الفن في دائرة التنافس الرمزي

Ad

تردد أن العائلة الحاكمة القطرية اشترت إحدى لوحات «لاعبو الورق» لبول سيزان بمبلغ كسر سائر الأرقام القياسية، وهو 250 مليون دولار على أقل التقديرات.

إذ نقل بعض وسائل الإعلام أن الأسرة القطرية تغلبت على اثنين من أكبر تجار الأعمال الفنية الأميركيين، اللذين ظلا يلهثان لوقت طويل لشراء هذه اللوحة من مالكها الراحل الآن ملياردير الشحن البحري اليوناني جورج إيمبريكوس.

لعل مقتني لوحات بول سيزان «لاعبو الورق» كان يدرك أن بين يديه ثروة كبيرة، لذا كان يمتنع عن إعارتها إلى المتاحف إلا في حالات نادرة، ورفض بيعها حتى عندما عرض عليه مبلغ 220 مليون دولار قبيل مماته في العام الماضي. فور وفاته، تحركت عائلة آل ثاني القطرية لاقتناء اللوحة، فدفعت لورثته ما لا يقلّ عن 250 مليون دولار... مبلغ أسطوري بالنسبة إلى المواطن العادي، لكن يبدو أن أمراء بعض الدول الخليجية يعيشون في هذه الأيام مرحلة الصراع الثقافي الرمزي، فإذا كانت دبي مثلاً قد حطمت الرقم القياسي من خلال بناء برج خليفة الأعلى في العالم، وأبو ظبي تحاول أن تكون عاصمة الفن المعاصر وهي ستفتتح متحف اللوفر عام 2015، يبدو أن الدوحة تسير على خطى منافسة لها، فهي تبني متحفاً للفنون المعاصرة وآخر للفن الإسلامي تبلغ مساحته 35 ألف متر مربع، نسبة 11 بالمئة منها لعرض المقتنيات. سيكون هذا المتحف الأكبر من نوعه فى العالم، وقد صممه المهندس بعدما استوحى تصميم مسجد ابن طولون فى القاهرة.

لا تغيب عن البال حقيقة أكيدة وهي أن متحف الفن الإسلامي في الدوحة، إضافة إلى مجموعة المتاحف التي يجري إنشاؤها في أبو ظبي ستغير ملامح ميدان المتاحف في العالم جذرياً. هل يمكن لمتاحف الخليج أن تستعيد بعض الرموز الثقافية العربية الإسلامية والشرقية التي «استولت» عليها أوروبا بطريقة أو بأخرى ووضعتها في واجهة صروحها الثقافية؟ هل يصبح لمقتنيات المتاحف الخليجية جمهورها أم أن المشهد سيبقى في إطار الصراع الرمزي؟!

يكاد يجمع مؤرخو الفن على أن بول سيزان يعصى على أي تعريف حتى وإن كان يعتبر دائماً قاسماً مشتركاً بين الانطباعية وما بعد الانطباعية، وينظر إليه على أنه أحد أعمدة الحداثة الفنية التي أوصلت القرن العشرين، فنياً، إلى ما هو عليه. كذلك ثمة من ينظر إلى سيزان على أنه كان أعظم رسام منذ رحيل رمبراندت، على اعتبار أن الفن قد تبدل كلياً على يديه ومن بعده. يقول هؤلاء إن من أهم ما ميزه هو «إدراكه التام للطبيعة المرتبكة لمسألة الإدراك البشري».

اللوحة التي اشترتها الأسرة الحاكمة في قطر من سلسلة «لاعبو الورق» هي إحدى لوحات سيزان الرئيسة، استمر يعمل عليها بين الأعوام من 1890 و1895، فهي بمثابة مقدمة لإنجازه الإبداعي في سنواته الأخيرة.

بحسب الناقد ابراهيم العريس، لم يكن موضوع لعب الورق جديداً في عالم الرسم آنذاك. فمنذ القرن السابع عشر، كان رسامو المشاهد الداخلية، لا سيما في الشمال الأوروبي، قد استثارهم دائماً منظر مجموعة من الناس متحلقين حول طاولة مهتمين معاً بأمر واحد، هو غالباً لعبة يلعبونها معاً، أو طعام يتناولونه. كان سيزان نفسه قد اكتشف في متحف «إيكس آن بروفانس»، وجود لوحة تمثل لاعبي ورق، مجهولة الرسام، تعود الى عصر سابق.

على رغم أن موضوع لعب الورق كان سائداً في اللوحات، لكن معالجة سيزان له تختلف جذرياً عن  لوحات الحانات التي كانت منتشرة في القرن الثامن عشر في فن الرسم الهولندي والفرنسي، ويبدو أن ما حدث كان على النحو التالي. فبينما كان الرسام يفكر في اختيار موضوع لا بد من أنه تساءل مع نفسه كيف يستطيع أن يصور أشخاصاً يتعامل أحدهم مع الآخر بصورة طبيعية، ومع ذلك تبقى اللوحة محافظة على تلك البنية التي كانت سائدة في مناظر الحياة الساكنة والداخلية التي كان يرسمها سابقاً؟ كانت الإجابة اختيار مشهد من الحياة اليومية لا يتحرك فيه أحد، مشهد لعبة الورق. في أي موضوع آخر للرسم يمكن لأشخاص عدة أن يظهروا جالسين حول مائدة يواجه أحدهم الآخر ومن دون أن يتحدثوا أو يتبادلوا الإشارات أو حتى أن يرفعوا من أبصارهم؟ هذا الموضوع ليس سوى لعبة الورق، كل لاعب مستغرق في دراسة الأوراق في حوزته إلى درجة أن افتقاره إلى الحركة وغياب حتى أقل تعبير على ملامحه يدل على رد فعله تجاه منافسيه سيبدو حالة طبيعية، وهذه اللعبة هي التي وجدها سيزان أقرب ما يكون إلى الحياة الإنسانية الساكنة، في مقابل حياة الطبيعة والأشياء الساكنة. يبدأ المشهد عام 1890 مع النسخة الأولى من «لاعبو الورق» المحفوظة حالياً في متحف ميتروبوليتان.

سيرة

يتحدر بول سيزان من عائلة ذات جذور فرنسية أصيلة استقرت في منطقة دوفين ذات المياه الغزيرة، على شواطئ البحر المتوسط في الجنوب الفرنسي قريباً من منطقة الألب الإيطالية. ولد في إكس دو بروفانس في عام 1839، اكتسب الده ثروة كبيرة من تجارة القبّعات وتمتع هو بشخصية صلبة واعتداد بذاته.

التحق الفنان بمعهد البوربون وارتبط بصداقة وطيدة مع زميله إميل زولا الذي أصبح كاتباً مشهوراً، وكان يشجعه على تحقيق ميوله الفنية. تابع دراسته فالتحق بمعهد الحقوق تحت ضغط والده وإصراره، وفي الوقت نفسه كان يتابع دورات خاصة في الرسم والتصوير عند رسام كان تلميذ الفنان دافيد، فوجّهه إلى مشاهدة أعمال فناني إيطاليا خلال القرنين السادس والسابع عشر، وانجذب إلى لوحة لاعبي الورق للفنان الفرنسي لونان.

عام 1861 فاز بجائزة منحة تخوّله الذهاب إلى باريس لدراسة الرسم والتصوير، وحال وصوله انتسب إلى الأكاديمية السويسرية وهي معهد خاص يقدم الخبرة الفنية فحسب ولا يمنح شهادة رسمية معترفاً بها. بعد ذلك، قابل الفنان كميل بيسارو ومن خلاله تعرف إلى مجموعة كبيرة من الفنانين الشباب وارتبط بصداقة وثيقة مع كل من: مونيه، بازيلل، رينوار، سيسلي، وهم من الفنانين الثوريين الذين كانوا يبحثون عن التجديد ويعتبرون «مؤسسي اتجاه التأثيرية» وأصبحوا أصدقاءه المخلصين.