في الحلقة الرابعة من يوميات الثورة يحكي الروائي والصحافي المصري سعد القرش تفاصيل ليلة «جمعة الغضب الأولى»، من خطاب مبارك الفاتر الذي أجّج مشاعر الكراهية للنظام السابق إلى دخول أولى مدرعات الجيش وانسحاب رجال الشرطة من ميادين المعركة. كذلك يروي قصة حماية بعض الثوار لبعض مجنّدي الشرطة الغلابة الذين تركهم قوادهم فهتفوا سلميّة وطُوّقوا من الثوار إلى أن انسحبوا آمنين.

في الثورات يكون للخبر أو الشائعة دور بارز في رفع روح المقاتل المعنوية، وفي الإحباط والقتل المعنوي لمن لا قضيّة له، أو يكتشف أنه غُرّر به. كنا محاصرين في مسافة محدودة، وفوق الرصيف تناثرت قطع الزجاج، ومن التعب حاولت الاستناد إلى واجهة محلّ للملابس، فمنعتني يد رجل مسنّ، كان يحرس المحلّ بمعاونة شابين من المتظاهرين، وقال إن رصاص الشرطة دمّر واجهة المحل، ولا أحد حاول أن يسرق، وهم يتطوّعون للحراسة، حتى يأتي صاحبه. لم نسمع طلقات رصاص أخرى، لعلّ الرصاصات التي دمّرت واجهة المحل الزجاجية كانت آخر ما لديهم، نفدت الذخيرة، وبقيت المواجهة بالأجساد والعصي. في هذه اللحظة، صاح ثائر، وهو يشقّ الزحام، قادماً من ميدان عرابي، وجاء بالبشرى:

Ad

«الشرطة في الإسكندرية انضمّت الى المتظاهرين»

لم يكن يعنينا أن نتحرّى، فردّدنا الكلام فرحين، وسمعه الضباط والجنود، فتراجعوا عن إلقاء القنابل والهجوم بالعصيّ. لموا أنفسهم، ولزموا أماكنهم في الساحة المحيطة بدار القضاء العالي، وفي الوقت نفسه، ظلوا يمنعوننا من الخروج، كانت لديهم بقايا قوة تواصل فرض الحصار، لكي لا نتّجه إلى نقابتي المحامين والصحافيين، وحوصرنا ثانيةً في ميدان عرابي ومنطقة التوفيقية، لا تفصل بيننا وبين الجنود إلا دروع لا يستخدمونها، ومال بعضنا إلى جنود وقبّلوهم، وسألت أحدهم كم بقي له في خدمته؟ قال: 25 يوماً. ظننت المواجهة ستطول فقلت له: وتقف في هذه الجهة؟ وأشرت إلينا، وهو قال بتلقائية: «أروح بلدي في الصعيد».

وقف ضباط شباب صامتين أحياناً، ومتوسّلين ألا يتحرَّش أحدنا بالجنود، وكانت عيونهم زائغة، اختفى قادتهم، ولا قدرة لهم على التصرّف، والشمس تغيب، والليل يبتلعهم، هم والجنود، والثوار الذين بدا كثير منهم بعد الظهر في كامل لياقتهم، طبقاً للخبرة التونسية، ولديهم استعداد للمواصلة حتى الصباح، والجنود منهكين، والضباط الصغار يواصلون التوسّل، وحين يضيق أحدنا، ويشتد غضبه، يذكره زملاؤه بالصيحة ذات السحر «سلمية سلمية»، وهو شعار يستجيب له دائماً الثوار المتحمسون فيكبح غضبهم، ولا يجدي كثيراً مع وحشية الشرطة، ولا يعترفون به، وإن كانوا هم المستفيدين به، حين صاح أحدنا:

الجيش نزل، الجيش نزل، والشرطة انسحبت.

دائرة بشرية

أزاغت المفاجأة عيون الضباط الصغار، تخلّى عنهم رؤساؤهم، وحميناهم بدائرة بشرية تحول دون انتقام الغاضبين، تعالت صيحة «سلمية سلمية»، وكانت سيارتان تحترقان، إحداهما مصفّحة عند دار القضاء العالي، والأخرى بالقرب من نادي القضاة في شارع شامبليون.

تحرّرت شوارع وسط المدينة من قبضة الشرطة. مضينا نحو ميدان طلعت حرب، غير خائفين ولا ضائقين ببقايا آثار الغاز المسيّل للدموع. كان الميدان مزدحماً بمن لجأوا إليه من الشوارع المحيطة. صنع رصيف مكتبة مدبولي هلالاً في دائرة الميدان، في أوقات سابقة، قبل صعود ثورة 25 يناير، كنا نحلم بالتظاهر بأمان في هذه المساحة الصغيرة، من دون أن تناوشنا الشرطة، والميدان كلّه الآن لنا، خالٍ من أي أثر للشرطة، في ما عدا «كاب» ضابط، أو درع جندي، ولا فوضى ولا تخريب، أقبلت امرأة جميلة بصحبة فتاتين وشاب، وجمعوا في كيس من البلاستيك أي مخلفات من أوراق أو قطع حجارة، ثم عادت ومعها برتقالات تعطيها لمتظاهرين جفّت حلوقهم من الهتاف والعطش والجوع، وأعطتني واحدة، لم أكن أشعر بجوع ولا عطش، مددتها إلى الكاتبة سحر الموجي فقالت إنها لا تشعر بالحاجة إلى تناول أي شيء. وتحت تمثال طلعت حرب تربّع شاب، قال إنه طالب في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وسألني عما إذا كان امتحان الغد سيعقد، هو لم يستعد، ثم إنه لن يغادر الميدان، لا يريد ولا يستطيع، لإصابته بإعياء شديد، وقلق على نصر لم يكتمل، تذكّرت الضابط الذي أوصلته إلى الجامعة بسيارتي فجر الثلاثاء 25 يناير، وقلت إنهم أغبياء ولكن ليس لدرجة أن يفتحوا الجامعة غداً السبت. جاء الفنان التشكيلي محمد عبلة تسبقه ابتسامة النصر، واقترح أن يلتقط لي صورة في الميدان، ولست خبيراً بالتصوير، وهو أشار إلى وسط الميدان، وقال: «صورة مع هذا الرجل العظيم»، يقصد طلعت حرب، وهي الصورة الوحيدة التي التُقطت لي طوال أيام الثورة، إذ لم أفكّر في مثل هذا الأمر، ولا دعوت أولادي الى الميدان، إلا بعد ساعات من خلع مبارك. لم يطبع محمد عبلة صورتي الوحيدة طوال أيام الثورة، ولا أرسلها إليَّ بالبريد الإلكتروني، ثم قابلته في ميدان التحرير عصر الثلاثاء 12 أبريل 2011، ساعة فتح الميدان بعد إغلاقه أربعة أيام. كان يحتفظ بصفاء ابتسامته القديمة، وقال:

«لا تقلق، صورتك عندي».

عدت من شارع قصر النيل. كنت قد تعبت، ورأيت أن أتناول بعض النسكافيه، وأتواصل مع العالم الذي انقطعت عنا أخباره، أخبارنا، وكان صفان من جنود الشرطة المنهكين يفترشون رصيف شارع قصر النيل. قدمت لأحدهم برتقالة المرأة الجميلة، وكان جائعاً ممصوصاً مصفرَّ الوجه، تردّد فشجّعه زميل له على الرصيف الآخر أن يأخذ البرتقالة، وكان أحد عناصر الشرطة قادماً يحمل طبق حلوى من محل في الشارع، لا أدري هل أخذوها عنوة على رغم أنف صاحب المحل، أو هدية منه رحمة بجنود جياع. سألته هل هي للشرطة أم للشعب فيها نصيب، ابتسم، فاجأه الاجتراء على السؤال، أو روح المصالحة والتسامح بعد يوم دام. اعتبرت الابتسامة موافقة، ومددت يدي، والتقطت بإصبعي واحدة.

كان جابر عصفور يتحدّث إلى التلفزيون الرسمي، اتصلوا به أم بادر إلى الاتصال، لا يعنيني، سمعت صوته فاقتربت من التلفزيون، هذه نبرة صوته حين يميل الى إخراج بعض الحروف من أنفه، ويتخذ هيئة الحكيم، وهو الآن ينتقد الحكومة ويشدّد على فشل سياساتها، وكيف أدت إلى هذا الاحتقان، هو مثلنا يعلم أن رئيس الحكومة أحمد نظيف رجل طيب، قال حين فوجئ بالمنصب، قبل ست سنوات، إن لا علاقة له بالسياسة، ومواهبه تقنية لا تؤهله إلا لإدارة مركز اتصالات (سنترال)، أما قضايا السياسة فيعلم عصفور أنها بيد مبارك الكبير الذي كان في حضرته يوم 30 سبتمبر 2010، وفي يد مبارك الصغير الذي استجاب لاستدعائه مع آخرين، قبل دعوة الأب، وفي يد الأم سوزان التي يعمل معها في المجلس القومي للمرأة.

رأى عصفور النار تشتعل في أجسادنا، واكتفى بإسدال ستار، وتجاهل الدخان. انتقد أداء الحكومة، ولم يجرؤ على قول كلمة حق يؤيد بها الثوار. لم يتحدث عن عدالة مطالبهم، ولم ينتقد وحشية جهاز الشرطة، والخيانة المتمثلة في سحب عناصرها، وترك البلد للبلطجية. قال كلاماً عاماً، على رأي طه حسين «كلام كالكلام»، أقرب إلى البلطجة الناعمة. وفوراً، كتبت في صفحتي على الـ{فيسبوك»:

«جابر عصفور يمتلك جرأة بأثر رجعي، ويتحدث في التلفزيون المصري بشجاعة إمساك العصا من المنتصف، بما يليق بخادم سيدتين... جيهان السادات وسوزان مبارك».

بعد أربعة أيام أوغل فيها نظام مبارك في الدم، انتبه مسؤول مصري إلى أن ثمة شعباً يستحق شيئاً أكبر من اللامبالاة، كأن الجريمة تمس شعباً آخر، وقدّرت أن مبارك الرجل العجوز أصيب بغيبوبة، وحين أفاق أخفوا عنه خبراً يشغل كل الفضائيات العربية والأجنبية، وقلت إنهم أخفوا عنه الريموت كونترول، وثبتوا الشاشة على قناة مصرية يديرها وزيره مندوب المبيعات.

جاء خطاب مبارك نكتة باردة، مهينة تستخفّ بتضحيات الثوار. رفعت الثورة حرارة البلاد إلى درجة الغليان، لكن الخطاب الرتيب، الذي سمعنا مثله طوال 30 عاماً، كان في درجة الصفر، ثم إنه خلا من «فهمتكم»، الكلمة التي لم نكن ننتظر غيرها. أشفقت على الرجل الذي تكلم كثيراً ولم يقل شيئاً، بدا مجبراً وقد جيء به من تابوت، محنطاً يلقي كلمات تثقل عمره المثقل بلمسات المكياج.

أمسى التلفزيون الرسمي نافذة تتسوَّل كلاماً فارغاً يجيده أو لا يجيده عَجزةٌ ومريدون من إعلاميين ومثقفين وعابري كورنيش النيل، تحدّث جابر عصفور، وقد تهيأ للتوزير، قائلاً إنه مطمئن على الوطن في ظل الرئيس، لكن الحكومة أخطأت «وخطاب السيد الرئيس فيه إيجابيات ينبغي أن يرد عليها الشباب بإيجابيات».

انتظرت أن يقول مبارك: «فهمتكم» وينتهي الأمر فنستريح، نحن الشعب، والجيش جيشنا، أما البوليس الذي يخصّه فانسحب. لم يقل إنه فهمنا، بل اتبع سياسة النَفَس الطويل، والملل البيروقراطي الذي سيواجهه الثوار، في ميدان التحرير، بلافتات مستعارة من صلاح جاهين بصوت سعاد حسني «أكلّمه بحرارة... يردّ بالقطَّارة».

فاصل الذكاء

جاء خطاب مبارك مساء جمعة الغضب مؤكداً فرق التوقيت، فاصل الذكاء والزمن، بينه وبين الثوار، في البداية مال إلى مهادنة «المتظاهرين»، ثم قال «إن خيطاً رفيعاً يفصل بين الحرية والفوضى»، ثم أخيراً «طلبت من الحكومة التقدّم باستقالتها». لم يفهمنا الرئيس، أو فهم ثم أراد استغفالنا. لم نخرج لتغيير حكومة ليس لها صلاحيات، ولن يكون لغيرها. وفي اليوم التالي، كالعادة، وصفت «الأهرام المسائي» الحكومية الخطاب بالتاريخي، وخصّصت صفحة عنوانها «ترحيب شعبي واسع بخطاب مبارك»، وصفحتين تحت عنوان «يوم الغضب يسلّم البلد إلى اللصوص»، وجاء في الصفحة الأولى عنوان «ما حدث في المظاهرات يتجاوز النهب والفوضى والحرائق لمخطط أبعد من ذلك لزعزعة الاستقرار والانقضاض على الشرعية».

عدت إلى ميدان التحرير، كانت الشوارع مزدحمة بالناس، سواء الذين شاركوا في التظاهرات منذ الصباح، أو الذين أسعدهم النصر بتحرير المدينة، وأرادوا مشاركة الثوار فرحتهم. مررت بدار ميريت، كان أحمد زغلول الشيطي بعيداً في مواجهة الداخل، وعلى الجانبين شباب مُنهكون، بين نائم ونصف مستيقظ. لمحت بينهم شخصاً يبتسم ويناديني، في وجهه ملامح المخبرين السريين وضباط البوليس، لا يضحك للعيش السخن، تجنّبت الكلام معه في «الأهرام المسائي»، ولو بإلقاء تحية المساء، فنحن مسائيون. لا أحب الذين يعملون مع أجهزة الأمن، ويحصون على الآخرين أنفاسهم، ولا تدري أين تتّجه ولاءاتهم، وهل يكتبون للناس؟ أم عن الناس؟ لم أبادله الابتسام، ولا ردّدت حفاوة يشتري بها صمتي عن طبيعة مهامه إلا بإيماءة فاترة.

لم تكن الثورة قد غسلتني بعد، وصالحتني على صنوف البشر.

خرجت وفي يدي الشيطي. سألته كيف يسمح محمد هاشم لمثل هؤلاء بالدخول والبقاء، وربما المبيت، للتلصّص على الشرفاء؟ «بلغه أن يحذر هذا الشخص البغيض، وأن يسأل عنه محمد شعير»، وقال إن هاشم في الميدان، وكانت النيران تجوب غرف مبنى الحزب الوطني، وتصعد السلم أو تتسلل لأعلى من النوافذ، وتقتات الوثائق، وأشعل غاضبون النيران في سيارة صغيرة للشرطة، عند سور المتحف المصري، ثم في مصفحة للشرطة. قلت لإسلام عبد المعطي: ما الداعي لهذا؟ هذه السيارات ملك للشعب، سنشتري بدلاً منها بأموالنا. قال إن الدلالة مهمة، إبداء القوة، والقدرة على المواجهة، وأموالنا منهوبة بإحراق هذه السيارات أو من دون إحراقها، وهذا ثمن يجب أن تدفعه الثورة. أشار إسلام إلى مصفحة للجيش، ناقلة جنود برمائية أعرفها وركبتها كثيراً وأنا مجند في سيناء عام 1990، وقال إن فيها معتقلين من جنود الجيش. المصفحة تجاوزت سور المتحف والشارع الجانبي المفضي إلى بوابته، وتوغلت في الميدان بعمق بضعة أمتار. لم يطمئن الثوار، وقال أحدهم إن هذه المدرعة من الحرس الجمهوري، وخشوا أن تكون فيها أسلحة وذخائر للشرطة، وسألوهم عن وجهتهم، فقال الجنود إنهم يؤمنون المتحف، ولكنهم تجاوزوه. وبسرعة استولى الثوار على المدرعة، وصارت سجناً للجنود. رأيت ضابطاً شاباً، زاده الليل نحولاً، مثل ثوار يقفون بجواره فوق المدرعة، قال إنه «ملازم أول جيش»، وناشد الثوار أن يحرروا المحبوسين «في الدبابة»، لأنهم جنود في الجيش، لا الشرطة، هم إخوتكم، وجاؤوا لتأمينكم. صفّقنا له، وأُفرج عن الجنود، وكانت النيران قد أتت على السيارتين. علت صيحة «الجيش والشعب إيد واحدة»، ثم أصبحت شعاراً يلطف النفوس، كلما حاول أحد المتحمسين أو المندسين الوقيعة بين الجيش والثوار.

تضاعفت ثقة الثوار، إذ كسروا قرار حظر التجوّل، تجولوا في الشوارع، وتدفّق غيرهم إلى الميدان. اقترحت الذهاب إلى مبنى التلفزيون على النيل، مروراً بمبنى الحزب الوطني المشتعل، فلم يشجّعني إسلام عبد المعطي ولا أشرف راضي، مشيت خطوات باتجاه بوابة المتحف، وغابا عني في تلك الليلة، إذ لم تكن توجد تغطية لشبكات الهاتف المحمول. كنت قلقاً، أريد الاطمئنان على أن أحداً لم يقترب من المتحف، رأيت حديقته خالية تماماً، لم يتسلّل لص أو يحاول القفز من فوق السور، فقد تطوَّع العشرات من الشباب للوقوف في صفين أمام بوابة المتحف المواجهة لميدان عبد المنعم رياض، وهي بوابة لم أرها مفتوحة سابقاً، وتطوع آخرون وأغلقوا الشارع المؤدي الى البوابة الكبرى المطلّة على ميدان التحرير، أغلقوا الشارع بأجسادهم وبحاجز حديدي. أبرزت بطاقتي اتحاد الكتاب ونقابة الصحافيين، لكي يسمحوا لي ببلوغ البوابة، أحسوا بالحرج، فلو سمحوا لي فلن يغلق باب الطلب للوصول إلى البوابة، للاطمئنان أيضاً. وفي الساعة الثانية من فجر السبت وصلت طلائع الدبابات وسيارات الجيش تحمل الجنود، ودخلت سيارة حديقة المتحف، وعسكر الجنود، وسدت الدبابات أي باب إلى السرقة أو التخريب.

في صباح اليوم التالي (السبت 29 يناير)، بثّت القنوات الفضائية مشاهد تدمير وسرقة قطع أثرية نادرة، منها مقتنيات من جناح توت عنخ آمون، ولكن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار زاهي حواس نفى عملية السرقة أو الاقتحام الذي تعاد على العالم مشاهده التلفزيونية، وصرخت في من حولي نافياً أن يكون لص أو مهرب آثار قد اقتحم المتحف مساء جمعة الغضب، الشباب كانوا شجعاناً، وبنوا سدوداً منيعة، إلى أن وصل الجيش في الثانية فجراً، وقلت لأصدقائي إن السرقة تمت صباح السبت، على أيدي لصوص محترفين من الداخل، يعرفون جيداً قيمة القطع الصغيرة وأماكن عرضها. تضاربت تصريحات حواس الذي أصبح وزير دولة لشؤون (شجون) الآثار، ففي 13 فبراير 2011 قال إن «بعض المخربين تمكنوا من دخول المتحف يوم 28 يناير»، وفُقدت ثماني قطع، ثم قال في 3 مارس 2011، في يومه الأخير بالوزارة في حكومة أحمد شفيق، «إن التقرير المبدئي يسجّل اختفاء ثماني قطع، استعيد منها أربع». وأعلن المتحف المصري في تقرير رسمي يوم 15 مارس 2011، عن سرقة 54 قطعة في «جمعة الغضب»، معظمها تماثيل صغيرة.

وحين أعيد تعيين حواس وزير دولة لشؤون الآثار في 30 مارس 2011، انتقد كثر هذه العودة، ورآها البعض التفافاً على مبادئ الثورة، حتى أن خبير صيانة الآثار هاني حنا عزيز، عضو جبهة دعم الثورة، قال إن حواس «آخر شخص يصلح في مرحلة ما بعد الثورة لتولي هذا المنصب»، واتهمه بالإهمال في القيام بمهام وظيفته، وتضليل الشعب، «إذ يكفي التصرّف الفاسد الذي قام به، عندما أعلن سيادته يوم 29 يناير 2011، وبالمخالفة للحقيقة أن المتحف المصري في القاهرة لم يتعرض للسرقة، وأضاع فرصة البحث السريع عن القطع المفقودة («العربي» 3 أبريل 2011).

غادرت الميدان. لم يكن أطول ولا أشق من «جمعة الغضب» إلا يوم خلع مبارك في 11 فبراير. تركت ورائي البهجة في ميدان التحرير وشوارع وسط البلد التي لم تمسّها يد عابث، لأقطع الطريق سيراً على قدمي، من جسر قصر النيل إلى جسر الجلاء إلى شارع التحرير إلى جامعة القاهرة، أمامي وخلفي عائدون من ميدان التحرير، تنقص أعدادهم كلّما طالت المسافة. يثقل أجسادهم تعب، وتحمل أرواحهم نشوة الظفر. من وقت لآخر أسمع قدوم سيارات من الخلف، ولا قدرة لي على الالتفات. كان أصحابها يدعون المشاة للركوب معهم. روح جديدة ولدت في ساعات؛ فلا تكاد تقف على جانب الطريق، ومن دون أن تشير إلى صاحب سيارة، يتمهّل ويعتذر لأن معه ما يكفي من المتظاهرين. مرت ساعة من السير، بلغت جامعة القاهرة، واسترحت قليلاً، فإذا بسيارة فيها ثلاثة شبان، وقفوا وركبت، ثم سألتهم:

-  «فيصل؟».

-  «ينفع الهرم؟».

-  «طبعا ينفع».

صعدوا الجسر وهبطوا شارع فيصل. تحدّثوا عن تخريب شركات ومحال تجارية في حي المهندسين الذي يفصله شارع السودان عن أحياء فقيرة في منطقتي أرض اللواء وبولاق الدكرور. رأيت محال شارع فيصل على حالها، كما تركتها في الصباح، بما فيها محل للخمور، وقالوا إن التخريب طال بعض المحال التجارية والملاهي في شارع الهرم. عرّج الشبان يساراً إلى شارع الهرم، كانت واجهات الملاهي محطمة، ورأيت امرأة وصبياً يقفان على الرصيف، بجوار ثلاثة كراسٍ، وهي تميل برقبتها إلى بعيد تنتظر «توك تو»، وكانت ثمة سيارة أجرة تحمل مائدة مقلوبة، يتمهّل سائقها حسب طلب الراكب، وقد ربطها ولم يطمئن إلى ثباتها وتأرجح أرجلها الأربعة في الهواء، فأخرج يده من النافذة وأمسك بطرفها، ثم توقّفت السيارة قبل الوصول إلى شارع العريش.

على ناصية شارع العريش تشكّلت أول لجنة شعبية. كان كثر يقفون على جانبي الشارع، مسلّحين بسكاكين وعصي، أغلقوا الطريق، وتركوا حارة تسمح بمرور سيارة واحدة، وعلى الرصيف بعض المنهوبات المستردّة، إذ كانوا يفتّشون السيارة، بحثاً عن أي مسروقات، ويتفحَّصون بطاقة السائق ورخصة السيارة، ويسألونه عن هوية من معه. قلت في نفسي: «بدأت الثورة المضادة مبكراً، نظّم المخربون أنفسهم تلقائياً حين نجحت ثورتنا السلمية». اعترض مصطفى عبادة على مصطلح «الثورة المضادة»، وطالبني بالبحث عن مصطلح آخر؛ فالثورة فعل إيجابي نبيل، يخطّط له وينفذه ويموت في سبيله الشرفاء، أما الذين يعمدون إلى إفساد الثورة وتشويهها بعمليات تخريب، منظّمة أو عشوائية، فليسوا ثواراً. قلت ليكن المصطلح هو «القوى المضادة للثورة».

فتحت الباب، نزعت ثيابي المشبعة بعرق وغبار وبقايا بارود وغاز مسيّل للدموع، نقعت نفسي في ماء دافئ، أخذتني غفوة، وأفقت وأنا أتساءل: هل نجحنا حقاً؟ وحين فتحت التلفزيون جاءني صراخ رئيس تحرير جريدة «روز اليوسف» السابق عبد الله كمال الهستيري: «هذه ليست جمعة الغضب، هي جمعة الفوضى والتخريب».

أغلقت التلفزيون وتركت عبد الله كمال وحيداً في ظلام الصندوق، وأسلمت نفسي إلى النوم.