تعلّمت آن لونغ الكثير عن الإصغاء، فهي خبيرة اجتماعية في التواصل مع الآخرين. يشكِّل كتاب «الإصغاء»، الصادر عن «دار المشرق» في بيروت، نقطة تحوّل هامّة في حياة كثيرين لأنه نتيجة عمل دؤوب قامت به المؤلّفة مع فريقها على مدى إحدى عشرة سنة بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية.

Ad

كثيرون هم مَن يبحثون عن أذن تصغي إليهم، إلاّ أنهم لا يجدونها لدى الآخرين لأن هؤلاء يتكلمون في الوقت الذي يجدر خلاله أن يصغوا. وإن وجدنا أنفسنا نستمع فإننا لا نصغي من أعماقنا، وقد صدر كتاب «الإصغاء» ليعلّمنا طريقة الإصغاء إلى أنفسنا، وإلى الآخرين، وإلى العالم، وإلى الله.

الإصغاء إلى الآخرين

ما نأتي على ذكره في هذا المقال هو كيفيّة تناول المؤلفة عملية «الإصغاء إلى الآخرين». كما يقول بونهوفر في إحدى محاضراته: «بداية الحبّ بين الإخوة هي تعلّم الإصغاء إليهم».

في مطلع هذا القسم تروي آن لونغ قصّتها مع مريم، وهي أمّ لأربعة أولاد، فقد كانت تشعر بحزن عميق في الآونة الأخيرة، إلى أن أمضت مع المؤلّفة بعضًا من الوقت ثم، بعد مرور ثلاثة أسابيع عادت لتتقاسم معها ساعة أخرى من وقتها. وعندما سألتها عن حالها بعد اللقاء، أجابت: «أنا كمن أفرج عنه وغادر السجن».

التمتع بفرصة التكلم أمام شخص يصغي إلينا يشعرنا بأنه قد أُطلق سراحنا. فالإصغاء هو أمر مريح للغاية، ذلك أننا في بعض الأحيان، ما نحتاج إليه بشدة ليس النصائح والتوجيهات، بل معرفة حضور شخصٍ ما بقربنا، يقبلنا تمامًا كما نحن، ومعرفة أننا بعد كل شيء لسنا وحدنا.

يبدو هذا الأمر بسيطًا، وهو كذلك أحيانًا، مع أنّ الإصغاء ليس مجرّد التقاء العينَيْن. إذا كانت بعض السمات التي يجب أن يتحلّى بها المصغي تأتي طبيعيًّا، فبعضها الآخر لا يتمّ تعلّمه أو العمل عليه. وحتّى إنّ المصغي الجديد في هذا المجال يمكنه أن يطوّر هذه الموهبة كي تصبح خدمةً أعمق وأغنى لأنّ الإصغاء عمليّة متعدّدة الأبعاد. الاستماع إلى الكلمات التي يبوح بها شخصٌ ما هو الحصول على وجهٍ واحد فقط من أوجه التواصل. وللشخص مستويات أخرى يجب أن يتمّ الاستماع إليها وفهمها: طريقة كلامه، ومشاعره، وتفكيره، وتصرّفاته، وجسده، وصمته. هذه كلّها أبعاد الشخص الذي علينا أن نتعلّم الاستماع إليه إذا رغبنا في فهمه.

الوعي الشخصي

نحتاج أيضًا إلى أن ننمّي وعينا الشخصيّ مثل طريقة الإصغاء إلى الآخرين. هل أنا أقاطع المتكلّم كثيرًا؟ هل أطرح عليه أسئلة مساعِدة أم تافهة؟ هل أستطرد بإخبار قصّتي الشخصيّة وأسيطر على الحديث؟ لا نكون غالبًا واعين لِما قد يساعد فينا، أو لِما قد يعرقل عمليّة الإصغاء إلى الشخص الذي يحتاج إلى هذه الأذن المصغية. إضافةً إلى ذلك، فإن الإصغاء لا يتوقف على الإصغاء وحده. أين قد أذهب مع شخصٍ ما بعد أن أصغي إليه؟ فبعد كلّ شيء، عليك أن تعرف بعض الإجابات التي ستقدّمها إلى الناس، أليس كذلك؟ قال سمير بينما كنّا نناقش قيمة الإصغاء: نعم، لكن إجابات مَن؟ المستمع؟ المتكلّم؟ بعضًا من الإثنَيْن؟ من السهل أن نقدّم اقتراحات عدة، وإرشادات، وحلولاً، وبما أنّ للإرشادات والنصائح حصّة كبيرة في هذه العمليّة، فإنّه لأمر مهمّ جدًّا أن يكتشف الشخص ما الذي يحتاج إليه بشكلٍ خاصّ بدل أن يحصل على إجابات الآخرين التي قد لا تناسبه شخصيًّا.

يتطوّر المصغون الجيّدون وينمون من خلال تعلّم التأمّل في الأسئلة والصعوبات التي تنشأ لا محال بين أطراف العلاقة الإصغائيّة. على سبيل المثال، ما الذي أقوم به عندما ترهقني أسرار الآخرين وتحزنني؟ ماذا أفعل عندما أبلغ حدود صلاحيّتي في الاستماع إلى تجارب شخص ما؟ كيف أعالج الإفراط في الاعتماد على الآخرين؟ قد تكون هذه الأسئلة إضافةً إلى غيرها أسئلة غير مريحة تذكّرنا أنّه، لأجل الانخراط في خدمة الإصغاء، نحتاج إلى موارد روحيّة وشخصيّة.

إذًا، هذه كلّها وجوه يجب أن نأخذها بعين الاعتبار عندما نفكّر في الإصغاء إلى الآخرين.

الإصغاء رسالة

ثمة ثلاث صور تصف رسالة الإصغاء، التي هي خدمة في أساسها، وهي الموهبة، وحسن الضيافة، والشفاء. فالإصغاء إلى شخص ما، لمدّة خمس دقائق أو خمسين دقيقة، موهبة كبيرة وعظيمة، لا بل إنّها الأعظم. في مؤتمر عن الحرمان، تشارك رجل دين عجوز وشريكه تجربته في الخسارة الشخصيّة. ببساطة، أصغى زميله إليه بانتباهٍ كامل. ثمّ تحدّث رجلُ الدين عن «الرفاه المطلق» في عمليّة الإصغاء إلى شخصٍ ما، لمدّة عشر دقائق كاملة! كان عرضًا صغيرًا ولكن كافيًا، ومع أنّ الموهبة التي حصل عليها كانت القبول والأهمّية التي قُدِّرَت وأُخِذَت على محمل الجدّ مثلما يصغي شخصٌ قيّم إلى آخر. عندما يتمّ الإصغاء والاستماع إلى الآخر بهذه الطريقة، نعلم أنّنا مهمّون- ليس عند الشخص الآخر فحسب، بل عند الله الذي يبرز حضوره وتوافره في المصغي. إضافةً إلى ذلك، غالبًا ما تتحوّل هذه الموهبة لتصبح تبادليّة بدل أن تكون أحاديّة، لأنّ المصغي، في عمليّة العطاء، يأخذ أيضًا ثقة الشخص الذي يتحوّل إليه وائتمانه له، وضعفه.

حسن ضيافة

الإصغاء، إضافةً إلى أنّه موهبة، هو أيضًا حسن الضيافة، أيْ تقديم المكان الذي يشعر فيه الفرد بأنّه مرحَّب به وفي مأمن، حرّ ليكون نفسه، وليتمكّن شخصٌ آخر من الإصغاء والاستماع إليه. لا ينطلق هنري نوين من فكرة «تغيير الناس، بل من تقديم المكان المناسب إليهم حيث للتغيير دور... ليس حسن الضيافة دعوة دقيقة لتبنّي نمط حياة المضيف، بل فرصة الضيف لاكتشاف موهبته الخاصّة».

من السهل أن ندعّم كلامنا بنصائح جيّدة قبل أن يُطلَب إلينا ذلك، وهي الحلّ الذي قد يجده المصغي مساعدًا جدًّا له ولكنّه قد لا يناسب المتكلّم. نحتاج إلى حسّ الخادم أو إلى التواضع لتقديم مكاننا الشخصيّ أوّلاً، بدلاً من كلماتنا الخاصّة؛ مكان نكون فيه حاضرين بشكل كامل ومتوافرين أمام مَن هو بحاجة إلى أن يتمّ الإصغاء إليه. ما يثير الاهتمام هو أنّ حسن الضيافة ليس خياريًّا، بل هو إجباريّ. مع ذلك، فإلى جانب الإصغاء، تصبح الموهبة متبادلة لا أحاديّة. ففي توفير حسن الضيافة، يحصل المضيف أيضًا، بشكل مفاجئ، على أمور من زائره.

صحيح أنّ حسن ضيافة الإصغاء قد يكون مكلفًا لأنّ المكان المقدَّم يجب أن يكون حقيقيًّا، كما أنّه عليّ أنا المصغي أن أضع جانبًا مخاوفي وهمومي وانشغالاتي كي أصبح حاضرًا ومتوافرًا بكلّيّتي أمام الشخص الآخر. لا يمكننا أن ندّعي حسن الضيافة، لأنّ كلّ شخص حسّاس سيشعر بذلك ويتراجع ظنًّا منه أنّه يضايقنا.

كتب الخبير الاجتماعي الأميركي جون باول:

«لا يمكنني أن أظهر فقط أنّني مهتمّ بك وبما تقول، في حين أكون في الواقع غير منتبه، تصرفني عنك أمورٌ أخرى. عليّ أن أختبر وأمتثل للواقع كما يناسبك، وأن يكون وقتي، وعقلي، وقلبي ملكك وألاّ يكون من شيء أشدّ أهميّة عندي في العالم كلّه الآن سواك أنت».

إذن، فإنّ هذا النوع من الإصغاء يتطلّب الصدق. إنّه العمل بنوعيّة أكثر من الكميّة، ويمكن اختباره في فرصة اجتماع أو في اتّصالٍ هاتفيّ. إنّه مرتكز على حضورنا الكامل مع الآخر وانفتاحنا لله نيابةً عنه. وعندما كان الطبيب السويسريّ بول تورنييه في فترة الممارسة العامّة، ظنّ أنّه يعرف كلّ شيء عن مرضاه إلى أن بدأوا فجأة يكلّمونه على مستوًى أعمق. قال: «المستوى الذي يكون فيه المرضى حاضرين للتكلّم وإيّانا يعتمد على مستوى توافرنا لهم». هذا الاستعداد لوضع مخاوفنا وهمومنا جانبًا مكلف، لكنّه يُعطى من دون حساب، وقد يبدو للشخص الذي يحتاج إلى أذن مُصغية مثل الانتقال المفاجئ من شارع بارد ومظلم إلى منزل دافئ ومضياف.

الشِّفاء

إضافةً إلى الموهبة وحسن الضيافة، فإنّ الإصغاء شفاء أيضًا. تقول المؤلفة آن لونغ: «كنتُ شخصًا كتومًا يصعب جدًّا عليه أن يثق بأحدٍ ما كي يتقاسم وإيّاه سوداويّة أيّامه ومخاوفه التي لا يريد أن يملكها. وبعدما وجدت من يصغي إليّ مطوّلاً في مكانٍ محبّ ومضياف تأمّن الشفاء للنواحي المتألمة في داخلي، وشعرت بأن أحدًا لم يصغ إليّ سابقاً في حياتي بهذه الطريقة، وهذا ما كان بحدّ ذاته شافيًا».

كتب المربّي نوين: «يختبئ الشفاء، أوّلاً، خلف مكان فارغ ولكن ودّيّ، حيث يستطيعُ المعذّبون أن يتلوا قصّتهم لشخصٍ يصغي إليهم بانتباهٍ تامّ».