ها هو الرئيس السوري يدمر البلد لإثبات صحة ادعاءاته، فهو ينظم حملات من التطهير الطائفي في الأحياء السنّية ويسعى إلى تحويل مساعيه اليائسة للتمسك بالسلطة إلى حرب أهلية بين الشيعة والسنّة.

Ad

الثورة السورية هي أشبه بطفل لا أمّ له، فالمجتمع الدولي الذي لا يتوانى عن التأكيد على دعمه لحقوق الإنسان لا يحرّك ساكناً لحماية تلك الثورة، وقد أباح الإرهابيون التابعون لدولة الأسد حرية قتل المحتجين واغتصابهم وقصفهم والإساءة إلى الأطفال. من أجل استيعاب درجة البربرية في سورية يكفي الإصغاء إلى حمزة فاخر، وهو ناشط مؤيد للديمقراطية ويُعتبر واحداً من أفضل المصادر المطلعة على الجرائم التي تعتم عليها وسائل الإعلام التابعة للنظام، فقال فاخر: "كانت حملات القمع عنيفة لدرجة أن المعتقلين كانوا يتكدسون فوق بعضهم وهم أحياء داخل حاويات الشحن ثم يُرمَون في عمق البحر. الوضع سيئ لدرجة أنهم اخترعوا طريقة جديدة للتعذيب في حلب، حيث يتم تسخين صفيحة معدنية ثم يُجبَر المعتقل على الوقوف عليها إلى أن يعترف، لنتخيل فظاعة هذا المشهد وما يصيب المعتقلين قبل أن يسقطوا جثثاً فوق الصفيحة المعدنية. الوضع سيئ جداً لدرجة أن جميع المتظاهرين اختاروا اللجوء إلى المقاومة المسلحة، فهم يعرفون أن الأمر بات يتعلق الآن بالحفاظ على حياتهم ولم تعد القضية مرتبطة بمطالب الحرية، فلا بد من التشديد على هذه الفكرة: يناضل السوريون الآن للبقاء على قيد الحياة بدل كسب الحرية". اليوم، تمثل جامعة الدول العربية "المجتمع الدولي" في المنطقة ويمكن وصف أدائها بالمشين على أقل تقدير، فمن المعروف أن رئيس بعثة المراقبين إلى سورية هو الجنرال محمد أحمد مصطفى الدابي، وهو مناصر للرئيس السوداني عمر البشير المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، فالدابي ليس مجرد مناصر عادي، بل يتهمه خصومه بأنه مسؤول شخصياً عن المجازر في دارفور. كانت مهمته في سورية مخيبة للآمال بمعنى الكلمة، يبرع الدابي في الترويج لأوهام تبث الراحة في نفوس السامعين، فقد نجح في تصوير مدينة حمص المُعذّبة (حيث ترتكب ميليشيات الأسد مذابح ضد المسلمين السنّة) على أنها بلدة عادية لا تشهد أي أحداث تثير القلق، وفي مشهد أقرب إلى الاستعراضات الدرامية السخيفة، صرح الدابي أمام مراسلي وكالة "رويترز" بعدم وجود ما يثير الرعب في حمص، مع أن المراقبين المرافقين له لم يتمكنوا من دخول أحد الأحياء (حيث يظن السكان أن عملاء أجهزة الدولة كانوا يحتجزون عدداً من المعتقلين) لأن صوت إطلاق النار كان يخيم على الأجواء. يختصر تجاهل صوت إطلاق النار ردة فعل العالم تجاه الأعمال الوحشية الحاصلة في سورية حتى اليوم، كما يحصل في العادة، يتعهد القادة دوماً بعدم السماح بارتكاب مجازر أخرى بعد وقوع إبادة جماعية معينة، ولكنهم لا يحركون ساكناً لمنع الإبادة التالية. لكن قد لا تدوم لامبالاتهم لفترة طويلة، فبسبب وحشية أعمال العنف التي يرتكبها النظام، انتقل المجلس الوطني السوري من الدعوة إلى العصيان المدني و"المقاومة السلبية" إلى التوسل للحصول على مساعدة خارجية، عبر المعارض السوري عمار عبدالحميد عن هذا الوضع قائلاً: "في معركة الدبابات ضد المدنيين العزل، لا تكون الفرص متكافئة بأي شكل ووحدها الشجاعة تساهم في صمود الناس حتى الآن"، على ما يبدو، يريد الشارع السوري الآن تحرك طائرات حلف الأطلسي (الناتو) في الأجواء السورية. تخلت تركيا من جهتها عن حليفها الأسد الذي أصبح عدوها الآن وبدأت تتحدث عن تغيير النظام، ودعا وزير الخارجية الفرنسي قوات حلف الأطلسي إلى حماية العاملين في بعثات الإغاثة، كذلك، يحاول قادة المعارضة السورية ضمناً إقناع مؤيديهم في إدارة أوباما بدعم الثورة. لكن دوافع القوى الخارجية ليست إنسانية حصراً، شرح مايكل ويس، شخصية ملفتة تستحق الإشادة فعلاً، سبب تحرك تلك القوى بأفضل طريقة، ويس هو رجل مناضل ومفكر فصيح من نيويورك، يبغض الحكام الاستبداديين والمدافعين عنهم بغض النظر عن انتماءاتهم، انتهى به الأمر في مكاتب لندن التابعة لجمعية هنري جاكسون، فتقوم هذه المنظمة الاستراتيجية بأبحاث جدية ومهمة ولكنها لا تكون دوماً رائدة في مجال مواكبة الجدل السياسي العالمي. أعدّ ويس تقريراً عن كيفية اتحاد القوات الجوية الأميركية والبريطانية والفرنسية مع القوات الميدانية التركية لإنشاء ملجأ آمن في شمال سورية، حيث تستطيع القوات المنشقة عن الجيش السوري بناء قوة مقاتلة. درس المسؤولون في حلف الأطلسي هذا الخيار، بينما اعتبر رئيس المجلس الوطني السوري برهان غليون أن هذا التقرير هو وثيقة أساسية لفهم طريقة تنفيذ التدخل العسكري في سورية بطريقة مسؤولة. عندما سُئل ويس عن السبب الذي قد يدفع العالم المُثقَل بالأعباء إلى تحمل عناء مساعدة السوريين، اقتبس كلامه من كتاب "ابن أوروبا" (Child of Europe) للمؤلف تشيسلاف ميلوش، وهو أحد أعظم الشعراء في الحقبة الفاشية والشيوعية، فقال ميلوش إن مؤيدي الأنظمة الدكتاتورية يجب أن يتعلموا كيفية التنبؤ بالحرب بدقة بالغة قبل أن يدمروا البلد لتحقيق توقعاتهم. غير أن الكلام المعسول عن الشرق الأوسط الذي يُعتبر "عالماً عربياً" موحداً أو جزءاً من "العالم الإسلامي" الموحد يتجاهل الانقسامات الحقيقية، هذه المنطقة هي عبارة عن فوضى قائمة على المصالح الطائفية والعرقية.  في سورية، اجتمعت هذه العوامل لإنتاج دولة فصل عنصري، حيث تسيطر الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد على الشرطة والجيش وأجهزة الاستخبارات، فكانت الأسابيع الأولى من الثورة غير طائفية، فقد رفض المجلس الوطني السوري أن يصبح سلاحاً طائفياً بيد الأغلبية السنّية. من أجل هزم المعارضة والصمود في الحكم، على الأسد أن يستعمل بدوره ورقة الانقسام الطائفي، ويجب أن يحشد دعم قبيلته من خلال إقناع الأقليات العلوية والمسيحية بضرورة الاتحاد والاصطفاف خلفه أو مواجهة الإبادة الجماعية، وحرصاً منه على تأكيد توقعاته، ها هو يدمر البلد لإثبات صحة ادعاءاته، فهو ينظم حملات من التطهير الطائفي في الأحياء السنّية ويسعى إلى تحويل مساعيه اليائسة للتمسك بالسلطة إلى حرب أهلية بين الشيعة والسنّة. كما حصل في الحرب الأهلية الإسبانية، عندما أوصت بريطانيا وفرنسا بعدم التدخل فيما أرسل هتلر وموسوليني الأسلحة والرجال لمساعدة الفاشيين، لا يحرك "المجتمع الدولي" ساكناً لمساعدة سورية اليوم بينما توفد إيران و"حزب الله" قوات شيعية لذبح المدنيين. وعلى عكس الدعاية التي تروّج لها الدولة السورية، لم يصل الإرهابيون السُّنة المنتمون إلى "القاعدة" إلى سورية بعد لمحاربة النظام، لكن من المستبعد أن يبقوا بعيدين عن الصراع لفترة طويلة. تترافق عملية التدخل لوقف أي حرب إقليمية مع مخاطر هائلة، لكن يجب الاعتراف أيضاً بعواقب الرضوخ للأسد.  نتيجةً لذلك، ستقوم دولة فاشلة وسينشأ معقل للإرهاب على طرف المتوسط، وسيتابع المرتزقة الأجانب والجماعات العلوية شبه العسكرية ذبح المواطنين العزل، وقد يتسع نطاق الصراع ليشمل العراق وإسرائيل وتركيا والأردن. تذكرنا الأنباء المسربة التي تكسر حاجز الرقابة السورية يومياً بأن كل من يصر على التفرج على الوضع هو شريك في الجرائم الحاصلة.