آلة سحريَّة توفّر علاجات جديدة وكمبيوترات خارقة!

يأمل فريق أبحاث يعمل ضمن «مشروع الدماغ البشري» بناء نموذج إلكتروني كامل عما يدعوه رئيس المشروع «آلة سحرية». ويسعى هذا الفريق إلى الحصول على منحة قدرها مليار يورو من الاتحاد الأوروبي لتنفيذ هذا المشروع، الذي قد يؤدي إلى علاجات جديدة للأمراض، فضلاً عن كمبيوترات خارقة متطوّرة ورجال آليين أذكياء.

Ad

«شبيغل» تناولت هذا الاختراع غير المسبوق...

تدخل عقل هنري ماركرام تيرابايت معلومة في الثانية أو ربما أكثر. عندما يلتفت إلى اليسار، يرى برج التلفزيون الرفيع في برلين. أما أمامه، فتوزّع نحو ستة صحافيين أولوه بعضاً من اهتمامهم. كان ماركرام بعينيه الزائغتين يسمع صوت أقلامهم وهي تخط الملاحظات، وضجيج شارع كارل ماركس في الخارج. كذلك، دغدغ أنفه عبق الربيع في هذه المدينة الكبيرة. يستطيع ماركرام هنا، في وسط مدينة برلين، التحدث عن عمله. وعلى رغم كثرة النشاطات التي يقوم بها في الوقت نفسه، لا يحتاج دماغه إلا إلى عشر الطاقة التي يستهلكها الكمبيوتر المحمول الموضوع أمامه.

تشكّل هذه الإنجازات وهذه الفاعلية سبب افتتان ماركرام، عالم أعصاب فيÉcole Polytechnique Fédérale في لوزان بسويسرا، بالدماغ البشري. ويأمل ماركرام وفريق من العلماء من تسعة بلدان أوروبية في إماطة اللثام عن أسرار الدماغ خلال هذا المشروع الضخم الذي يرأسه ماركرام.

لا نفي هذا المشروع حقّه إن وصفناه بالطموح. فهدف مشروع العقل البشري، إعداد نموذج كامل من دماغ الإنسان بواسطة كمبيوتر خارق. وينوي العلماء الاستعانة بالبيانات التي يجمعونها ليحققوا تقدماً ملموساً في معركتنا ضد مرضَي ألزهايمر وباركنسون، فضلاً عن إمكان تطوير كمبيوترات خارقة جديدة.

يذكر ماركرام: «هذا أحد التحديات الثلاثة التي تواجهها البشرية. فعلينا أن نفهم الأرض والفضاء والدماغ. علينا أن نفهم ما يميز البشر عن سائر الكائنات».

حاجة إلى دعم سياسي

يقوم ماركرام، الذي وُلد في جنوب أفريقيا، بجولة في مختلف المدن الأوروبية الكبرى للترويج لمشروعه. ويحذو نحو ستة علماء ألمان حذوه، محاولين لفت الانتباه إلى هذا المشروع. لا شك في أن هذا الأخير مهمة ضخمة تحتاج إلى تمويل كبير. ولتأمين المبالغ المطلوبة (تقدّم المشروع بطلب منحة من برنامج دعم تابع للاتحاد الأوروبي يُدعى مبادرة FET Flagship)، يحتاج العلماء إلى دعم سياسي.

تبلغ قيمة هذه المنحة مليار يورو (1.42 مليار دولار) موزّعة على عشر سنوات. لكن هذا المشروع يواجه منافسة من خمسة اتحادات أخرى تسعى إلى الحصول على تمويل من بروكسل. وتشمل مشاريعها استخدام الغرافيم (صفائح من الكربون فائقة الرقة) في تكنولوجيا الكمبيوتر، أنظمة المساعدة الآلية (أو ما يُسمى المرضى الإلكترونيين) التي تُستعمل لابتكار علاجات فردية واختبارها. سيُختار مشروعان العام المقبل. وفضلاً عن البراعة العلمية، سيشكّل التمثيل الجغرافي النسبي أحد المعايير التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي في توزيع المال.

يبدو العلماء والباحثون العاملون في مشروع الدماغ البشري (علماء أعصاب ووراثة وكمبيوتر وخبراء علم الروبوتات والخبراء الأخلاقيون) متفائلين. فإحدى أبرز نقاط القوة التي يعتمدون عليها واقع أن مشروعهم يساهم في تحسين المعارف الراهنة. فقد أنتج نحو 200 ألف عالم أعصاب حول العالم ملايين المقالات العلمية. يوضح ماركرام: «هذه المعلومات مجزأة. آن الأوان لنجمعها معاً».

خيبة أمل

يبدو هذا المشروع عموماً مثيراً للاهتمام. لكن المشاريع الكبرى، مثل مشروع الدماغ البشري، لا تتطلّب مبالغ ضخمة فحسب، إلا أنها تزيد التوقعات، خصوصاً في ما يتعلق بالتقدّم في مجال معالجة الأمراض العضال. قبل وقت ليس ببعيد، طُرح مشروع الجينوم البشري، إلا أنه لم يحدث تغييرات تذكر في معالجة المرضى. فما زال داء ألزهايمر يبتلي البشرية، ناهيك بمرض باركنسون والتصلّب العضلي الجانبي (الذي يُعرف أيضاً بمرض لو جريغ).

هل يؤدي مشروع الدماغ البشري إلى خيبة أمل مماثلة؟ يستبعد العلماء المعنيون هذا الاحتمال بإصرار، ويعزون ذلك إلى أن التطبيقات العملية يجب أن تبدأ في مرحلة باكرة من المشروع. تشمل هذه مبادئ تصميمية جديدة لكمبيوترات توفر استهلاك الطاقة أو رجال آليين حديثين. وفضلاً عن تقديم معلومات وافرة عن مجال البحث الرئيس، يوضح العلماء أن مشروع العقل البشري سيولد مشاريع جديدة في وقت باكر.

علاوة على ذلك، يذكر ماركرام أن تطوير علاجات جديدة بطيء نسبياً لأن شركات الأدوية عاجزة عن تحمّل كلفة الاستثمارات الكبيرة الضرورية. لذلك، تراجع، حسب قوله، عدد براءات الاختراع المطلوبة لعلاجات خاصة بأمراض الدماغ. ويمكن لمشروع الدماغ البشري أن يبدّل الوضع. فيمكن للشركات أن تستخدم نموذج الدماغ الناجم لاختبار أفكار جديدة.

موجة من البيانات

يولي العلماء اهتماماً خاصاً بالقشرة المخية. يُعتبر هذا الغشاء على الجهة الخارجية من الدماغ (لا تتعدى سماكته المليمترات) أحد أهم عوامل تطوره. لذلك، يُشكل نقطة انطلاق الجهود الرامية إلى معرفة ما يجعلنا بشراً والعثور على حلول عندما يقع خطب ما. يبني دماغنا نسخته الخاصة من العالم في القشرة المخية. فلا يدخل معظم ما نراه الدماغ عبر العينين، بل يستند إلى انطباعات دماغنا وخبراته وقراراته.

سبق لماركرام أن أنهى عملاً تحضيرياً بالغ الأهمية لمشروعه هذا من خلال مشروع Blue Brain الذي يُعتبر محاولة لفهم التركيبة الجزيئية لدماغ الثدييات وابتكار نماذج عنها. فقد أعدّ نموذجاً عن جزء صغير من دماغ فأرة على مستوى الخلايا يُدعى عمود القشرة المخية المتطورة. تتوافر ملايين هذه الأعمدة على السطح وتنتج كل منها نغمة، إذا صح التعبير. عند تحفيزها، تولد هذه الأعمدة كافة معاً معزوفة. ويشكّل فهم تصميم هذه الأعمدة إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى علماء الأعصاب.

من الضروري فهم قواعد التواصل بين الخلايا العصبية، فهي لا تتواصل عشوائياً، بل تتبع أنماط تواصل محدد. تتقاطع محاور الخلايا العصبية عند ملايين النقاط المختلفة، حيث تشكّل مشبكاً. ويتيح هذا الأخير للخلايا العصبية التواصل في ما بينها. في مقال نُشر أخيراً في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences، يوضح ماركرام أن هذه الوصلات تتطور من دون أي تأثير خارجي، ما يشير على الأرجح إلى نوع من معرفة فطرية يتمتع بها البشر كلهم. ويطلق عليها ماركرام اسم «قطع ليغو» الدماغ، مشيراً إلى أن كل فرد يبني عالمه مستنداً إلى معرفته الفطرية.

انتهاء النموذج بحلول 2023

لا شك في أن إعداد نموذج عن كل هذه التفاصيل الدقيقة مهمة بالغة التعقيد. فيشمل نموذج ماركرام الحالي عشرات آلاف العصبونات. إلا أنه لا يزال بعيداً جداً عن اكتشاف سر دماغنا. لبلوغ هذه الغاية، على العلماء أن يعدّوا مجموعة كبيرة من النماذج المجتزأة الأخرى التي تُجمع لاحقاً لتشكّل نموذجاً كاملاً وفاعلاً مطابقاً للدماغ بحلول عام 2023.

من المتوقّع أن تؤدي الكمبيوترات الخارقة في مركز يوليش للأبحاث قرب كولون دوراً مهماً في هذه العملية. فستطلب عملية محاكاة الدماغ كمية هائلة من البيانات أو ما يدعوه العالم ماركرام «موجة عاتية من البيانات». وأحد التحديات التي يواجهها العاملون تحت إشراف توماس ليبرت، رئيس مركز يوليش للكمبيوترات الخارقة، التوصل إلى طريقة تجعل الكمبيوتر يعالج جزءاً فقط من البيانات في وقت محدد من دون الإغفال عما تبقى منها. كذلك، عليهم أن يطوّروا طريقة تصوير، مثل مجسم وظيفي ضخم ثلاثي الأبعاد، لإظهار حجم البيانات الهائل.

يكفي أن ننظر إلى عمل عالمة الأعصاب في مركز يوليش، كاترين أمونتس، لنفهم مدى ضخامة المعلومات التي يشملها هذا العمل. يتولى الفريق الذي ترأسه مهمة رسم خرائط مفصلة للدماغ. ولتحقيق هذا الهدف يقطعون الدماغ إلى 8 آلاف شريحة ويعدّون نسخاً رقمية منها بواسطة آلة مسح عالية القدرة. يتألف نموذج الدماغ المعدّ بهذه الطريقة من مكعبات متوازية المستطيلات حجم كل منها 10 ميكرومترات X 10 ميكرومترات X 20 ميكرومتراً. أما حجم البيانات فهو 3 تيرابايت. تذكر أمونتس أن خرائط الدماغ العالية الوضوح ستتألف على الأرجح مما يفوق السبعمئة تيرابايت. وعلى سبيل المقارنة، تمتع الكمبيوتر الخارق «واتسون»، الذي هزم المتسابقين الآخرين في برنامج الألعاب Jeopardy في الولايات المتحدة في شهر فبراير، بذاكرة فاعلة حجمها 16 تيرابايتاً.

لا شك في أن هذا الكم من المعلومات يبدو ضئيلاً بالنسبة إلى دماغنا. وفي حين ينهار الكمبيوتر حين يعاني عطلاً ما، يبدو أن دماغنا يتصرف بطريقة معاكسة. يوضح ماركرام: «على رغم أننا نخسر 10 آلاف عصبون (الخلية العصبية) يومياً، نزداد حكمة. لا شك في أن الدماغ آلة سحرية».