أكتب مقالي هذا يوم الجمعة بعد دقائق من عودتي من تيماء، أنظر إلى الشاشة مضيئة أمامي بعقل فارغ تماماً، تكسر جمودي اتصالات من إخوة كويتيين وإخوة بدون، يتصلون ليطمئنوا، فأطمئنهم وأخفي تحت لساني رعبي وشعوري الساحق بالذل، كسرتني قوات "الداخلية"، أذلني رجال الأمن الذين تناط بهم حمايتي، فتحوا باب الجحيم بلا مناسبة ولا دعوة، لاحقونا فاندلقت كراماتنا على الأرض، لنتراكض في ساحة الحرية، وكأننا "فلول" مطاريد.

Ad

كنت أقف مع إخوتي البدون، بنفسي تقدمت للحديث مع اللواء الدوسري، ثم تحدثت مع عقيد في إمرته والذي أكد لي أن بقاءنا خلف خط حدود المسجد سيضمن أمننا، قلت للعقيد، معنا أطفال، قال ابقوا خلف الخط وقولوا ما تحبون، لا تتقدموا إلى منتصف الساحة، تكونوا في أمان.

ذهبت إلى السيدات الواقفات مع أطفالهن، طالبتهن بالعودة لما خلف الخط المحدد، ووقفنا ننشد النشيد الوطني ونهتف بحب الكويت، لم تمر دقائق قليلة، وفي وجه الهتاف "سلمية، سلمية" انهمر الماء الحار وانفجرت القنابل الدخانية، هكذا، بلا مناسبة، حوطتني دائرة من شباب البدون يصرخون "احموا الدكتورة" في مفارقة صارخة الأسى، أنا هنا لنصرتهم، وهم يحوطونني لحمايتي، ركضوا بي عبر الشارع، أنا أصرخ "خلفنا النساء والأطفال" وهم يصرخون "اركضي الآن، معهم الشباب، وسنعود نحن لهم". أوصلوني لأمان الشارع المقابل للساحة المنكوبة، المئذنة ترتفع فوق الدخان الأزرق والأخضر، والناس جرحى يتساقطون حول بيت الله، على الرصيف المقابل وقفت أنتحب الذل والضعف والأسى، بينما يتصارخ الشباب للعودة إلى مظاهرتهم.

لا أذكر أنني في يوم ركضت فراراً كما ركضت اليوم، لم يحدث أن ذلني خوفي وأمسك الرعب بتلابيبي كما فعلا اليوم، أما إخوتي البدون، فحياتهم كلها فرار، كلها رعب وإذلال، كلها ركض، إن لم يكن في أروقة اللجنة المركزية، فبين أزقة تيماء، والجحيم واحد.

عندما يأخذ الخوف بتلابيب قلبك، تتغير، شيء ما في داخلك ينتفض ثم يموت ثم لا يبقى غير المرار والألم، هذان هما صحبة إخوتنا البدون اليوم.

التعذيب البطيء الطويل ثم التخويف الجسدي والنفسي، ثم العنف المباشر، ماذا يتمخض عنها؟ أقول لكم، فقد شاهدت النتاج بأم عيني، شاهدت الأمهات والأطفال وقوفاً في وجه المدرعات، وعندما أقول "إلا الأطفال"، يرددن علي "إنهم آخر الأمنيات وأعز التضحيات". هذا هو النتاج، أيها الساسة، أيها العسكر، أنتم تصنعون "موّاتين"، أنتم تنفضون عن النفوس أهم رغباتها الفطرية في الحياة واستمرار النوع، أنتم تخلقون انتحاريين، انتحاريين من نوع فريد، لا يرومون الموت من أجل هدف بل بسبب غياب الهدف واضمحلال الأمل، انتحاريين لا يريدون سوى قتل أنفسهم إن كان هذا هو الثمن للخلاص.

لن أنسى هذا اليوم الغائم الماطر ما حييت، فلن أنسى نداءات إخواني البدون لبعضهم بعضا ونحن وقوف في الساحة "لا يستفزونكم، التزموا النظام، وإن من يتعدى الحدود نسلمه للشرطة"، لتنفتح خراطيم المياه وتنفجر القنابل الملونة وتتعالى أصوت الطلقات.

لن أنسى السيدة التي سقطت أرضاً عباءتها تتخضب بالطين، ولن أنسى الرجال يوصلونني إلى بر الأمان ليعودوا إلى جحيم الأمل... تخيل عندما يصبح الجحيم هو الأمل، تخيل.