أطاح القذافي بالملك إدريس السنوسي قبل 42 عاماً من دون إراقة دماء، ومع أن تقدم الثوار على ذلك النحو المذهل داخل طرابلس، فإن الأمر بدا وكأنهم عازمون على تطبيق نسخة صحراوية من أسطورة تدمير الآلهة الألمانية، والإلقاء بنظام القذافي إلى النيران، ولكن هذا الاحتمال لم يعد مرجحا، ومن الأهمية بمكان أن يبدأ المجلس الوطني الانتقالي الآن حكم البلاد فعليا.

Ad

وأخيرا، بلغت المرحلة الأخيرة من الصراع الليبي منتهاها، فقد وقع قسم كبير من العاصمة الليبية تحت سيطرة الثوار، مع دخول الجيش المتمرد ذاته إلى العاصمة من كل الاتجاهات.

إن العجز العسكري الذي تتسم به القوات الموالية للعقيد معمر القذافي- والذي كان واضحاً لمدة أسبوع- كان يسير بالتوازي مع الفوضى السياسية المتنامية التي أظهرها النظام، فقد انشق عدد من كبار المقربين من القذافي؛ وأحدثهم نائب وزير الداخلية ناصر المبروك عبدالله، الذي فَرَّ إلى القاهرة وبصحبته تسعة من أفراد عائلته، ثم بعد بضعة أيام وزير النفط الليبي عمران أبو كراع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، والآن تمكن الثوار من أسر عدد من أبناء القذافي، وكما فعل صدّام حسين في عام 2003، فمن الواضح أن القذافي لجأ إلى أحد المخابئ.

ما الذي قد يحدث الآن إذن في ليبيا بعد القذافي؟ قبيل حرب العراق نبه كولين باول وزير الخارجية الأميركية آنذاك الرئيس جورج دبليو بوش قائلاً له "ما تكسره فعليك أن تتحمل ثمنه"، ولكن بوش تجاهل تحذير باول، ولم ينقض وقت طويل قبل أن يراقب العالم في رعب، وقد بات من الواضح أن أميركا لم تكن لديها أي خطة تفصيلية لحكم أو إعادة بناء العراق في مرحلة ما بعد صدّام حسين. وما حدث بدلاً من ذلك هو أن البلاد عانت حربا بشعة خاضها الجميع ضد الجميع، وخلفت آلافاً مؤلفة من القتلى.

ولكن هل نستطيع أن نزعم أن بلدان حلف شمال الأطلسي التي أخذت على عاتقها شن التدخل العسكري في ليبيا أفضل استعداداً لإعادة بناء ليبيا المدمرة؟ من حسن الحظ أن أهم أحجار البناء التي لم تكن متاحة للرئيس السابق بوش- حكومة شرعية تتولى المسؤولية- متاحة الآن في ليبيا.

فقد تم تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، الذي تأسس في فبراير بواسطة تحالف من الثوار في بنغازي، تحت قيادة مصطفى عبدالجليل، الذي استقال من منصبه وزيراً للعدل في حكومة القذافي في السادس والعشرين من فبراير رداً على الحملة العنيفة التي شنها النظام ضد المتظاهرين السلميين. ولكن هل يتمكن المجلس الوطني الانتقالي من ممارسة السلطة وضمان الأمن لليبيين العاديين، وبالتالي منع تكرار عمليات الثأر الدموية التي حطمت العراق بعد سقوط صدّام؟ بوصفي رئيسة لجمعية الصداقة اليابانية الليبية، قررت أن أتوصل إلى الإجابة عن هذا السؤال بنفسي. ففي الخامس من أغسطس وفي وقت متأخر من الليل، قمت بزيارة عبدالجليل في البيضاء، التي تقع على بعد 200 كيلومتر تقريباً من بنغازي، ولقد وصلت إلى المنزل الصغير الذي يقطنه رئيس المجلس الوطني الانتقالي بعد منتصف الليل، وذلك لأننا في شهر رمضان، حيث يصوم المسلمون أثناء النهار.

ولقد قدم لي عبدالجليل الذي كان يرتدي الزي الليبي التقليدي مقعداً أحمر وثيرا، في حين جلس هو على كرسي خشبي بسيط. والواقع أن سلوكه المتواضع كان متناقضاً بشكل صارخ مع سلوك القذافي، الذي كان يجلس دوماً على أريكة فاخرة أشبه بالعرض عندما يستقبل ضيوفه.

ولِد عبدالجليل في عام 1952، ولقد اتخذ بعض الخطوات الأولية لإقامة حكم القانون حتى في ظل زعامة القذافي، ومن المعروف عنه أنه أعلن أمام العقيد القذافي ذاته قائلا: "أنا أتخذ قراراتي بناءً على القانون". كما عمل قاضياً لعدة سنوات بعد دراسة الشريعة والقانون المدني في جامعة ليبيا. وبعد عمله رئيساً للمحكمة العليا في البيضاء، تم تعيينه وزيراً للعدل في عام 2007.

ويقترح البعض أن عبدالجليل قد يكون إسلامياً أصولياً نظراً لدراسته للشريعة، ولكن إن كان الأمر كذلك فهذا يعني أن جميع القضاة في البلدان الإسلامية أصوليون، وذلك لأنهم جميعاً درسوا القانون المدني والشريعة الإسلامية، ولكن الكيفية التي يتعامل بها مع الأصوليين الإسلاميين في بنغازي والبيضاء وغير ذلك من المناطق، حيث يزعمون أن إسهامهم في النصر يعطيهم الحق في الإدلاء بدلوهم في إقامة النظام الجديد، سوف يقرر بدرجة كبيرة مصير ليبيا.

والواقع أن عبدالجليل لا يعطي الانطباع بأنه يريد أن يكون أول رئيس لليبيا بعد القذافي، ولكن إذا كان عبدالجليل رجل المثل فإن محمود جبريل، رئيس الهيئة التنفيذية للمجلس الوطني الانتقالي، رجل الأفعال. ولِد جبريل في عام 1952، وحصل على درجات في الماجستير والدكتوراه في جامعة بيتسبرغ بعد تخرجه في جامعة القاهرة. كما عمل أيضاً كمستشار إداري في بلدان عربية، فضلاً عن إدارة أصول الشيخة موزة زوجة أمير قطر، وتحت نظام القذافي تولى جبريل رئاسة المجلس الوطني والهيئة الوطنية للتنمية الاقتصادية.

كانت الضربة الأكبر التي تلقتها حكومة المجلس الوطني الانتقالي المؤقتة منذ تأسيسها اغتيال القائد العسكري الثائر الجنرال عبدالفتاح يونس. والواقع أن الملابسات التي أحاطت بمقتله لا تزال غامضة، ولكن وفاته كانت سبباً في إجراء تعديل حكومي، فأقيل وزير المالية والنفط علي الترهوني ووزير الخارجية علي العيساوي.

ولعل إقالة العيساوي كانت مرتبطة بتقارير مفادها أنه أصدر تعليمات باعتقال يونس قبل اغتياله بمدة وجيزة، ولقد أثار مقتله الخوف من اندلاع حرب قَبَلية، لأن يونس ينتمي إلى قبيلة عبيدة القوية، والتي يعيش أفرادها حول بنغازي.

والواقع أن الحكومة المؤقتة، التي تمكنت من منع اندلاع أعمال عنف قَبَلية، أثبتت أنها ربما كانت قادرة على منع أشكال العداوة كتلك التي اجتاحت العراق. إن الحفاظ على التعاون بين القبائل المسيطرة في كل منطقة سوف يشكل شرطاً أساسياً لبناء دولة ليبيا المستقرة بعد رحيل القذافي.

ورغم أن المجلس الوطني الانتقالي لا يتمتع بالوحدة الكاملة، فإن عبدالجليل وجبريل يلعب كل منهما دوره المؤثر في إطار الجهود الرامية إلى ترسيخ المنظومة المحلية وتأمين الدعم الدولي، ومن بين اللاعبين الآخرين، هناك نجل الملك إدريس السنوسي، ونجل عمر المختار، البطل الذي قاد حركة المقاومة ضد الاستعمار الإيطالي قبل مدة طويلة، ولكن أياً من هذه المطالبات بالسلطة على أساس الانتماء إلى مثل هذا النسب لا تبدو قادرة على تجاهل إرادة الشعب الليبي في انتخاب زعيمه المقبل ديمقراطيا.

أطاح القذافي بالملك إدريس السنوسي قبل 42 عاماً من دون إراقة دماء، ومع أن تقدم الثوار على ذلك النحو المذهل داخل طرابلس، فإن الأمر بدا وكأنهم عازمون على تطبيق نسخة صحراوية من أسطورة تدمير الآلهة الألمانية، والإلقاء بنظام القذافي إلى النيران، ولكن هذا الاحتمال لم يعد مرجحا، ومن الأهمية بمكان أن يبدأ المجلس الوطني الانتقالي الآن حكم البلاد فعليا.

لا شك أن التجارب التي خاضها حتى الآن جعلته في وضع أفضل لقيادة التحول الديمقراطي الناجح بما يتجاوز إدراك أغلب المراقبين.

* وزيرة الدفاع والأمن القومي اليابانية سابقا، ورئيسة المجلس التنفيذي للحزب الديمقراطي الليبرالي حاليا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»