انتهت المعركة ولم تنتهِ الحربالصراع هو الفعل الملازم للسياسة، مبني داخلها، ولا يبدو أن هناك إمكانية للفكاك منه. وأياً كانت طبيعة النظام السياسي، أو شكله الخارجي، أو محركاته الداخلية، فإن الصراع هو عنصر الثبات الذي لا يتغير. ولذلك جاءت الديمقراطية في سبيل تقنين ذلك الصراع، حتى لا يتحول إلى عملية إفناء للطرف الآخر، كما كان سائداً قبل دخول الديمقراطية إلى حياة البشر، على الرغم من كل المثالب المعروفة للعملية الديمقراطية. وهكذا جاءت معركة الاستجواب الأخيرة للشيخ أحمد الفهد نائب رئيس الوزراء، في سياق الصراع المحتدم بين فئات وشرائح اجتماعية، وبين بعض أقطاب الأسرة في الحكومة من جهة، وكذلك الصراع المتنامي داخل الأسرة نفسها، وبالذات ذلك المعلق بين سمو رئيس الوزراء ونائبه من جهة أخرى، دون التقليل من صراعات أخرى صغرى جانبية.وكما هو الحال في أي صراع سياسي، وبالذات في إطار معركة مكررة معروفة المداخل والمخارج كالاستجواب البرلماني، فإن الأطراف فيه تتعدد، يتوافق بعضها على موقف معين دون أن يكون بالضرورة متفقاً مع موقف هنا أو موقف هناك.ففي يوم الثلاثاء الماضي، كان نائب الرئيس على موعد مع وضع لا يحسد عليه، حيث تعرض «لاستجواب بلا منصة»، وفقد في حيثيات ذلك الهجوم أعز ما يملك، وهو الانطباع المجتمعي عنه بقدرات فائقة يملكها على التصدي ومواجهة الخصوم، وبالتالي لم يعد له ما يتباهى به على أقرانه من الوزراء الشيوخ، خسارة ربما نحتاج إلى جهود كبيرة لترميمها وإعادة تجميعها، وهكذا كانت نقطة قوته المفترضة بتصويت أو أغلبية هي نقطة ضعفه، والتي لن يتمكن من استعادتها بتصويت هنا أو أغلبية هناك، فقد تجاوز وزراء من قبله اختبار الاستجواب وحتى طرح الثقة وهم، أو على الأقل كان يفترض أنهم، كانوا أضعف منه.جاء الاستجواب في سياق مرتبك، منقطع ومتصل في آن واحد، فقد جاء بعد محاولة سابقة أدت إلى استقالة الحكومة، ظهر فيها للعلن، وخلافاً لما كان قد أعلنه نائب الرئيس من أنه سيصعد المنصة وسيواجه، بأنه لعب دوراً أساسياً في إقناع أولي الأمر باستقالة الحكومة، كما جاء بعد التصويت على إحالة الاستجواب الموجه لسمو رئيس الوزراء إلى المحكمة الدستورية أو تأجيله لمدة سنة، ومن ثم إبداء سمو الرئيس استعداده لصعود المنصة في الاستجواب الثاني وعدم وضوح موقف نائب الرئيس، كانت الأمور ملتبسة في حدها الأدنى ومرتبكة وقلقة في حدها الأقصى. وحسب ما أفادت المعلومات المتواترة، وحتى صباح يوم الاستجواب فإن الحكومة كانت عازمة على إلقاء بيان تحدد فيه موافقتها على صعود نائب الرئيس مع طلبها إحالة محورين إلى اللجنة التشريعية، إلا أن نائب الرئيس بذل كل ما في وسعه لإيقاف الاستجواب وتحويله بالكامل إلى التشريعية، ولذلك وبسبب الارتباك وعنصر المفاجأة ارتكبت أخطاء لائحية واضحة، إذ لم يتم تقديم خطاب منه يوضح سبب طلب الإحالة.قد تكون مجريات الاستجواب وقدرات المستجوبين المتميزة، وربما قوة محاوره نفسها، حتى قبل البدء فيه قد أعلنت سراً شائعاً عن خلاف حاد بين سمو الرئيس ونائبه، كل منهما يريد إزاحة الآخر عن طريقه، وحالة الارتباك التي ظهرت، ومحاولة فرض بدائل غير متفق عليها تفسر حالة القلق والتوتر التي انتابت اتجاهات التصويت، والتحولات التي بدت غريبة بين النواب أنفسهم، حالة الارتباك التصويتي النيابي تتضح عندما نقارن بين اتجاهات التصويت قبل شهرين تقريباً على إحالة الاستجواب الموجه ضد سمو الرئيس إلى المحكمة الدستورية أو تأجيله لمدة سنة، ففي حين انسحب 15 عضواً من الجلسة، استنكاراً حتى لمبدأ التصويت حينذاك، وهو موقف متشدد بامتياز، فاجأنا ثلاثة من النواب المنسحبين ليصوتوا بالموافقة على إحالة استجواب نائب الرئيس إلى التشريعية، مع العلم أن شعار اللاءات الثلاث كان مرفوعاً حينئذ، لا إحالة إلى الدستورية، لا جلسة سرية، لا إحالة إلى التشريعية. وفي المقابل فإن كان 23 نائباً صوتوا لمصلحة سمو الرئيس حينذاك مؤيدين لإحالة الاستجواب إلى المحكمة الدستورية، فإن 6 منهم اتخذوا موقفاً أقل وطأة، فكان أن صوتوا ضد إحالة استجواب نائب الرئيس إلى التشريعية، وهنا لا أظن أننا في حاجة إلى تركيز كبير لكي ندرك درجة «ناصرية» الستة نواب في رسالة واضحة من سمو الرئيس لنائبه. أما وسائل الإعلام فالغالبية منها ركزت في عناوينها الرئيسة على موقفها من الصراع، فجاءت معلنة عن نفسها دون رتوش، فهي إما «أحمدية» وإما «ناصرية» وإن كانت الغلبة للأخيرة. كما أكدت معركة الاستجواب أن السياسة لا دين لها، فالسياسة هي موازين قوى ومناورات، وما إقحام الدين فيها إلا إضعاف للاثنين معاً، هناك بالطبع 13 نائباً ونائبة صوتوا بالموافقة مع الإحالة، سواء لسمو الرئيس أو نائبه، مقابل 18 نائباً ونائبة اتخذوا موقفاً معارضاً ضد الإحالة للرجلين. وبالتالي إن كان هناك من رقم استرشادي لنائب الرئيس حول احتمالات المستقبل فعليه أن يستخدم هذين الرقمين، وأي منهم قابل للزيادة والنقصان في اتجاه نهاية طريق المعركة التي قد تنتهي بطرح الثقة.المؤسف بالنسبة إلى الشيخ أحمد الفهد أن الطريق محفوف بالمخاطر، والحفر السياسية، والاحتمالات المفتوحة، فالتحولات في مواقف النواب، وضعف أدائه في «الاستجواب بلا منصة» لن تمنحه القدرة على الحسم، ولربما كان ذلك وراء ما تردد من شائعات حول خبر استقالته.ومع أن الحالة الصراعية داخل الأسرة الحاكمة هي حالة مستمرة، لم تتوقف منذ أكثر من قرن من الزمان، كما أنها لن تتوقف بسبب الطبيعة الصراعية للعملية السياسية، إلا أنها في ما مضى من الزمان، كانت تنتهي بالحسم الذي يوقف، على الأقل، الصراع العبثي في الدوائر العليا للقرار، بما يقلل من التأثير على المسارات المحورية لإدارة الدولة، فالصراع مستمر ولكن دون تأثير على الإدارة العليا. أما ما نشهده اليوم فهو حالة صراع عبثية تستمتع بالتكتيك على حساب الاستراتيجية، وتستخدم فيها وسائل إفساد للمجتمع، تستنزفه، وتستقطب شرائحه، وترهق قدراته، وتجمد إمكاناته ومسيرته وتتجمد عند حالة توازن اللاتوازن، حتى يسقط الوطن برمته من فرط الإعياء والإجهاد وتتبعثر الدولة ويتفكك المجتمع.معركة الإحالة إلى اللجنة التشريعية كمدخل لحرب الاستجواب انتهت، وكل من الأطراف المعنية، سمو الرئيس ونائبه ومؤيديهما ومعارضيهما، قد خسر شيئاً وقد كسب شيئاً، إلا أن الحرب لما تضع أوزارها بعد، فهي معركة تلد أخرى، لن تتوقف إلا بإعادة المنطق إلى طبيعة الصراع، وإرجاعه إلى أصوله، وتحديده في إطار القانون المتعارف عليه، أو ربما برحيل سمو الرئيس ونائبه، والبدء في صياغة علاقات قوة جديدة، يكون فيها فساد الأمكنة والذمم أقل، والقدرة على رسم أمل لمستقبل مشرق ومستقر أكبر وأقرب إلى الحقيقة.
محليات
تحليل سياسي: استجواب الفهد... معركة تلد أخرى... والسياسة لا دين لها
04-06-2011