حياة الشاعر دائماً أقلّ بريقاً من قصيدته، لكنها تبقى أكثر صراحة على الأقل، تبقى كتاباً مفتوحاً على كل الاحتمالات، الفضيلة والرذيلة اللتان تمشيان جنباً إلى جنب في حيوات الشعراء تجعلنا نقرأ هذه التجربة الفريدة بما تستحقّ من الدهشة، فقد كان لدى الشاعرالكبير أحمد فؤاد نجم حظّ وفير من الحياة.

في الحلقات التي تنشرها «الجريدة» بدءاً من اليوم، تكمن التفاصيل التي سقطت من كتاب الطفولة الموحشة في الملجأ، العرق الذي تساقط من جبينه وهو يفلح الأرض التي سرقها عمّه، الأغنيات التي جلجلت في «حوش عيسى»، بقايا خبز جاف من طعام السجون. فمنذ عهد الزعيم عبدالناصر وهذا الرأس العنيد يكتب قصائده على جدران السجن كأنه يُصلي، هنا الأغاني التي ألهبت نصف قرن من دولة ما بعد الاستقلال، فإذا كان سيّد درويش وبديع خيري صنعا أغاني ثورة 1919، فإن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أشعلا - بالأغنيات - فتيل ثورة 25 يناير، منذ أربعين عاماً على الأقل.

Ad

يمرّ «أبو النجوم» أو «الفاجومي» أو «نجم»... على خطواته التي تجاوزت الثمانين عاماً، فتبدو حياته إجابة عن كل الأسئلة التي تطرحها الثورة، الظلم في كل الفصول، والمقاومة بالغناء والموسيقى في كل سطر، حياة تقول لقارئها إن الانتصار هو أقصر طريق للثوار، لكنه آخر ما يتمنّاه الجبناء.

وُلدتُ في عزبة «أبو نجم» في محافظة الشرقية ( شمال الدلتا)، وهي عزبة صغيرة تتكوّن من 21 بيتاً، قابعة في حضن ترعة «المُلاك» أحد فروع ترعة الإسماعيلية والفلاحون يسمّونها «ترعة الحلوة».

نحن فرع من عائلة «أبو نجم» الكبيرة، التي لا يربط بين أفرادها سوى الإقامة في مكان واحد، كلّهم كانوا يكذبون على بعض، يكرهون بعضهم لكنهم يتظاهرون بالمحبة، حالة من الانحلال الأخلاقي الواضح، تبدو دائماً في سلوكياتهم.

جدّي لوالدي مثلاً ارتكب خطأ فادحاً وذهب مع بعضهم إلى الحجّ فمات، وفي طريق عودته ألقوا جثته في البحر، وكان له ولدان هما أبي وعمّي ولكن عمي كان الأقوى فاقتنص أرض جدي كلّها وحرم أولاده اليتامى منها وأجبر أبناء أخيه على العمل مزارعين لديه في الأرض التي سرقها منهم، فانقسمت العائلة طبقتين، طبقة الأغنياء مُلاك الأرض وطبقة الفلاحين الفقراء - «أجريَّة» - هي نحن، نزرع أرضنا بالأجر والقهر والمهانة.

صنيعة أمي

من هنا وفي سنّ صغيرة، أدركت هذا كلّه وكنت أرصد هذه الحالة بوعي طفل فقير، زاده حدّته ما كانت تحكيه لي أمي كل ليلة عن الظلم الواقع علينا، هذا الوعي المبكر بوطأة الظلم والقهر ورفضي الشديد لهذه الطبقية المهينة حدّد موقفي في الحياة حتى الآن وشكّل عقلي ووجداني، والحقيقة أنه لولا أمي الرائعة البديعة المبدعة هانم مرسي نجم ما كنت وعيت ولا عشت ولا فهمت ما يدور حولي.

أنا من صُنع أمي التي علّمتني الحياة، حكَّاءة شديدة الثراء تستوعب وتُخزِّن وقلّما تبكي، كنت ألتصقُ لأنظر في عينيها، امرأة شديدة الجمال، سقط أبي في غرامها من أوَّل نظرة، على رغم أنها كانت صبية صغيرة تلعب في الشارع، أهل القرية جميعاً أشفقوا على هذه اليمامة الجميلة التي أخذها «وحش الفلا».

أحبت أمي أبي لدرجة أنها وهبته ثلاثة عشر بطناً، بينهم أربعة توائم، وأنا كنت في التوأم الأخير مع أختي فاطمة التي نزلت إلى العالم ميتة، كأنها وهبتني حياتها، أمي اتهمتني بقتل أختي، قالت إنني نزلتُ إلى العالم متهماً، وإنني نزلت من بطنها بقدمي لا رأسي، لدرجة أن أمي تعرّضت للموت ودخلت المستشفى، لكنها على رغم ذلك كلّه علّمتني الشعر.

أمي الرائعة في كل شيء حتى في طبخ العدس هي سرّ حبي لمصر، هي التي شكّلت وجداني والحمد لله أنها شهدت نجوميّتي قبل أن ترحل عن هذا العالم سنة 1971.

خصّتني أمي بحنان غير عادي فهي مدرّستي الأولى والأخيرة، وكانت تقول لي: «أنت الراجل الوحيد في ولادي»، وعلى رغم كثرة عددنا كانت تراقب سلوكنا وتعرف الجائع والخائف والمحتاج منا، وتعرف الشجاع، أي أم كانت تخاف على أولادها وتتمنّى لهم تجنّب المشاكل، ولكنه كان يسقط من نظرنا، أما أنا فلا يمكن أن أتراجع مهما حدث ودائماً كانت تنظر إلي بفخر وسعادة، وكانت ترفض أن أتراجع أو أنكسر مهما حدث.

جرحني أبي ذات مرة في روحي، «عّورني من جوَّاي» كما نقولها في مصر فقد كنت صغيراً أعشق لعبة كرة القدم، فمنعني من الذهاب إلى أصدقائي وعاقبني قائلاً «اقلع الجلابية اللي أنا جايبها لك» ومن دون تردّد «قلعت الجلابية» في الشارع وأمام الناس ورميتها في وجهه،  لكنني وقفت عارياً تماماً كما ولدتني أمي، وذهبت ولعبت عارياً وأحرزت أهدافاً وحين عدتُ الى أمي ارتميت في حضنها وبكيت، ساعتها قالت بكل انتصار «أنا فخورة بك».

كانت فخورة بي حتى وأنا أسبّب لها الأذى، فيوم ضربتني خالتي «فرحانة»، ضربتها أمي وأختي صفية وخالتي زنوبة بقسوة، وقضى العرف بأن ندفع غرامة «حق عرب» بقيمة مائة جنيه وطبعاً باعت أمي مصوغاتها لكي تدبّر المائة جنيه وأمام القاضي أنكرت أمي وقالت «أقبل شهادة الواد الصغير» وأشارت إليَّ فوقفت أمام القاضي وقلت ما حدث من دون كذب ففوجئت  بأمي «تزغرد» قائلة «تسلم البطن اللي شالتك» لأنني قلت الحقيقة، فتنازلت خالتي فرحانة عن حقّها.

غربة وملجأ

لا يمكن أن أنسى لحظة فراقنا الأولى، حين تقرّر أن أذهب إلى الملجأ، لحظة انسلاخ الروح من الجسد، لم أفهم آنذاك كيف تتركني أمي أذهب بهذه البساطة، لكنني فهمت بعدها أنها أرادت لي حياة أفضل من عيشة الفلاحين الفقراء، فضَّلت أن تراني بالقميص والبنطلون مثل أولاد عمي، حين خرجتُ من البيت بكيت بكاء مريراً طوال الطريق من أبو نجم الى الملجأ في الزقازيق، لكن طريقتها في التربية جنّبتني كثيراً من البكاء في ما بعد.

في الملجأ عشتُ حياة أخرى قاسية شعرتُ فعلاً بالغربة وحدث لي اضطراب نفسي وعصبي وأصبت بـ «التبول اللاإرادي» وكانت مربية الملجأ امرأة سويسرية قاسية، تضربني «بالخرزانة» بقسوة مفرطة عقاباً على ذلك، فمضت سنوات الملجأ من دون أن أتعلم شيئاً، عشرة أعوام التقيت خلالها المطرب عبد الحليم حافظ في الملجأ الذي تربّيت فيه، ولم يكن هناك سوى الغناء ولعب كرة القدم، لأتغلّب على حياة الملجأ.

صرت أشرس وأصلب ولم أنكسر، بسبب القدرة العجيبة على التكيّف مع أي جماعة، تعرّضت لمحاولات اغتصاب كثيرة لم تنجح كلّها لأنني عنيف وشرس، المصريون بطبعهم مغنواتية، أتمنى أن يقتنع العالم بأن الإنسان المصري هو أول إنسان تزوَّج الأرض وأنجب منها الخضرة، الفلاح المصري هو المعلّم الأول والعاشق الأول والمحارب الأول والمزارع الأول، وأن النيلَ حضارة والمصريين القدماء «حابي».

راديو وموسيقى

أمضيت في الملجأ عشر سنوات ولم أجد شخصية واحدة تؤثر فيَّ، ولولا فرق الموسيقى فيه كنت أُصبت بالجنون، فرقتان موسيقيتان رفعتا عن كاهلي كثيراً من وطأة الملجأ، الأولى كانت فرقة موسيقى نحاسية وقائدها كان محمد أفندي ندا، وفرقة وترية وقائدها محمد أفندي حنفي، وكان عازفاً ساحراً و{أهم حاجة كانت في الملجأ الراديو وكانت الإذاعة المصرية جامعة أخرى تعلّمت منها الكثير بعد أكاديمية أمي».

أنا أحد عشاق الراديو، كنت أتعامل معه وأنا صغير كأنه كائن حي و{كنت فاكر إن مذيعيه يعيشون داخل هذا الصندوق، لدرجة أنني عشقت صوت الشيخ محمد رفعت الساحر، وحين سمعته يقرأ سورة مريم قلت لأبي يا سلام لو الشيخ رفعت يفضل عندنا ويطلع من جوه الراديو يعيش معانا» فقال لي «قوم يا متخلّف يا ابن الكلب من جنبي».

كنت أتلهّف على الإجازة «لأجري» على حضن أمي الواسع، كانت تضمّني الى حضنها ونبقى صامتين لفترة طويلة أو قصيرة لا أدري ربما لتشحنَ قلبي بالحنان، وتعوّضني عن أيام الملجأ الكئيبة، وهي تحضنني كأنها تعتذر عن تفريطها في حرماني من طلّتها وحكاياتها وغناها وعديدها، وأنا الشاعر أعجز عن تجسيد هذا الحب لدرجة أنني لم أكتب قصيدة واحدة لأمي، ولكن أي قارئ فطن لأشعاري يستطيع أن يراها ويتلمّس تأثيرها ويعرف أنها تسكن قصائدي وأشعاري، هي قصيدتي الخالدة التي لم أكتبها بعد، أمي أورثتني العناد مهما كانت النتيجة، وكانت دائماً تذكّرني بقريحتها الشعرية:

«البين عملني جَمل

وإندار عمل جمَّال،

لوي خزامي

وشيَّلني تقيل الأحمال،

أنا قلت في نفسي يا بين

هوَّه الحِمل ده ينشال؟

قال وعدك ومكتوب

وكل عُقدة وليها عند الكريم حلاَّل».

أشعر كثيراً هذه الأيام بأن «ثورة 25 يناير» أحسن تكريم لروح أمي، التي لم أكتب لها ولو قصيدة، على رغم أنها تسكن داخلي، أهدي هذه الثورة إلى المرأة التي صنعتني وصنعتُها، ذاقت مرارات السنين لترى هذا اليوم الذي يجب أن «تُرد فيه المظالم».

قصيدة «صباح الخير»

صباح الخير على الورد اللي فتح

في جناين مصر

صباح العندليب يشدي

بألحان السبوع يا مصر

صباح الداية واللفه

ورش الملح في الزفه

صباح يطلع بأعلامنا

من القلعة لباب النصر

****

سلامتك يامه يا مهره

ياحباله

يا ست الكل يا طاهره

سلامتك

من آلام الحيض

من الحرمان

من القهرة

سلامة نهدك المرضع

سلامة بطنك الخضرا

هناكي وفرخة الوالده

تضمي الولد

يا والده

يصونهم لك

ويحميهم

يكترهم

يخليهم

يجمع شملهم

بيكي

يتمم فرحتك

بيهم

صباح الخير على ولادك

صباح الياسمين والفل

تعيشي ويفنوا حسادك

ويسقوهم

كاسات الذل

وبلغ يا سمير غطاس

يا ضيف المعتقل سنوي

بصوتك دا اللي

كله نحاس

صباح الخير

على الثانوي

وأهلاً بيكو في القلعة

وباللي في الطريق جايين

ما دامت مصر ولاده

وفيها الطلق والعاده

حتفضل شمسها طالعه

برغم القلعه

والزنازين

قصيدة «كلمتين لمصر»

كل عين تعشق حليوه

وانتي حلوه ف كل عين

يا حبيبتي

قلبي عاشق

واسمحي لي

بكلمتين

كلمتين يا مصر يمكن

هما آخر كلمتين

حد ضامن

يمشي آمن

أو مآمن يمشي فين؟

***

شابّه يا أم الشعر ليلى

والجبين شق النهار

والعيون

بحرين أماني

والخدود

عسل ونار

واللوالي في ابتسامتك

يحكوا أسرار المحار

يا للي ساكنة القصر عالي

إمتى يهنا لي المزار

كلميني يا صبية

طال على الانتظار

كلمتين يا مصر يمكن

هما آخر كلمتين

حد ضامن

يمشي آمن

أو مآمن يمشي فين

***

قصرك المسحور غيلانه

أغبى من دود الغيطان

بعد مص الغصن لا خضر

ينحتوا عضم العيدان

واللى خلاَّ الأرض خضرا

واللي خلاَّ الدار أمان

عاش بجوعه ملو جوفه

مات بخوفه م الغيلان

روحّ الغلبان ما قالشي

عن شقا العمر اللي كان

كلمتين لمصر يبقوا

هما آخر كلمتين

حد ضامن يمشي آمن

أو مآمن يمشي فين

***

آدي كلمه من عذابي قلتها لك

باقي كلمه

من حنيني صنتها لك

في الضلوع

من دنيا ظالمه

كنت خايف يلمحوها

يقتلوها ف سكة ضلمه

شقشقت والنور بشاير

زهرة الصبار يا سلمى

يا نسيم الشوق يا طاير

خد لمصر الصبح كلمه

طول ما يبقى الركب ساير

بالبصاير والعنين

يبقى ضامن

يمشي آمن

يبقى شايف

يمشي فين

سجن القناطر 1973