن أزيلها أولاً وأتأكد أنه حميد، وبعدما تأكدنا عدنا لنكمل العملية ونزيل المرارة».

يضيف زميلي أنه حين خرج الطبيب وكان هو في الغرفة قالت المريضة: «أيحسبني بهذا الغباء؟ ياله من مخادع لن أعود إليه ما حييت»، أحياناً حين يتذاكى بعضنا فلا يردّ عليه مرضاه فذلك لا يعني أنهم قد صدقوه، بل من درجة كذبه أصابهم بإحراج أن يقولوا له في وجهه كاذب.

لنجتهد كأطباء أن نستشعر الرقيب ولنجتهد كمرضى أن نتحرى الطبيب الأمين، ومقالي المقبل سيكون عن مراحل الحمل والولادة، وسنتكلم عن الولادة في الأزمنة السحيقة وعن أحدث التطورات وهل من دروس.