عندما تعيد إدارة أوباما فتح سفارتها المغلقة منذ فترة طويلة في دمشق وتعلن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن الأسد رجل «إصلاحي»، يصعب أن نعتبره حاكماً وحشياً بعد بضعة أسابيع

Ad

لا شك أن رحيل معمر القذافي هو أمر إيجابي، حتى لو كانت طريقة قتله بربرية، لكن ماذا تعملنا من تلك المغامرة المؤسفة في عام 2011، لا سيما أن البعض يؤيد تنفيذ التحرك نفسه ضد سورية وإيران الآن؟ عملياً، لم نتعلم الكثير! 1- سهولة التعامل مع بلد صغير: اعتُبر قصف ليبيا جهداً مثالياً لتحرير شعب مقموع من حكم طاغية، غير أن القرار بالتحرك كان يرتكز أساساً على افتراضات واقعية، أبرزها أن ليبيا بلد صغير وضعيف وأن استهداف القذافي سيكون سهلاً على عكس العراق وصدام حسين أو سورية وبشار الأسد. لن نكرر التجربة الليبية في سورية، لكن لا يعني ذلك أن الأسد ليس طاغية أو أن شعبه لا يُعامَل بوحشية، بل إن التدخل العسكري في سورية الأكبر حجماً والأكثر تقلباً لن يكون بالسهولة نفسها. لا داعي لتبرير العمليات التي تختار الأهداف السهلة، بل تكمن المشكلة الأساسية في حجم النفاق الذي يشوب المواقف الدولية، وتحديداً عندما يدعي الغرب أن العملية الليبية تعكس المُثل العليا التي تحتّم دعم التحرير الديمقراطي المنهجي من الطغاة. عند التدقيق بالعمليات التي نُفذت في العراق مقابل تلك التي حصلت في ليبيا، يتبين لنا أن الفرق لم يكن يتعلق بالناحية الأخلاقية بل بالسهولة النسبية التي اتسمت بها العملية الليبية لإسقاط الدكتاتور مقابل صعوبة البقاء في العراق لنشر الديمقراطية. 2- الأمم المتحدة: منذ الحرب الكورية، شهدت ليبيا أول حرب تحصل فيها الإدارة الأميركية على إذن معين من الأمم المتحدة وليس من الكونغرس الأميركي. ما يثير الدهشة هو أن التجربة الليبية تُستعمل في أغلب الأحيان للتأكيد على سياسة التعاون الدولي التي تتبعها الأمم المتحدة، لكن العكس صحيح على الأرجح. فالعملية الليبية لا تقدم أي دروس بارزة وهي لن تتكرر أصلاً. لقد صدر قراران لفرض منطقة حظر جوي ولتقديم مساعدات إنسانية وانتهى الأمر عند هذا الحد. سرعان ما تبين أن القرارين غير قابلين للتنفيذ في ظل الظروف القائمة ميدانياً. مع ذلك، عمد الغربيون إلى الإشادة بالأمم المتحدة سريعاً مع أنهم انتهكوا قراراتها عندما بدؤوا حملة القصف. سارعت روسيا إلى الاعتراض وكانت أحداث ليبيا السبب الأساسي الذي دفعها إلى التردد أخيراً في دعم أي قرار ضد إيران أو سورية، وفي معظم الحالات، لا تُصدر الأمم المتحدة قرارات لإسقاط حاكم ظالم وغالباً ما يفتقر الإذن الذي تمنحه إلى الفاعلية. كل من يؤيد قرارات التدخل التي تصدرها الأمم المتحدة يعود لينتقدها في نهاية المطاف، ما يسيء إلى الأمم المتحدة أكثر من الاعتراف صراحةً بمحدودية صلاحيات هذه المنظمة. لو كان النفاق أمراً محتوماً ولو أدرك البعض وجود فرصة واحدة فقط للتعامل بهذه الازدواجية في الأمم المتحدة، لكان من الأفضل خداع روسيا والصين في الشأن السوري أو الإيراني بدل الشأن الليبي. 3- القيادة من وراء الكواليس؟ نظرياً، ساهم توفير الموارد اللازمة لإسقاط القذافي، تزامناً مع إنكار السعي إلى إسقاطه، في بروز بعض المعطيات الغريبة. لقد سُرّ حلفاء الأميركيين في حلف الأطلسي لأنهم ظهروا بصورة اللاعبين العسكريين النافذين بينما فضّل الأميركيون تجنب تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة. يصعب أن نتجاهل قاعدة طبيعية تفترض أن أقوى جيش هو الذي يحظى في العادة بأقوى نفوذ بعد الحرب. لكن لم يمارس الأميركيون ذلك النفوذ، وقد تعلموا الآن أن مصالحهم ربما تختلف عن مصالح الدول التي قادوها من وراء الكواليس. كان الأميركيون يملكون مصالح محدودة في مجال النفط والغاز في ليبيا، أقله مقارنةً بمصالح فرنسا وبريطانيا. تماماً كما حصل في قضية لوكيربي، لا تكون المصالح الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب شبيهة بمصالح الحلفاء دوماً. نتيجةً لذلك، ساد ارتباك شديد محلياً وخارجياً. حتى هذا اليوم، لا يعرف الرأي العام الأميركي حجم الإمدادات والطائرات التي وفرتها الولايات المتحدة للمساهمة في إسقاط القذافي، كما أنه لا يفهم منطق استعمال الحلفاء في منظمة حلف الأطلسي كغطاء للأميركيين. على صعيد آخر، ليست عبارة "القيادة من وراء الكواليس" مجرد استعارة متناقضة، بل لا يمكن تطبيقها مجدداً في سورية أو إيران. باختصار، لا يمكن أن ينجح إرسال القوات الجوية الخارجية إلى الحلفاء إلا إذا كان العدو لا يملك أي قوة جوية. 4- إرساء الديمقراطية: بعد حربَي أفغانستان والعراق، تراجع عدد الأشخاص الذين يؤيدون نشر قوات ميدانية في المجتمعات القبلية بعد إسقاط الحاكم الدكتاتوري المحلي. من المبرر إذن ألا يكون إرساء "الديمقراطية الليبية" يستحق التضحية بحياة ولو جندي أميركي واحد. لقد ساد قانون صارم ومؤسف على مر العقود السبعة الأخيرة بناءً على التجارب الأميركية مع أفغانستان، وألمانيا، وغرينادا، والعراق، وإيطاليا، واليابان، وبنما، وصربيا، وكوريا الجنوبية: إذا أرادت الولايات المتحدة فرض نفوذها على أي حكومة ناشئة بعد زمن الحرب، فيجب أن تنشر قواتها ميدانياً بعد توقف إطلاق النار.  صحيح أن الأميركيين أسقطوا ميلوسيفيتش من الحكم، لكن سرعان ما أدركوا ضرورة الانتشار ميدانياً ومراقبة الأحداث اللاحقة. في حال الامتناع عن ذلك، غالباً ما تكون النتيجة مشابهة أو أسوأ من الحكم السابق. لقد غرقت ليبيا في الفوضى القبلية، وأعمال القتل العشوائية التي تطاول الأفارقة السود، وتصفية الحسابات مع الموالين للنظام السابق.  حتى الآن، يكمن الفرق الأكبر بين الوضع الراهن وسنوات حكم القذافي في نشوء أعمال العنف وتصاعد وتيرتها واتخاذها طابعاً عفوياً ومفاجئاً بعد أن كانت الأوضاع الماضية مألوفة ومنظمة وحذرة. لم تُطرَح أي خطة تقضي باستعمال قوات حلف الأطلسي لحفظ السلام في ليبيا بعد انتهاء الحرب أو لإضفاء طابع شرعي على الحكومة الانتقالية. بالتالي، من المستبعد أن تنشأ أي حكومة يمكن أن يتحالف معها الغرب أو يمكن أن يعتبرها الشعب إنسانية. 5- حكام دكتاتوريون إصلاحيون؟ من الأفضل الإطاحة بدكتاتور متوحش لا يندم على أفعاله بدل إسقاط دكتاتور يدعي الإصلاح. لا شك أن اختيار التوقيت المناسب هو العامل الأساسي في كل عملية. برزت أسباب وجيهة تبرر التفكير في إسقاط القذافي خلال الأربعين سنة الماضية، ولكن تلك الأسباب لم تكن مقنعة بالقدر نفسه في ربيع عام 2011 لأن الزعيم الليبي كان قد بدأ يتواصل مع أوروبا وكان أبناؤه يميلون إلى اعتماد الأسلوب الغربي وإلى فرض إصلاحات تدريجية. في وضع صدام حسين على الأقل، لم يبرز أي مؤشر على ندمه أو نيته تطبيق الإصلاحات في سنته الأخيرة في الحكم. في المقابل، حرص الغربيون على طمأنة شعوبهم إلى أن القذافي والأسد يسعيان إلى الإصلاح أو تحرير بلدهما؛ لذا لم تكن محاولات إظهارهما بصورة الحكام القمعيين مقنعة جداً. لا مفر من التشكيك بما يحصل عندما يكتب أساتذة جامعة هارفارد أن التغيير قادم إلى ليبيا يوماً ثم يبدأ الغرب بقصف مقر القذافي في اليوم التالي، وعندما تعيد إدارة أوباما فتح سفارتها المغلقة منذ فترة طويلة في دمشق وتعلن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن الأسد رجل "إصلاحي"، يصعب أن نعتبره حاكماً وحشياً بعد بضعة أسابيع. باختصار، تقل الخيارات الفاعلة التي يمكن أن يعتمدها الأميركيون لوقف مساعي إيران النووية أو إسقاط الأسد، ولا يقدم النموذج الليبي تحديداً أي خيار قيّم على الإطلاق.

* مسؤول بارز في مؤسسة هوفر وكاتب رواية "نهاية سبارتا" (The End of Sparta) التي تتناول الحريات القديمة.