أعشق التاريخ ودروسه فأزور المتاحف التي تُعنى بحرفة معيّنة أو ساهمت في تغيير وجه الحضارة، وأفضل متحف زرته كان لشركة كمبيوتر عملاقة في وادي السليكون حيث شاهدت أول كمبيوتر بحجم قاعة صغيرة، ثم فهمت كيف تكوّنت الفكرة ونشأت من الترانزستور الصغير حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، لعلّي أذكر قصة ذلك يوماً ما ولا يخلو الأمر من العبر لصغار المخترعين من أبنائنا وبناتنا.

لأنني طبيب كثيراً ما كنت أزور متاحف طبية، وعادة ما تكون في بهو جمعية طبية أو في غرفة جانبية، فإذا دعيت إلى محاضرة في قاعة لم يسبق أن دخلتها تجوّلت لأقرأ بعض التاريخ، وأجد متعة في قراءة كل نبذة تكتب تحت صورة لطبيب أو لجهاز، وغالباً ما أعود إلى صديقتنا الشبكة العنكبوتية التي حلّت محل المكتبة العامة أو مكتبة الحي، اليوم حلّ مكانها غوغل، فأبحث أكثر في الموضوع إن كان مشوّقاً، وقد يذهب بي ذلك إلى متحف آخر.

Ad

قصّتي مع متاحف الحمل والولادة

في طفولتي ذهبت، وأنا في السابعة من عمري، إلى المتحف العلمي وكان في الديرة قرب المباركية، ورأيت فيه الأجنّة في برطماناتها كلٌ حسب عمره، فبقيت قصّة الحمل والولادة في مخيّلتي خصوصاً حين كان يحدّثنا أستاذ الدين عن العلقة والمضغة. ولما بدأت دراسة الطبّ وحان دوري لأتدرّب في قسم الولادة في الشويخ حيث تكثر طيور اللقالق على شاطئ المستشفى، لا أعلم إذا تغيّر المشهد اليوم عما كان عليه في تلك الأيام، هالني منظر كلابتين عملاقتين وضعتا حول رأس طفل لإخراجه على يد الدكتور بحر، وقيل لنا: هذا ملقط الحوض السفلي، أما الحوض المتوسط فقلّ استعماله. ثم شاهدت الولادة بالقمع الشافط الذي يلتصق بالرأس كشفاطة البالوعة المسدودة، ثم يستمرّ الطبيب في الشدّ بينما تدفع المرأة حتى يولد رأس الطفل.

سافرت إلى أميركا ورأيت لاقطاً قد أصابه الصدأ لا يختلف كثيراً عن ملقط الدكتور بحر، فقرأت التاريخ المكتوب عليه، فإذا هو من القرن الثامن عشر، وكان ذلك في المستشفى الذي تدرّبت فيه، فبقي ذلك في مخيّلتي، ولأن الدكتور بول فريدمان، مدير البرنامج الذي تدربت فيه، كان يهتم بالثقافة العامة لطلابه، كنا نستبدل المحاضرة الأسبوعية مرة شهرياً بموضوع خارج عن مجال الطب أو عن مجالنا الجراحي على الأقل.

نسبة وفيات مرتفعة

في السنة الأخيرة قبل تخرّجي أتانا طبيب في الثمانين من عمره، وكان أول طبيب يتخصّص في الولادة في مستشفانا وقصّ علينا تاريخ أميركا في هذا المجال. كانت محاضرة مشوّقة تمنيت لو متّعني الله بذاكرة هذا الرجل، إذ خلط في حديثه بين الطبّ والإسقاطات التاريخية والسياسية والاجتماعية، فكانت القصة في ظاهرها الولادة وفي داخلها تاريخ أميركا من المهاجرين الأوائل والملكيين والجمهوريين والحرب الأهلية والشمال والجنوب والعبودية.

لا أودّ أن أعيد محاضرته على الأسماع، إنما من العبر في ما قال أن بداية المرأة في أميركا لم تكن لترحمها، كان من الطبيعي في أوائل القرن الثامن عشر أن تلد المرأة من ستة إلى ثمانية أولاد، وفي كل مرة كانت الخطورة على حياتها من 1 إلى 2 في المئة، هكذا يقترب احتمال أن تموت المرأة أثناء إحدى ولاداتها من 12%. يعني ذلك أن امرأة من بين كل ثماني أو تسع نساء ستموت أثناء مخاضها أو بعده مباشرة، ويرتفع هذا الرقم في المجتمعات الفقيرة كالعبيد لتصل نسبة الوفيات إلى مريضة بين كل ثلاث أو أربع.

لم تكن هذه المشكلة الوحيدة إنما المشكلة الأكبر كانت مع الأطفال. آنذاك، كانت نسبة وفاة الطفل أثناء الولادة مرتفعة وبمعدل واحد كل ستة أطفال، العجيب في الأمر أن الولادات ظلّت حكراً على القابلات أو المولدات ولم يكن للأطباء دور فيها إلا مع بداية القرن السابع عشر حين ظهرت الملاقط لشد الرأس.

ذكرت الملاقط في الحضارات القديمة حيث استعملها القدماء لاستخراج جثث الأطفال الذين يموتون في رحم أمهاتهم إنقاذاً لحياة الأم، لكنها لم تتحوّل إلى طريقة لشد الطفل الحي إلا على يد الدكتور تشامبرلين وتبعه سميلي ولحقهما من ثم دكتور سمبسون، مخترع الملقط كما نعرفه اليوم في منتصف القرن التاسع عشر. كذلك استعرض الطبيب معنا كتابات النساء والأديبات اللواتي يعبّرن فيها عن خوفهن من الموت الذي ينتظرهن مع الولادة، وبيّن كيف كانت النساء الثريات يرفضن تكرار الحمل كثيراً خوفاً من الموت.

بعد ذلك تحدّث الطبيب عن دخوله مجال طبّ الولادة، وكان ذلك لأن جده كان طبيب النساء  الأرستقراطيات في بريطانيا، يوم كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وكن يستدعينه ليولدهن لأن الخوف، أجل الخوف، كان أن تموت الأم أثناء الولادة إذا علق الطفل في حوضها. وقد اشتهر جده باستعمال الملقط العالي، فكان يدخله إلى أعلى الحوض ويلتقط به الطفل حياً أو ميتاً ليخرجه.

لن تستوعب نساء اليوم ما كان يحدث في تلك الأيام، لكن لنتخيّل إحداهن وقد علق رأس الطفل أو مؤخرته وتقلّص رحمها إلى حدّ الانفجار ولا يتحرّك الطفل حتى ينفجر الرحم وتموت المرأة، أما إذا أسعفها الطبيب أو مولدة ذكية وخرج الجنين معافى أو غير معافى، بقيت الأم لتخرج المشيمة وبعدها يبدأ الرحم في التقلّص، فإن لم يتقلّص نزفت حتى الموت وإن لم يحدث نزيف لكن تلوّث المهبل وصعد التلوّث إلى داخل رحمها ماتت من حمى النفاس، وكان أحد أشهر أسباب الوفاة، ناهيك عن مضاعفات أخرى.

بالنسبة إلى الطفل كانت المصيبة ليس في وفاة واحد من أصل ستة أطفال فحسب بل في العاهات المستديمة التي قد تترك الطفل عالة على أهله، وكان ذلك مصدر انزعاج لدى الكثير خصوصاً الأسر الفقيرة.

منافسة مع القابلة

روى الطبيب كيف كان في منافسة شديدة على الولادات مع أشهر قابلة في المنطقة.  كان كل حي يحرص على استقطاب أفضل قابلة ويوفر لها بيتاً مجاناً مع راتب مغرٍ ويغدق الهدايا عليها. أما إذا كان الحي فقيراً فيعتمد أهله على النساء المسنّات ليحللن محل القابلات.

لفت الطبيب إلى أن قابلات كثيرات كن أفضل من الأطباء في الولادة الطبيعية، وكان يشعر بالغضب، في الثلاثينيات من القرن الماضي، حين كانت نساء كثيرات يفضّلن القابلات عليه، ولم يكن ثمة فرق بين نتائجه ونتائجهن، حسب تعبيره، فبينما كان يعطي هو أدوية الألم لمريضاته استعملت القابلات الكحول لإزالة توتّر مريضاتهن، وقد دفع استعمال جرعات كبيرة من المخدّر إلى أن تتحوّل الولادات تدريجاً من البيت إلى المستشفى بعد أن كانت قلة من النساء تقصد المستشفى لهذه الغاية، ومع بداية الحرب العالمية الثانية كان نصف الولادات يتم في المستشفيات مع ذلك لم تكن أكثر أماناً.

ما غيّر ذلك كلّه هو ظهور المضادات الحيوية التي منعت الوفاة من حمى النفاس وبدء عمليات نقل الدم عند النزيف، فأنقذت حياة كثيرات، لذلك يعود الفضل الأكبر إلى هذه المضادات في حماية الأمهات. لم تكن هذه النتائج بفضل علاج حمى النفاس أو النزيف فحسب لكن من خلال العمل على تجنّب حدوثها أيضاً. وأذكر ما قاله الطبيب إنهم بدأوا يهتمون بالتعقيم والنظافة وأدركوا أنه كلما طالت الولادة والمعاناة زادت فرصة حدوث النزف، فبدأوا يتدخلون مبكراً.

جراحات قيصريّة

ذكر الطبيب أنه يوم تقاعده لم تكن الجراحات القيصرية بكفاءة اليوم نفسها، لكنها أنقذت حياة كثيرات، وتعجّبت حين عرفت أن قدماء المصريين كانوا أول من استعمل الجراحات القيصرية لإخراج الأطفال الأحياء من رحم الأم التي ماتت أثناء المخاض، فسبحان الذي يخرج الحي من الميت. تطوّرت الجراحات القيصرية وانخفضت نسبة الوفاة فيها من 90% في القرن السابع عشر إلى صفر تقريباً اليوم مع تطوّر التعقيم وتوافر الدم وتحسّن طريقة غلق الرحم بالخياطة.

حين ختم الطبيب حديثه بالكلام عن الأشعة الصوتية وكيف اندثر وجود القابلات مع تمكّن الأطباء من عرض صور الأجنّة على الأمهات وإسماعهن ضربات قلب الطفل، تذكرت دكتور بحر وهو يضع قمعاً من المعدن على بطن امرأة حامل ثم يطلب منا كطلاب أن ندلي بآذاننا لنسمع دقات قلب الجنين، قبل أن تتوافر لدينا الأشعة الصوتية لنرى الجنين. فأين كنا وأين أصبحنا؟

واجبنا اليوم أن نمنع الخطر عن الأم ثم الجنين، من الأفضل أن نبدأ الرعاية مع أول الحمل، فالمرأة التي لا تعاني من مشاكل قبل الحمل أو خلاله سيمضي بها الحمل على خير كما سيقلل الخطر على جنينها. من الضروري  قياس السكّر بأسلوب علمي صحيح وليس بأي طريقة وفي وقت صحيح من الحمل، كذلك مهم جداً مراقبة الضغط والبول، تتبع ذلك تغذية صحيحة من دون إفراط، والأشعة الصوتية هي جزء لا يتجزأ من متابعة الحمل لمراقبة الجنين والمرأة في آن، لتجنّب أي مخاطر حتى تلك التي تتعلّق بتعسّر الولادة أو غيرها.

ينبغي التخطيط للولادة جيداً ومناقشة كل طريقة وخطرها ونتائجها. ما لا يعرفه كثر اليوم  أن ولادة واحدة من كل أربع إلى خمس ولادات تتم بطريقة الجراحة القيصرية لأنها تنقذ حياة الجنين وأمه في غالبية الأحيان، وقد أدى تكامل ما ذكرت آنفاً إلى انخفاض نسبة وفاة المرأة في الولادة إلى أقل من 2% في أفضل المراكز وانخفاض وفاة الأجنة إلى أقل من 1%.

وضوح

أتمنى اليوم أن يكون ثمة وضوح لدى الأم وطبيب الولادة حين تدخل المرأة مخاض الولادة خصوصاً أننا نرى ولادات كثيرة تبدأ بأمر الطبيب من خلال ما يُعرف بالتحاميل المنشّطة أو الطلق الصناعي.

الوضوح مهم في مراحل الولادة كافة وهي ثلاث: الأولى هي مرحلة اتساع عنق الرحم تتم فيها مراقبة الطفل، فإن أصيب بالتعب، كما يتّضح من تخطيط قلب الجنين، لا ينبغي أن يكون القرار للطبيب في الانتظار على الجنين من عدمه، بل قرار الأم بعد أن تفهم حجم المخاطرة التي تأخذها، إن فضّلت هي الاستمرار في الولادة الطبيعية، ليس عليها فحسب بل على الجنين أيضاً. كثيراً ما أرى ولادات لأطفال تعبوا جداً لأن الطبيبة تفضّل الولادة الطبيعية وهذا مقبول شرط أن تفهم الأم أن هذا الأمر قد يعرّض ضناها للخطر.

أما المرحلة الثانية من الولادة فتحدث منذ اتساع عنق الرحم الكامل حتى خروج الطفل. قد يضطر الطبيب إلى الجراحة القيصرية إذا تعسّر نزول الطفل في ما يسمى الولادة المسدودة الطريق، وعاقبتها إن استمرت أن ينهَك الرحم فلا يعود إلى التقلّص ويحدث النزيف واحتمال إصابة الطفل من مروره في الحوض الضيق كحصر الكتف أو حتى الرأس أحياناً، قد ترافقه مشاكل للطفل هو في غنى عنها.

المرحلة الثالثة هي مرحلة خروج المشيمة وأخطر ما فيها النزف سواء الشديد المباشر نتيجة عدم تقلّص الرحم، أو النزف البطيء نتيجة بقاء جزء من المشيمة في الداخل أو لأي سبب آخر. وهنا من الضروري ألا تغيب المريضة وأن تتابع حالتها مع الطبيب بعد الولادة.

أودّ أن أختم المقالة بالحديث عن علاج الألم، ففي أوائل القرن العشرين، كما أسلفنا، كان التركيز على الأدوية والعقاقير، ثم ظهر استعمال إبرة فوق الجافية وتُعرف بإبرة الظهر وقد ثبتت فائدتها الكبيرة في تسهيل الولادة، لكننا نشهد اليوم توجهاً نحو العودة إلى الولادة الطبيعية، لا سيما أن ثمة نساء كثيرات يفضّلن الخضوع لتدريبات خاصة بالحمل بما فيها اليوغا وغيرها من التحضير البدني والذهني للولادة من دون أدوية، وهي لا تنطبق على الجميع إلا أن ثمة كثيرات من مريديها.

نتمنّى لكل امرأة حامل ولادة آمنة لطفل بصحة جيدة وندعوها إلى المشاركة في القرارات كافة التي تتعلق بها من اختيار طريقة الولادة أو التغيّر في مراحل ولادتها.